الرأي

ردّاً على العقيد الحوري: التمساح لا يُهَدّد بالغرق

عمر الدقير

الموقف المتوقع من أي قائد أو جندي، في جيشٍ مهني يعرف دوره في فضاء دولة القانون ومؤسسات الحكم المدني، هو ما عبّر عنه رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي، الجنرال مارك ألسكندر ميلي، بقوله: “أومِن إيماناً قوياً بخضوع الجيش للسلطة المدنية كمبدأ أساسي”، وذلك خلال مثوله أمام مجلس الشيوخ لمناقشة ملابسات انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان وما رافق تلك العملية من خسائر مادية ومعنوية.

يبدو أن رئيس تحرير صحيفة “القوات المسلحة”- العقيد الركن إبراهيم الحوري- لم يسمع بهذا المبدأ الأساسي وليس مهيئاً لاستيعابه كونه لم يُنَشّأ عليه، بل لعله لا يجد حرجاً في أن يفارق قوة المنطق ويحتكم لمنطق القوة ويطأ بحذائه العسكري رأس أي مدني يجهر بمعارضته لسلطة الانقلاب أو يتحدث عن إصلاح المؤسسة العسكرية.

نفهم أن تكون للمؤسسة العسكرية صحيفة لأغراض التوجيه المعنوي والمسائل الفنية، ولكن أن تتحول هذه الصحيفة إلى منبر يُستخدم للزجِّ باسم المؤسسة العسكرية في الصراع السياسي، فذلك أمرٌ غير مقبول وهو ما يؤكد على ضرورة الإصلاح لهذه المؤسسة.

وفي خضم الحملة الممنهجة التي تحاول تصوير حراك المدنيين المقاوم للانقلاب بأنه ضد المؤسسة العسكرية، لا نملُّ القول بأن المؤسسة العسكرية هي مؤسسة وطنية مملوكة للشعب السوداني وهي محل تقديره واحترامه، ويجب أن تبقى كذلك، والدعوة لإصلاحها لا تعني موقفاً عدائياً تجاهها بل تنطلق من الحرص عليها وتصبُّ في مصلحتها.. ومن أهم عناصر هذا الدعوة خروجها من معادلة السياسة وشؤون الحكم وتحريم أي نشاط حزبي داخلها، كما لا بد من إنهاء حالة تعدد الجيوش لصالح وجود جيش قومي مهني واحد يحتكر شرعية حمل السلاح في دولة سيادة حكم القانون، وتتضمن الدعوة الإصلاح المؤسسي، بما في ذلك احترام مبدأ ولاية الحكومة التنفيذية على المؤسسات الاقتصادية العامة وتوفير ما هو مطلوب لتحديث القوات المسلحة من حيث التسليح واللوجستيات والتدريب وغير ذلك من المطلوبات الفنية لتكون في كامل الجاهزية للدفاع عن الوطن في مواجهة أي تهديد خارجي.

لقد حوّل العقيد الحوري صحيفة “القوات المسلحة” إلى منبرٍ سياسي وتحوّل هو إلى ناطق رسمي باسم حزب سياسي بلا هدىً ولا كتابٍ منير، فقد ظل من منبره هذا يخوض في شؤون الحكم والسياسة ويقود حملاتٍ مستمرة ضد أية جهة سياسية- أو في المجتمع المدني العريض- تعارض سلطة الانقلاب أو تتحدث عن إصلاح المؤسسة العسكرية أسوةً بمؤسسات الدولة الأخرى، ويستعين في حملاته “الدفتردارية” هذه بمخزونٍ وافرٍ من مفردات السب والشتائم، كان آخرها ما جاء في مقاليه الأخيرَيْن المنشورَيْن بموقع صحيفة “القوات المسلحة”، حيث أطلق على المدنيين المعارضين للانقلاب أوصافاً من شاكلة: “العمالة والارتزاق”، “أحقر القوم”، “المراهقة السياسية”، “الدمامل”، “خواء الفكر”، “أبواق”، “ضعاف النفوس”.. يحدث ذلك دون أن تتدخل قيادته وتأمرعمره بالكفِّ عن هذا التجاوز لقانون القوات المسلحة ومهنيتها أو- على الأقل- الكف عن هذا الانحدار في مخاطبة الآخرين والتجافي عن أدب الحوار، بل الراجح أن قيادته تضمر ارتياحاً لهذا السلوك إن لم يكن بتوجيهٍ منها.

في مقاله قبل الأخير استدعى العقيد الحوري أطروحةً خادعة تزدهر في عهود الحكم المستبد، وهي حشر الشعب بين ثنائية الاستبداد والفوضى.. فإمّا الاستبداد باعتباره مانعاً للفوضى وضامناً للاستقرار، وإمّا التغيير المصحوب بالفوضى والخراب. وقد تبدو هذه الأطروحة في ظاهرها حقاً، لكنها في الجوهر تريد جملةً من الأباطيل تنتهي بمصادرة المستقبل والتصالح مع الاستبداد والخضوع لشروطه البئيسة بدعوى عدم التفريط في الاستقرار، في حين أن الاستقرار الحقيقي يعني سيادة الحرية والعدالة وكلِّ شروط الوجود الكريم.

أما في مقاله الأخير فقد وصل العقيد مرحلة التهديد بساعة الصفر.. وإذا كانت ساعة الصفر في القاموس العسكري تشير للحظة بداية تنفيذ عملية عسكرية، ولمّا كان انقلاب 25 أكتوبر لا يزال نافذاً، فلن تكون ساعة الصفر الموعودة هذه سوى لحظة إذاعة بيانٍ أولٍ جديد يبكي على حال الوطن ويذم المدنيين لتسببهم في ذلك ويؤكد “الاستجابة لصوت الشعب”، ومن ثم تتوالى المراسيم السلطوية وفي مقدمتها تشكيل حكومة “دمية”- لا إرادة لها أمام سلطة الانقلاب- وزيادة حدة تضييق حيز الحراك المدني بتصعيد الإجراءات القمعية التقليدية التي تترافق مع أي بيان انقلابي مثل الاعتقالات التحفظية التعسفية وتوجيه البندقية إلى صدور من يخرجون إلى ساحات التظاهر السلمي، ونسي سيادة العقيد أن “التمساح لا يُهَدّد بالغرق”، فالشعب السوداني يعيش فعلياً واقع الانقلاب الذي لا تزال أبواب زنازينه مشرعة للاعتقال التعسفي ولم تتوقف بنادقه عن زَخِّ الرصاص وإطلاق قنابل الغاز في مواجهة المقاومين السلميين، وفات عليه أنه قد استقرّ في يقين هؤلاء المقاومين أن تحقيق شروط الحياة الكريمة يبدأ بزوال الانقلاب، وطي صفحة الانقلابات للأبد، وتعبيد درب التحول المدني الديمقراطي لمباشرة مهمة البناء الوطني، وهم على هذا الدرب سائرون لا يثنيهم عن ذلك تهديدٌ ولا وعيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى