دولُ الشرق الأوسط ينبغي أن تتعلم من التاريخ وتدعم القوى الديمقراطية في السودان
نصرالدين عبدالباري*- ومعتصم علي
لقد كان مَثَل الحكومة الانتقالية السودانية، التي كُوِّنت في أعقاب اسقاط نظام الرئيس السابق عمر البشير، كمَثَلِ طائرة أقلعتْ بعسر فاستوت لتنطلق عندما تم ضربها واسقاطها. إن الحكومة الانتقالية، تحت قيادة رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك، كافحت من أجل التصدي لتحديات أمنية واقتصادية متنوعة، تمثلت في الصراعات القبلية، وتعدد الجيوش، وانخراط الجيش في الصناعات غير العسكرية، وضعف الحوكمة وسيادة حكم القانون، وعجز النظام التنظيمي للاقتصاد. كان السودانيون، الذي خرجوا إلى الشوارع مُتُحَدِّين بشجاعة دكتاتورية وحشية استمرت ثلاثين عاماً، يتوقعون تحسناً فورياً في الوضع الاقتصادي بعد انهيار وسقوط نظام البشير. لكن الأوضاع الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب التهريب الواسع للوقود والسلع الأخرى وعدم استقرار سعر الصرف، استمرت في التدهور. في ظل تلك الظروف، انخفضت قيمة الجنيه السوداني أكثر، وظل نقص الوقود في كافة أرجاء البلاد مريعاً، تماماً كما كان في ظل حكم البشير.
بعد قيام حكومة حمدوك بتوحيد سعر الصرف في مارس 2021 ورفع الدعم عن الوقود في يونيو من ذلك العام، تغيَّر الوضع كثيراً. إذ اختفت صفوف الوقود، ولمدى سبعة أشهر على التوالي من مارس إلى أكتوبر، استقر الجنيه السوداني وحافظ على قوته في وجه الدولار الأمريكي—وذلك لأول مرة منذ انفصال جنوب السودان في العام 2011.
بتشجيع من هذه الإصلاحات المحلية، بدأ البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوربي تقديم مساعدات مالية للسودان. وأصبح من المتوقع أن تستلم البلاد أكثر من أربعة مليار دولار بنهاية السنة المالية 2022. كان من شأن هذا الاستقرار السياسي والاقتصادي أن يشجع استثمارات القطاع الخاص بالبلاد. ومن ناحية أخرى، كانت جهود الإصلاح الدستوري والعدالة الانتقالية، وكذلك خطط البنيات التحتية لوضعِ حدٍ للانقطاع المزمن للتيار الكهربائي وزيادة إنتاج النفط، قد وصلت أطواراً متقدمة.
لقد أنهى الانقلاب العسكري، الذي وقع في الخامس والعشرين من أكتوبر من العام 2021، التقدم الذي كان السودانُ يحرزه ببطءٍ. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا خاطر الجيش بتعريض البلاد للرقابة والعزلة الدوليتين بالانقلاب على الحكومة الانتقالية واسقاطها؟ لربما اعتقد قادةُ الانقلاب بأنهم سوف يتلقون دعماً من دول شرق أوسطية يُعتقد أنها تربطهم بها علاقات لصيقة—وهي على وجه التحديد المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإسرائيل، ومصر. لذلك فإن دور هذه الدول محوريٌ في استمرار تقويض أو استعادة عملية التحول الديمقراطي في السودان.
وفي هذا الصدد، فإن أهم دولتين شرق أوسطيتين، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، قد اتخذتا إلى الآن موقفاً سبب بكل تأكيد إحباطاً لزعماء الانقلاب في السودان. إذ لم تقدم أي من الدولتين دعماً مالياً معلناً للتعويض عن فقدان دعم المؤسسات المالية الدولية ودعم الشركاء الغربيين كالولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا.
بدلاً عن ذلك، انضمت الدولتان إلى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الأول من نوفمبر من العام 2021 ل “تؤكد على وقوفها إلى جانب شعب السودان، وتؤكد على أهمية دعم تطلعاته نحو إقامة دولة ديمقراطية وسلمية.” وقد دعا البيان “…إلى الاستعادة الكاملة والفورية للحكومة والمؤسسات الانتقالية بقيادة مدنية.” فضلاً عن ذلك، انضمت المملكة السعودية إلى الولايات المتحدة لتيسير اجتماع بين قادة الانقلاب والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، وهي تحالف من المنظمات والجماعات السياسية والمدنية التي قادت الاحتجاجات التي أدت إلى سقوط البشير. وكان تحالف الحرية والتغيير قد رفض قبل ذلك الانضمام إلى ما يسمى بمفاوضات الآلية الثلاثية، التي تيسرها الأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيقاد)، وذلك بسبب مشاركة قوى سياسية كانت قد شاركت في حكومة البشير الأخيرة، مما قوَّض من مصداقية تلك المفاوضات، دون تقويض مصداقية العملية برمتها.
على الرغم من ذلك، فإن المجتمع الدولي ينبغي عليه مراقبة دول الشرق الأوسط التي ربما تَوَقَّع الانقلابيون منها دعماً. إذ وردت تقارير في العشرين من يونيو بأن الإمارات العربية المتحدة، بالتعاون مع رجل أعمال سوداني، سوف تستثمر ستة مليار دولار لبناء ميناء في السودان وتزويد البنك المركزي بثلاثمائة مليون دولار كوديعة، مما يمكن أن يخفف الضغط الذي يواجه قادة الانقلاب. لكن شركة موانئ أبو ظبي نفت ببيان مكتوب توقيع اتفاقيات لبناءِ ميناءٍ في السودان، لكنها بينت بأن هنالك مناقشات أولية مع السلطات السودانية. إن مجرد وجود مثل هذه المناقشات هو أمرٌ مثير للقلق، لأنها، إذا نجحت، سوف تقوِّي من موقف العسكريين في أي مفاوضات مع القوى المدنية.
إن الموقف الذي لا زال أكثر غموضاً بخصوص الانقلاب هو موقف إسرائيل، إذ فسرت القوى الديمقراطية في السودان فشل إسرائيل في إدانة الانقلاب بأنه دعم ضمني للحكومة العسكرية ومؤشر على نيتها للمضي قدماً في مسار التطبيع، الذي بدأ في عهد الحكومة الانتقالية في العام 2020. وبينما يُعتقد بأن إسرائيل لازالت محافظة على اتصالاتها مع القادة العسكريين السودانيين، إلا أنه ليس هنالك ما يشير إلى أنها تعمل بنشاط على إكمال عملية التطبيع في الظروف الحالية. وهذا يتسق مع موقف الولايات المتحدة، التي حثت على ايقاف عملية التطبيع إلى أن يعود السودان إلى مسار التحول الديمقراطي بقيادة مدنية.
في هذه الأثناء، يبقى موقف مصر غامضاً للغاية، على الرغم من أن دعمها من غير المرجح أن يحدث فارقاً كبيراً، لأن مصر نفسها متورطة في أزمة اقتصادية لم يسبق لها مثيل، لا يسمح لها بتقديم أي مساعدات مالية للانقلابيين في السودان. علاوة على ذلك، فإن تأثير مصر الجيوسياسي قد تضعضع، وذلك في مقابل صعود المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، وتركيا، التي باتت الآن تلعب أدواراً إقليمية متزايدة. بناءً على ذلك، من الأهمية بمكان أن تُنَسِق دول الترويكا—التي دعمت باتساق الحكم الديمقراطي المدني في السودان—جهودها بشكل مشترك مع هذه الدول. وبهذا الخصوص، على دول الترويكا اشراك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في جهودها لاستعادة مسار الانتقال الديمقراطي. وعليها كذلك تشجيع إسرائيل، التي ما زالت تحتفظ باتصالاتها مع قادة السودان العسكريين، على الرغم من عدم وجود علاقات دبلوماسية، على تعزيز رسائل المجتمع الدولي بأن تقويض ديمقراطية السودان أمر لا يمكن قبوله وبأنه ينبغي اتخاذ خطوات عملية لتأسيس حكومة مدنية كاملة، ومسنودة شعبياً.
إن التنسيق بين الترويكا وهذه الدول الثلاثة ينبغي أن يركز على ما لا ينبغي القيام به، وكذلك على ما ينبغي القيام به لمساعدة السودانيين على استعادة مسار التحول الديمقراطي. فالإمارات العربية المتحدة يجب أن تمتنع عن الانخراط في أي نقاشات بشأن استثمارات محتملة مع حكومةِ أمرٍ واقعٍ يقاومها باستمرار وإصرار السواد الأعظم من الشعب السوداني. وينبغي أن توقف المناقشات التي تجريها مع السلطات السودانية لبناءِ ميناءٍ في السودان. بدلاً عن ذلك، على الإمارات العربية المتحدة أن تنضم إلى الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية في جهودهما لإنهاء الأزمة السياسية الحالية، وهو خطوة مهمة لاستقرار وتنمية السودان، ومهمة كذلك لخلق بيئة مناسبة للاستثمار الأجنبي المستدام.
إن دول الترويكا، بانضمام المملكة العربية السعودية وربما الإمارات العربية المتحدة، يجب أن تبذل جهوداً لإحياء وتعزيز الآلية الثلاثية، وذلك بتعزيز مشاركة أكبر للمبعوثين الخاصين وممثلين لهذه الدول. ويمكن بدلاً عن ذلك أن تكون هنالك مبادرة دولية جديدة لتسهيل التفاوض بين الأطراف السودانية. وفيما يتعلق بإسرائيل، فإن قرارها بعدم إكمال التطبيع يستحق الإشادة وينبغي تشجيعه بقوة.
إن إحياء وتعزيز الآلية الثلاثية أو إنشاء بديلاً لها أمرٌ مهم للغاية بعد إعلان قيادة الجيش مؤخراً بأنها لن تكون جزءاً من أي حوار مع المدنيين، وأنها سوف تسلم السلطة للمدنيين فقط إذا توصلوا إلى توافق. إن الغاية من هذا الموقف هي تقويض المساعي الإقليمية والدولية الجارية لتيسير المفاوضات بين القوى الديمقراطية التي تناضل من أجل الحرية والحكم المدني، من ناحية، والعسكريين، الذي قوَّضوا الانتقال، من ناحية أخرى. إنه يشير إلى أن العسكريين لا ينوون التخلي عن السلطة، لأن التوصل إلى توافق في الظروف الراهنة أمرٌ مستحيل. ومن المرجح أن تستخدم القيادة العسكرية هذه الاستحالة كمبرر لتكوين حكومة تتحكم هي عليها. ولربما، في سيناريو مرجح آخر، تنظم انتخابات، البلادُ غير مستعدة لها، وهي ممارسة شائعة لشرعنة الأمر الواقع.
يبيِّن تاريخ السودان أن الشعب دائماً منتصر في معركته ضد الدكتاتوريين من أجل الحرية والديمقراطية. وعلى دول الشرق الأوسط، التي ترغب في تأسيس علاقات سياسية مع السودان، كإسرائيل، أو تلك الراغبة في الاستثمار، كالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، الوقوف بجانب القوى المدنية المناصرة للديمقراطية. وعلى أقل تقدير، عليها ألا تعرقل النضال المستمر للشعب السوداني لهزيمة الانقلاب والعودة إلى التحول الديمقراطي.
* نصرالدين عبدالباري يعمل باحثاً رفيعاً ببرامج الشرق الأوسط بالمجلس الأطلسي.
** معتصم علي يعمل مستشاراً قانونياً بمركز راؤول ويلينبيرج لحقوق الأنسان، ويقيم في واشنطن، دي سي.
*إن النسخة الإنجليزية الأصلية من هذا المقال نُشرت بموقع المجلس الأطلسي بتاريخ 23 أغسطس، 2022.