دلالة السؤال “ماهي الفلسفة؟” في الفكر الحديث والمعاصر …….. عبد الحق منصف
عبد الحق منصف …….
لعل أهم ميزة للفكر الفلسفي المعاصر في تفكيره في الفلسفة، أنه لا يعتبر الفلسفة مجرد خطاب، بل هي أكثر من ذلك: إنها تفكير ومؤسسة(1). وبما هي كذلك، فهي تفتح على تاريخ. وليس المقصود من هذا القول المطابقة بين الفلسفة وبين التاريخ أو بينها وبين وجهة نظر معينة حول التاريخ (تاريخ الفكر والممارسة) على طريقة “هيجل” أو “ماركس” أو غيرها. كما لا نقصد من ذلك أيضا اعتبار الفلسفة مدخلا لفهم التاريخ أو المؤسسات السياسية وغيرها، بل ما نقصده حقا هو تأكيد فهم معين للعلاقة بين التفلسف في الغرب على الخصوص، وبين تاريخية الغرب. فكل الكتابات والدراسات الفلسفية في الفكر الحديث والمعاصر حاولت -وهي تتساءل عن الفلسفة- أن تنفتح بتساؤلها ذلك(2)على خيوط خفية تشد الفلسفة في الغرب إلى تواريخ عديدة كتاريخ الدولة أو تاريخ العقل والمعنى أو تاريخ الاستعارة أو تاريخ السؤال ذاته(3).
ولعل قارئ الكتابات الحديثة والمعاصرة حول الفلسفة منذ “هوسرل” حتى “جيل دولوز” يكتشف عنصرا هاما وخفيا يشد تلك الكتابات والدراسات ببعضها البعض، هو وحدة المبدإ: ليست الفلسفة مسألة بيداغوجية خالصة، ولا يفتح التساؤل عن الفلسفة (الذي طرح في الغالب في شكل السؤال: “ماهي الفلسفة”؟، والذي تكرر تقريبا من “كانط” حتى “دولوز” و”ديريدا”) على خطاب بيداغوجي تعليمي حول التفلسف، بل يستدعي عودة جذرية إلى طريقة في السؤال لم تعد تجد وظيفتها ولا مكانها داخل الحداثة الفكرية الغربية، طريقة متجذرة في تاريخ الغرب وتقتضي من المفكر في الفلسفة أن يخرج عن أفق الحداثة لكي يعيش داخل فضاء قبل-حداثي هو فضاء المدينة اليونانية. تلك هي طريقة السؤال عن الماهية (من هنا السؤال: ماهي الفلسفة”؟). لذلك ارتبط فعل السؤال: ماهي الفلسفة؟، بالتفكير في وضعية السؤال وعلاقته بأصول التفلسف، وضرورة الوعي بقيمة السؤال قبل الاتجاه نحو الإجابة عنه بشكل متسرع انطلاقا من استحضار تاريخ ما عن الفلسفات وعن الفلاسفة، أو نظرة بانورامية عن القضايا والإشكاليات والمحاور الكبرى للتفلسف. فلم تكن العودة إلى السؤال: “ماهي الفلسفة”؟ راجعة في الواقع إلى هواجس تعليمية حتى حينما كان هذا السؤال يطرح داخل المؤسسات المدرسية أو الجامعية، بل هو سؤال “أساسي”. وكل من يطرحه يعي جيدا أنه ملزم بالعودة إلى جذور التفلسف. هذه العودة هي ما جعلت الفكر المعاصر يحذر كثيرا من مفاهيم وأدوات البحث السائدة في العلوم الإنسانية واللسانية حين التفكير في الفلسفة.
وإذا كان تدريس الفلسفة في المؤسسات المدرسية والجامعية في الغرب يفرض بدءا تحويل الفلسفة إلى مادة تعليمية وربطها بمؤسسات تربوية وغايات وأهداف ومناهج وتقنيات للتقويم وما إلى ذلك، فإن حماية الفكر الفلسفي وضمان استمراره يتجاوزان حدود التدريس والدفاع عن الفلسفة وتعلميها (تلك هي مهمة GREPHفي فرنسا)، لأنها مسألة تمس ما يمكن أن نسميه “التاريخية” و”الإنسية”: تاريخية الغرب وإنسية بلغة “هوسرل” الذي يربط لأول مرة الفكر الفلسفي الحديث بين التفلسف وبين تاريخ الإنسية الأوروبية(4). ولا نقصد بالتاريخية مجرد التاريخ بمعناه الشائع (تاريخ المجتمع ومؤسساته أو تاريخ الفكر)، بل ما يجعل ذلك التاريخ ممكنا (أي ما يجعل المؤسسات الاجتماعية والأخلاقية والفكر وعموما الثقافة الاجتماعية ممكنة في لحظة ما أو في لحظات عديدة من التاريخ). وإن ما نريد معالجته في هذه الدراسة، هو أن السؤال عن الفلسفة في الفكر المعاصر، ليس مجرد سؤال بيداغوجي الهدف منه التعريف بالفلسفة وتزويد المتعلم بإشكاليات الفلسفة وقضاياها وتقنيات الكتابة الفلسفية، بل هو سؤال “جذري”. (بالمعنى الذي يعطيه “ماير” M. Meyerللسؤال الجذري في كتابه De la problèmatologie(5)، أي سؤال مؤسس لا يقود مباشرة إلى إجابة أو إجابات فلسفية ما، بل يدفع إلى التفكير في الإجابة وفي ماهية السؤال بالذات. لذلك، لم يكن استفهاما عاديا (كل استفهام عادي يتطلب إجابة مباشرة في شكل منطوق أو خطاب يثبت أو ينفي، يصف أو يؤول… إلخ)، بل هو تساؤل يدفع بالذات المفكرة إلى مزيد من السؤال، ويقودها إلى تأمل السؤال قبل البحث عن إلغائه، أي عن الإجابة عنه. ومن ناحية ثالثة هو سؤال جذري لأنه يعود (كما رأينا سابقا) بالذات المتسائلة إلى جذور التفلسف في الغرب ويدفعها إلى التخلي عن سذاجتها والتفكير في تاريخية الغرب بكل مؤسساته السياسية والثقافية التي هي أساسا مؤسسات العقل. لقد كانت ميزة “هيكل” -بعد “كانط”- أنه ربط بين التفلسف وبين العقل ومؤسساته في الغرب. وربما هذا ما جعل “جاك ديريدا” -أكثر من غيره-، وهو الناقد المقوض لآليات التفلسف الخطابية والاستدلالية، يعتبر الفلسفة مؤسسة، ودفعه إلى الحديث عن “الجسد المدرس” وهو يحلل هذه المؤسسة وعلاقتها بالجامعة.
يستمد السؤال: “ماهي الفلسفة؟” أهميته الفلسفية من كونه أولا سؤالا عن الماهية، والسؤال عن الماهية سؤال أولي. فهو الذي يحدد منطلق ومنتهى التفكير الفلسفي، وبالخصوص الأنطولوجيا. السؤال عن الماهية أيضا سؤال تراثي يوناني تأسيس: فهو الذي أسس مفهوم “العلم” في تاريخ الغرب. كان الدافع إلى طرحه الفراغ المعرفي الذي تركه السؤال السقراطي (السؤال السقراطي التوليدي ولد سؤالا آخر حول الماهية، والتهكم السقراطي دفع إلى ولادة الأنطولوجيا مع “أفلاطون”). السؤال عن الماهية يولد عادة في ظروف الأزمة: مع “سقراط-أفلاطون” طرح في ظل أزمة قيم يونانية، وجود فراغ نظري بصدد الممارسة (السياسية والأخلاقية والعملية). لقد كان السؤال عن الماهية عند اليونان يعري الفراغ ويدفع إلى الرؤية Théoria، رؤية الفراغ، لكن يدفع إلى ما هو أهم، إلى رؤية الحقيقة في امتلائها الكوني. الرؤية هي “النظرية”. والمثال Idéaهو ما يجعل الحقيقة مرئية. وليست الحقيقة حقيقية إلا لأنها مرئية. وإذن، تلازم السؤال عن الماهية عند اليونان بإعادة النظر في كل شيء: في الحقيقة السائدة وحدود العلوم المتداولة وفي النظام السياسي وقوانينه.
السؤال عن الماهية طرح أيضا مع “كانط” لحظة أزمة العقل التي اعتبرها أزمة للفلسفة (=للميتافيزيقيا) وللماهية أيضا. وهذا ما سيدفعه إلى إعادة النظر في نظام المعرفة ومكانة العقل وضرورة الميتافيزيقا. مع “كانط”، سيتحول السؤال عن الماهية إلى نقد العقل ودعوة إلى إعادة تربيته بشكل يستجيب لضرورات الحداثة.
السؤال عن الماهية سينقل الفكر -مع “هيكل”- من ضرورة النقد إلى ضرورة التاريخ. غير أن “هيكل” سيطرحه داخل أزمة تخص العقل، لا بمعنى الملكة، بل بمعنى نظام العقل في القرن الثامن عشر: العقل السياسي والأخلاقي والعقل المنتج فنيا. مع “هيجل” سيصبح السؤال عن الماهية سؤالا عن إمكانية نظم العقل. وأخيرا، سيتلازم السؤل عن الماهية (= عن الحقيقة) مع “هايدجر” مع إعادة النظر في مفهوم التفلسف والأنطولوجيا وتاريخ الميتافيزيقا والتفكير في السؤال بالذات.
ينبثق السؤال عن الماهية إذن داخل أزمة ما. وها هو السؤال عن “ماهية الفلسفة” ينبثق من جديد داخل الفكر الحديث (مع كانط وهيكل وهوسرل وهايدجر على الخصوص) والمعاصر (مع برغسون وإيريك فايل وبول ريكور وديريدا ودولوز وغيرهم) داخل أزمة حضارية عاشها الغرب منذ القرن التاسع عشر، خصوصا:
أ – بعد أن تحول المذهب الماركسي إلى نظام سياسي واجتماعي وأصبحت ديكتاتوريا الطبقة العاملة ديكتاتوريا مؤسسة الدولة،
ب – وبعد ظهور الحربين العالميتين وانفجار الآلة العسكرية،
جـ – وبعد انهيار قيم العقل الشمولية كما صاغتها الثورة الفرنسية في القرن18م.
والحال، لم يكتمل نظام العقل (كما تنبأ بذلك “هيغل”). اختل نظام العقل السياسي (الدولة) والأخلاقي (الواجب) والفني (القيم الجمالية). لم يتطابق التاريخ والعقل (هيكل) ولم يتطابق التاريخ مع نضالات الطبقة العاملة (ماركس)، بل أصبح التاريخ شاهدا على العنف واللاعقل، أصبح التاريخ الحديث أكثر التواريخ شاهدا على تفاقم ظواهر العنف السياسي (عنف الدولة) والعرقي (الاقليات، استعمار القوميات الأوروبية لغيرها من شعوب العالم الثالث…) والأخلاقي (موت الأخلاق، النزعة العدمية، وضعيات التطرف الديني في المجتمعات على وجه التقريب…).
ليست العودة إلى السؤال: “ماهي الفلسفة؟” في الفكر الحديث والمعاصر مجرد اشتعال فكري أو إعادة تأسيس للفلسفة في ظل شروط اجتماعية وبيداغوجية حديثة، بل يرتبط بأزمة قيم مست نظام العقل في المجتمع الغربي(6). والواقع أن أهمية السؤال: “ماهي الفلسفة؟” لا ترتبط بكونه يطرح التفلسف مجردا، بل بكونه يثير مسألة الفلسفة بوصفها جزءا من تاريخ الغرب، إنها تمس أساس هذا التاريخ وهو العقل. لقد بنى الغرب مفهومه عن ذاته داخل الفلسفة منذ فجر تكوينه. وحينما نقول “عن ذاته”، فإنما نقصد عن مؤسساته السياسية (وأولها الدولة) وعن مبادئه وغاياته الأخلاقية، وعن معايير الحقيقي واللاحقيقي (أي عن نظام الدولة والأخلاق والمعرفة). لقد كانت الفلسفة دائما تفكر في هذه الأنظمة الثلاثة التي اعتبرت في جوهرها -داخل الفكر الفلسفي الغربي- نظاما متكاملا للعقل. على أساس ذلك، كان السؤال “ماهي الفلسفة؟” سؤالا يمس ذلك الفكر الغربي، وعبر ذلك، يمس نظام العقل ومؤسساته فيه. وكان كل نقد لـ”الفلسفة” في الواقع نقدا للعقل يجد جذوره داخل الحداثة منذ “كانط” حتى “جاك ديريدا” و”جيل دولوز” مرورا بـ”نتشه” و”فرويد” و”هوسرل” و”هايدجر” وغيرهم كثير. وسنحاول في هذه الدراسة عرض بعض هذه المواقف من خلال دراسة بعض مؤلفاتهم الأساسية التي طرحت مسألة “ماهي الفلسفة” بشكل مباشر على الخصوص.
1 – جاك ديريدا: السؤال عن الفلسفة والحق في التفلسف:
يشكل السؤال عن الفلسفة -في جل كتابات “ديريدا-(7)جزءا من عملية انخراط الفكر داخل سؤال أعم هو السؤال عن الذات والآخر، سؤال عن علاقة الذات المفكرة بهوامشها… لكنه أيضا خطوة أولى داخل استراتيجية نظرية أهم أهدافها اكتشاف ما ينقال بشكل خفي داخل الخطاب الفلسفي وما يعرض ذاته بين النصوص داخل البياضات. وإذا كانت ميزة الفلسفة هي أنها تكشف وتعرض أمام الأنظار وضعيات قابلة للتفكير، فإنها أيضا تخفي كخطاب -وتلك مفارقتها أيضا- خلفياتها وعمليات إنتاج مفاهيمها وصورها واستعاراتها… إلخ. لذلك وجب على “التقويض” أن يكتشف هذه العمليات والخلفيات. لكن ليست الفلسفة -رغم كل ما قيل- مجرد خطاب يوجد لأجل التقويض والنقل، بل هي أيضا مؤسسة وجزء من تاريخ فهم الغرب لذاته. ويتأسس هذا الفهم داخل مؤسسات للمعرفة كالجامعة والمدرسة والوظائف التربوية المرتبطة بهما. من هنا ارتبطت استراتيجية النقد عند “ديريدا” بتحليل علاقة الفلسفة بالقانون والمؤسسة والجامعة والتفكير في البنيات القانونية والأخلاقية والأنطروبولوجيتة التي تدعم الفلسفة وتدريسها وإنتاجها وتاريخ هذا التدريس وهذا الإنتاج.
وإذا كان من غير الممكن التفلسف دون تكوين سابق (في مجال تاريخ الفلسفة)، ودون تعليم ومؤسسات فلسفية، ودون اللغة والمعرفة اللتين تصرفهما تلك المؤسسات، فلا يمكن أيضا التفكير في الفلسفة خارج “المؤسسة الفلسفية” وفي استقلال عن “الجسد المدرس”(8). وربما ما كان يشد انتباه “ديريدا” في اشتغاله بمسألة الفلسفة في كتاباته، هو السؤال: “ما هو الفلسفي؟”: Qu’est ce que le philosophiqueوليس: “ماهي الفلسفة؟”. ويرجع ذلك في نظره إلى أن الأول سؤال استراتيجي يوجد داخل كل القرارات المؤسسية التي تمس الفيلسوف والحق في التفلسف، ويرتبط بإصدار المنظومات الفلسفية داخل المؤسسات الجامعية وغيرها من مؤسسات المعرفة، كما يمس أيضا معايير التفلسف التي تمكن في لحظة ما من معرفة ما إذا كانت فكرة ما أو جملة ما أو تجربة ما أو عملية ما فلسفية. إن السؤال: ” ما هو الفلسفي؟” ينتمي إلى الفلسفة ويخرج عنها في آن واحد. من هنا يسمح للذات التي تطرحه بأن تتحرك بحرية كبيرة ما بين الفلسفة وخارج – الفلسفة، داخل المكان الفلسفي وخارجه(9)، ويمكنها من أن تلجأ إلى لغات مختلفة وهي تطرحه وتحاول البحث فيه (لغة فلسفية وأخرى غير فلسفية أي تاريخية، سوسيولوجية، سيكولوجية…).
أما السؤال: “ماهي الفلسفة؟”، فهو سؤال فلسفي بامتياز لماذا؟ لأنه سؤال يشد الذات (أو الخطاب) التي تطرحه إلى داخل الفلسفة، إلى مكان فلسفي هو المكان اليوناني حيث انبثقت لأول مرة لغة السؤال عن الماهية وظهر اللوغوص الذي يسكنه هاجس الماهية. إنه السؤال الفلسفي الوحيد الذي تظل صياغته وإمكانية البحث فيه فلسفيتين. فهو سؤال عن الماهية أولا، وهو بوصفه كذلك، يعطي لمن يطرحه حقا خاصا هو الحق في التفلسف. لا يمكن أن نطرح سؤالا عن الماهية دون أن نتفلسف أو أن ننخرط في تقليد فلسفي معين له جذوره في تاريخ الفلسفة. يقول “دريردا”: “ينتمي السؤال: “ما هو…؟” -حينما يطرح بصدد علم من العلوم أو فن من الفنون- إلى الفلسفة برأي الفلاسفة. وهو ينتمي إليها بحق. هنا يكمن حق الفلسفة. وبما أن الفلسفة تمتلك -حسب اعتقادها- هذا الحق وحدها دون غيرها، فهو امتياز لها أيضا، بل إنها تصبح نفسها هذا الامتياز بالذات. فهي لن تكتسب هذا الامتياز من الخارج، بل تكون تلك القدرة التي تمنح ذاتها بذاتها ذلك الامتياز(10).
هناك شكلان أو طريقان للإجابة عن السؤال: “ماهي الفلسفة؟” حسب “ديريدا”: -الأول يركز على “ماهية الفلسفة”- والثاني يركز على وظيفتها. وقد ارتبط البحث عن ماهية الفلسفة في التراث الفلسفي بالبحث عن ارتباطات الفلسفة بالتاريخ أو بالأصول أو المعنى الأصلي أو بجذور ما للتفلسف اعتبرت حدثا أساسيا في تاريخ الفكر… إلخ. وقد حاول هذا الشكل الأول أن يفكر في الفلسفة من زاوية الفلسفة ذاتها، أي من منطلق كينونتها كفلسفة منذ انبثاقها كحدث فكري وتجربة داخل لغة ما خاصة (هي لغة الإغريق) طرحت بشكل أصيل مسألة الكينونة(11). لكن الشكل الثاني المقابل يبحث عن وظيفة الفلسفة، فما يهمه، ليس أصل ما للفلسفة داخل الفكر أو اللغة أو المعنى، بل هو “الحقيقة البراغماتية” للفلسفة: ما الذي مارسته الفلسفة؟ وما الذي نمارسه حاليا باسم الفلسفة؟ ما الذي نستفيده منها كخطاب وأفق للحوار وكفكر ونقد للتجربة والممارسات الاجتماعية والسياسية والمؤسسية؟ إن ما يهم هذا الشكل الثاني هو الأثر الفعلي للفلسفة ووظيفتها النقدية لا أصولها المنسية أو الخفية(12). وغالبا ما يخضع هذا الشكل من الإجابة إلى معطيات العلوم الإنسانية ويوظف تصوراتها حول المعرفة والتفكير وعلاقاتهعما بالممارسة الإنسانية.
غير أن الاختلاف بين هذين الشكلين في الإجابة عن السؤال: “ماهي الفلسفة؟” في الفكر الحديث لا ينفي ترابطهما حسب “ديريدا”. فالموقف الثاني البراغماتي رغم رفضه فكرة الماهية، ينطلق من تصور خاص أو معنى ما للتفلسف على أساسه يتساءل عن وظيفة الفلسفة. كما أن الموقف الأول -عند هايدجر على الخصوص- يفترض من جهة حد ثاما أو تسلسلا بين أحداث (أي تاريخا) داخله يتطابق التفكير الفلسفي -عند انبثاقه كحدث متميز- بفعل أو تجربة خاصة للغة كانت ممكنة داخل ثقافة معينة (هي اليونانية على الخصوص). وعليه، رغم توجهه نحو ماهية الفلسفة، فإنه ظل يستند إلى لحظة ما داخل الزمان أو التاريخ، وداخل اللغة، أصبح فيها ممكنا ظهور الفلسفة وشغلها وضعية ما داخل الفكر واللغة والثقافة بشكل عام(13).
لا يرفض ديريدا الموقف الأول باسم الثاني أو العكس، ويظهر أنه يحاول أن يفهم الفلسفة داخل الفكر الحديث عبر الأسئلة التي طرحت بصددها ومن خلال شكل الإجابات التي قدمت حولها والمفاهيم الأساسية التي اعتمدت في ذلك. لقد كانت قصديته هي أن يفهم ما يدعم هذين الموقفين معا تجاه الفلسفة وما يجعل منهما ضروريين في الفكر الحديث. فالأساسي ليس هو بناء موقف منطقي متكامل حول الفلسفة (ماهيتها أو وظيفتها) بل فهم خصوصية الفلسفة والوعي بأن هذه الخصوصية مفارقة. فالفلسفة ليس لها وضع ثابت داخل نظام المعرفة الاجتماعية لأنها تمس بأسئلتها كل مكونات هذا النظام. كما أنها -بوصفها مادة تعليمية- تختلف عن المواد الأخرى لكونها توجد داخل كل فروع وشعب الثقافة المدرسية. وهي أخيرا نمط من التفكير يصعب -حسب ديريدا- وصفه بالعلمي أو الديني أو الأدبي. لكنه نمط ملزم بالانفتاح على باقي المواد وأنماط التفكير الأخرى دون أن يذوب فيها(14). فالفلسفة لها هويتها المؤسسية. وينبغي أن نحافظ لها على هذه الهوية (المفارقة) وأن نفهمها جيدا لكي نثبت الحق في الفلسفة والتفلسف. غير أن ما يفهمه ديريدا من عبارة “الهوية المؤسسية للفلسفة” ليس مجرد ماهية فكرية مجردة، بل كونها تجربة أو حدثا يتم داخل اللغة والثقافة ونظام المعرفة. هذا الحدث يصبح مؤسسة، أي خطابا ونتاجا له تاريخ يربطه بممارسة خاصة باللغة والكتابة والمعرفة، علاقة الفلسفة-المؤسسة بالتاريخ واللغة هي ما يجعلها تشكل ذاكرة -أي مكتبة- لها تصوراتها للحقيقة والمنهج والمعرفة واللغة والقيم والإنسان بشكل عام. ومادامت الفلسفة في الغرب مؤسسة، فإنها -مثلها مثل كل مؤسسة أخرى- تمتلك مكانا رمزيا ما (يمكن أن نكتشفه داخلها) انطلاقا منه تبرر ذاتها ومشروعيتها. قد يكون هذا المكان الرمزي (الذي ينضاف إلى المكان الجغرافي والسياسي) جزءا من الماضي أو الحاضر، بكنه يبقى قابلا لأن نقيم فيه ونفهم انطلاقا منه الفلسفة كحدث (أي كانبثاق تجربة للفكر واللغة داخل الثقافة حسب تصور هايدجر) وكوظيفة (كفعل داخل اللغة والممارسة). ولا يمكن لأي تساؤل حول الفلسفة في الفكر الحديث أن يتجاهل هذا المكان الرمزي رغم أنه ليس وحده الذي يبرر كينونة الفلسفة، بل توجد أمكنة كثيرة تحيط بالفلسفة يمكن اكتشافها، أو حسب تعبير هايدجر، يمكن سلوك طرق شتى نحوها كالمكان السياسي والتربوي… وليس اللغة (= النصوص) إلا مكانا أوليا -رغم كونه أساسيا- من خلاله ننفتح على باقي الأمكنة الأخرى. من هنا لم يعد ممكنا فهم الفلسفة انطلاقا من مقولة الخطاب وحدها، بل يجب استحضار كل الرهانات والأمكنة والتصورات التي تحيط بالتفلسف.
داخل هذا الإطار لم تكن العودة إلى السؤال: ماهي الفلسفة؟ لأجل التبرير والدفاع (التبرير الفلسفة). فعودة الفلسفة الحديثة إلى هذا السؤال ينبثق من حقها في السؤال أولا، وفي طرح سؤالها الخاص بها ثانيا (السؤال حول الماهية). وهي لا تطرح السؤال: ماهي الفلسفة؟ لأجل إجابة ما مقصودة في ذاتها كإجابة، بل تطرحه لأنها كانت دائما وأبدا فكر السؤال وسؤال الفكر أيضا. لذلك، كان السؤال: ماهي الفلسفة؟، يعلن على مستوى الخطاب (أي على مستوى الفعل اللغوي للسؤال) انتماء الذات المتسائلة حاليا للفلسفة أولا، وللمجموعة التي اختارت السؤال كتجربة(15).
والحال أنه مهما بلغ تعدد الخطابات التي حاولت الإجابة عن السؤال: “ماهي الفلسفة؟”، فإنه لا يفعل سوى أن يستدرج المجموعة المتسائلة بكاملها إلى حوار حول الفلسفة (هذا الحوار لن يتم حسب ديريدا -في فرنسا على الخصوص- خارج “الكريف” –G.R.E.PH- أو “السيف” –C.I.PH- الكوليج الدولي للفلسفة)، لكنه حوار مفتوح يدعمه دائما الحق في التفلسف والفلسفة. غير أن هذا الحق لا يعود إلى افتراض امتلاك ماهية ما عن الفلسفة أو خطاب يكون وحده حقيقيا حولها، بل يعود إلى إمكانية التساؤل وإلى إمكانية الانتماء إلى الفلسفة، أي إلى تراث تاريخي يمتد حتى اليونان، ويعود أخيرا إلى إمكانية الانتماء إلى المجموعة التي تطرح السؤال دائما وتمارس بواسطته حرية التفكير داخل حوار مفتوح ومتعدد الأطراف حول الفلسفة.
لكن حينما يستعمل “ديريدا” عبارة: “الحق في الفلسفة”، فلا عني ذلك أن الفلسفة تعيش وضعية تجاهل أو رفض أو منع جوهرية. فالفلسفة متجذرة في تاريخ الغرب ولا يمكن نسيانها بسهولة. يطرح “ديريدا” مبدأ “الحق في التفلسف” -مع آخرين- داخل أفق يريد منه أن يكون مجالا يجعل من السؤال الموجه إلى الفلسفة (من داخل الفلسفة ومما يحيط بها من علوم ومعارف) تجربة للانتماء إليها وإلى الفكر والحوار، تجدد فيه الذات المتسائلة مفاهيمها وتتحرر من التصورات الطبيعية حول الفلسفة والمعرفة بشكل عام، التي ترسبت منذ الحداثة على الخصوص داخل الجامعات والمعاهد ومؤسسات التعليم (في فرنسا خصيصا). الحق في الفلسفة هو إذن حق في الانفتاح على فكر بدون حدود ولا آفاق، أو بلغة “جيل دولوز”، هو تجربة في ولوج صداقة عميقة مع الفكر خارج ترسبات الحداثة الضيقة حول الفلسفة.
من يدعم “الحق في الفلسفة”؟(16). من يدعم حق الفلسفة في الوجود داخل المجتمع المعاصر؟ إنها الديموقراطية والدولة التي تؤمن -حسب “ديريدا”- الشروط التقنية والمهنية والمؤسسية والتربوية للحق في الفلسفة دون أن تكون الفلسفة ذاعنة لهذه الدولة أو تلك ومبررة لهذه الديموقراطية أو تلك، ليست الفلسفة مسؤولة إلا أمام الفكر في وجودها رغم كونها مرتبطة بالدولة في ذلك الوجود(17). تلك هي خلاصة تفكير “ديريدا” في السؤال: “ماهي الفلسفة؟”، وفي مسألة الحق في الفلسفة الذي يدعم كل سؤال موجه إلى الفلسفة أو منبثق عنها. كيف تم التفكير في الفلسفة من منطلق هذا “الحق في الفلسفة” الذي أعلنه “ديريدا”؟ هذا ما سنحاول اكتشافه من خلال دراسة بعض النماذج الفلسفية الأساسية في الفكر الحديث والمعاصر أهمها على الخصوص “هوسرل” وهايدجر و”جيل دولوز” و”إيريك فايل”…
2 – هوسرل: السؤال عن الفلسفة ومسألة “التاريخية”:
يرتبط السؤال عند ماهية الفلسفة عن “هوسرل” بالبحث عن ما يسميه الإنسية الأوروبية L’humanité européenneوتاريخية هذه الإنسية. غير أنه لا يفكر في هذه الإنسية من زاوية غايتها العامة وقيمتها الأخلاقية ومبادئها السياسية… إلخ، بل من زاوية تاريخيتها التي يربطها بنشأة التفلسف والتحول الحذري الذي أحدثته هذه النشأة في ظهور وتطور إنسية جديدة لها وجهها الثقافي ونمط تفكيرها الخاص. غير أن “هوسرل” لا يقف عند هذا الحد، بل يحاول من جهة ثانية أن يربط تفكيره في ماهية الفلسفة بما يسميه “أزمة الإنسية الأوروبية” كما حاول تشخيصها في نهاية القرن 19م وبداية هذا القرن. وبالفعل، إن ما يميز تفكير “هوسرل” في “ماهية الفلسفة” ووظيفتها -خصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين- (وهي فترة عصيبة جدا في تاريخ أوروبا)، هو نزعته التشخيصية التي ارتبطت بدعوة إلى العودة إلى الأصول: أصول الإنسية الأوروبية الثقافية التي تمتد جذورها إلى ما قبل الحداثة العلمية، وبالخصوص قبل ظهور الديكارتية (رغم أن “هوسرل” يعتبر الديكارتية هي أساس الفينومينولوجيا في صيغتها الحديثة(18).
حقا، لقد تميزت أغلب كتابات “هوسرل” حول الفلسفة والفينومينولوجيا بطابعها النقدي والتأسيس: فقد دعا إلى إعادة تأسيس الفلسفة كعلم دقيق. وقد انصبت هذه الدعوة على ضرورة العودة إلى الأشياء والماهيات، وإلى الوعي بوصفه قصدية تنفتح على تلك الأشياء لتدرك ماهياتها الخالصة. كما دعا إلى ضرورة بناء منهج فلسفي دقيق بواسطته تؤمن من الفلسفة كينونتها كعلم، في مواجهة الهيمنة الفكرية الكبيرة التي مارستها علوم الطبيعة على العقول وامتداداتها الفلسفية التي تجلت على الخصوص في النّزعات الطبيعانية والوضعية والمادية… ومع ذلك، ورغم أهمية كل كتابات “هوسرل” حول الفلسفة(19)، وحول مشروع الفينومينولوجيا بوصفها علما، فإن محاضرته التي ألقاها سنة 1935 بـ Kulturbundفي “فيينا” بعنوان: “أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة”(20)تقدم بحق نموذجا فلسفيا لفهم العلاقة بين مسألة الفلسفة وبين تاريخية الغرب (كما يشخصها فيلسوف ما)، خصوصا وأنها تأتي في زمن أرغم فيه “هوسرل” على الصمت (كان قد أحيل على التقاعد سنة 1928، ثم أرغم على الابتعاد عن كل نشاط داخل التعليم العمومي منذ سنة 1929(21)، زمن تداعي قيم العقلانية والنزعة الإنسانية بفعل الحرب وتنامي العنف السياسي في أوروبا وخارجها… تلك هي الخلفية التاريخية التي تعطي قيمة فلسفية كبرى لـ”أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة” في رأينا.
لنبتدئ بإبراز الإطار التشخيصي الذي يطرح فيه “هوسرل” السؤال: ما هي الفلسفة؟”. يعتبر “هوسرل” أن كلمة “فلسفة” اسم آخر لـ”العلم الكوني”، أي العلم الذي يتعلق بكل شيء، عند اليونان وبعدهم، وهو الذي توزع -بعد التطور- إلى علوم فرعية (ص:37). لكن ما يهمنا ليس هو مطابقة “هوسرل” بين الفلسفة وبين العلم، وعدم فصله بين تاريخ الفلسفة وبين تاريخ العلم (عكس ما تفعله النزعات الوضعية الحديثة)، بل ما يثيرنا حقا هو الإطار التشخيصي الذي داخله يفكر “هوسرل” في مسألة الفلسفة وتعريفها ومكانتها داخل الحضارة الغربية. فما يميز هذه الحضارة في نهاية القرن 19م والعقود الأولى من القرن 20 هو تنامي القوميات في أوروبا وتحولها إلى قوى عسكرية وصناعية يهدد بعضها بعضا… ولم يكن لهذه القوميات الأوروبية أن تتحول إلى قوى صناعية وعسكرية لولا التقدم العلمي والتكنولوجي الحديث وسيادة النزعات الطبيعانية والوضعية.. هذه السيادة لا يعتبرها “هوسرل” مصدر قوة مادية فقط داخل أوروبا، بل هي أيضا خطر حقيقي على ما يسميه “الإنسية الأوروبية” التي تتجاوز تلك القوميات وصراعاتها. إن ما يوحد تلك القوميات هو وحدة الانتماء إلى إنسية لها وجهها الحضاري الذي تمتد جذوره حتى الإغريق القديمة. ولا يمكن التفكير في الدلالات الأنطولوجية العميقة لهذا الانتماء وتلك الوحدة الخاصة بالإنسية الأوروبية إلا بواسطة الفلسفة وداخلها. فالفلسفة هي بالذات التراث الفكري الذي يعطي لأوروبا بكاملها بعدها الروحي لذلك، نفهم لماذا دعا “هوسرل” في كل مؤلفاته الفلسفية إلى ضرورة الانتباه إلى الفكر وقوة الوعي في مواجهة السيكولوجيا الطبيعية والنزعات الطبيعية السائدة في القرنين 18 و19 على الخصوص.
كيف يحاول “هوسرل” -داخل هذا السياق- إثبات ضرورة الفلسفة وضرورة العودة إلى الفكر؟ إذا ركزت علوم الطبيعة بكاملها على “الحياة” بمفهومها المادي والفيزيولوجي، فإنها لم تستنفذ -مع ذلك- كل دلالات “الحياة” خصوصا الأنطولوجية التي ترتبط بالنشاط الفكري للمجموعات البشرية القومية والمجتمعات الكبرى ذات القوميات المتعددة. هذه الحياة الفكرية هي مصدر الإبداعات الثقافية التي توحد تاريخ تلك المجتمعات، وهي بالذات موضوع ما يسميه “هوسرل” -تابعا في ذلك الرومانسية الألمانية و”دلتاي” Diltheyعلى الخصوص- بـ”علوم الفكر” Sciences de l’esprit.
وكما أن الحياة الطبيعية تصادف حالات مرض وحالات صحة (لننتبه إلى هذه اللغة التشخيصية)، كذلك الحياة الفكرية للشعوب تعرف حالات مماثلة أيضا. وإذا استطاعت المجتمعات أن تتوصل إلى “طب علمي” لمعالجة حالات المرض العضوية، فكيف نفسر عدم توصل المجتمعات الأوروبية في القرن 19 وبداية هذا القرن -على مستوى الحياة الفكرية- إلى “طب علمي” لمعالجة القوميات الأوروبية المريضة؟ إن أوروبا بكاملها -في رأي “هوسرل”- تعاني من أزمة. ولا يرجع ذلك إلى عدم وجود فن طبيعي للعلاج، إذ يوجد العديد من التصورات الخاصة بالعلاج والإصلاح تختلف من حيث درجة سذاجتها أو خصوبتها. لكن السؤال الذي يقلق “هوسرل” حقا هو: لماذا تفشل علوم الفكر -رغم تطورها الهائل(22)- في لعب نفس الدور الحضاري الذي تلعبه علوم الطبيعة؟ هناك إجابة جاهزة عن هذا السؤال تقول بأن علوم الطبيعة تستمد قوتها من كونها لا تعتمد بحوثا أمبريقية قائمة على الوصف والحدس، بل تقوم كل إنجازاتها على الدقة الرياضية وإمكانيات التجريب الدقيقة (ص:17)، بخلاف علوم الفكر التي لم ترق بعد إلى مستوى علوم الطبيعة بسبب تعقد ظواهرها. فـ”الحياة النفسية داخل كل إنسان -مأخوذا بشكل فردي- تتأسس على النظام الجسدي” (ص:19). والأمر ذاته ينطبق على المجموعة الإنسانية. وإذا كان ممكنا أن تخضع الظواهر الإنسانية إلى تفسيرات دقيقة من الناحية الواقعية، على غرار الظواهر الطبيعية، فيجب ألا يهتم العالم بالفكر في انعزاله، بل ينبغي عليه النزول إلى لأساس الجسدي (المادي) واستعمال تفسيرات فيزيائية-كيميائية دقيقة. وهذا يظل أمرا ممكنا لولا التعقيدات والصعوبات التي تظهر جينما يتعلق الأمر بدراسة الجوانب السيكو-فيزيائية للإنسان والجماعة البشرية. فإذا كانت الطبيعة تشكل وحدها كلا مغلقا على ذاته، وبالتالي يمكن دراستها كالطبيعة دراسة نسقية ومتكاملة، فلا يمكن دراسة الحياة الفكرية للإنسان والمجموعة البشرية دون ربطها بالقاعدة الطبيعية التي تقوم عليها رغم صعوبات هذه الدراسة.
وخلاصة هذا الموقف السائد، هي -حسب “هوسرل”- أن كل محاولة لدراسة حياة الفكر في انعزاله عن أساسه الفيزيائي الطبيعي ستكون مجرد دراسة وصفية لن تصل إلى مستوى التفسير العلمي الدقيق. غير أن هذا الموقف السائد يستند إلى أحكام مشؤومة -حسب “هوسرل”-، وهو يساهم -إلى جانب عوامل أخرى- في “المرض الأوروبي” الحديث، ناهيك عن كونه يشكل عائقا أمام وجود علوم خاصة بالحياة الفكرية للشعوب مستقلة عن علوم الطبيعة. أكيد أن المؤرخ الذي يدرس الفكر والثقافة الروحية للشعوب يصطدم دائما بالطبيعة الفيزيائية. فلا يمكن مثلا دراسة تاريخ الإغريق القديمة دون التركيز على الجغرافيا الفيزيائية لليونان. كما لا يمكن دراسة هندستها دون مراعاة القوام المادي للبناء والمعمار(23). لكن المشكل الذي يثيره “هوسرل” هو الفهم المسبق الذي يعطى لمفهوم “الطبيعة الفيزيائية”. فما يفهمه منه رجل العلم الحديث (الذي يرفض تاريخ الفلسفة من منطلق النزعة الوضعية) هو المادة بمعناها الشيْئي المتحجر. والواقع أن الطبيعة مفهوم غني. ولكي يثبت “هوسرل” هذا الغنى المفاهيمي والفلسفي يعود إلى الفلسفة وبالخصوص الفلسفة اليونانية. وهي ليست عودة عادية، بل ذات دلالة إذ بواسطتها يثبت الغنى والضرورة اللذين يمثلهما التراث الفلسفي بالنسبة للمفكر الحديث رغم تقدم علوم الطبيعة. داخل هذه العودة تبرز مسألة ماهي الفلسفة.
ما يفهمه اليونان من “الفيزيس” Physisمخالف للفهم الوضعي الحديث. إنها تعني لديهم العالم الحي المحيط بحياة الإنسان، العالم الذي يراه الإنسان ويلمسه ويتأمله، أي العالم الذي لا يظهر للإنسان كما هو في شيئيته، بل الذي يحسه ويتمثله. فالعالم التاريخي للإغريق -عند “هوسرل”- ليس هو العالم الموضوعي -بمعناه الحديث-، بل هو تمثلهم الذي يقيمونه عن العالم بما في ذلك كل الوقائع التي تجد تبرير وجودها داخله في نظرهم كالآلهة والشياطين وما إلى ذلك. وهكذا، لا يجد مفهوم “العالم الحي المحيط” Umuveltمكانه كمفهوم إلا داخل مجال الفكر والثقافة لا داخل علوم الطبيعة(24). وإذا كانت “الطبيعة” داخل علوم الطبيعة تفهم كوجود موضوعي مستقل، فإنها من وجهة نظر مفهوم “العالم الحي المحيط” ليست معطى خارجيا عن تمثلات الفكر المختلفة، بل هي جزء من البناءات الفكرية والثقافية للإنسان. من هنا دعوة “هوسرل” إلى ضرورة إقامة علوم خاصة بالفكر لا تخضع للتفسيرات المادية والطبيعانية. لكن، ما الذي يفسر طغيان هذه التفسيرات في الفكر الحديث؟ إنه نسيان الحداثة الفكرية لتراث الغرب الذي هو جزء من تاريخيته. وهو الفلسفة. داخل هذا الإطار التشخيصي يطرح “هوسرل” السؤال: ما الفلسفة؟ ويحاول البحث عن أهمية الفلسفة ومكانتها داخل ثقافة الغرب.
غير أن السؤال: “ما الفلسفة؟” كما يطرحه “هوسرل” ليس تعليميا وليس الغرض منه تلقين معلومات تاريخية حول الفلسفة. فسياق الخطاب هنا ليس تعليميا. إنه محاضرة ألقاها في ظرفية تاريخية وشخصية خاصة أهمها توقف “هوسرل” عن كل نشاط تعليمي. إن السياق الذي يطرح فيه “هوسرل” مسألة الفلسفة سياق تشخيصي: فهو يشخص أزمة ما ويحاول تفسيرها – واقتراح آفاق التفكير فيها. غير أن ما يهمنا في هذا التشخيص هو الربط بين الفلسفة وبي الإنسية الغربية التي تأسست مع الإغريق، وتاريخية هذه الإنسية(25). فتاريخية الإنسية الأوروبية تعود إلى أصل حضاري مؤسس للتاريخية. ولا يحضر الإغريق في هذه التاريخية كمثال، بل كإطار قبلي للتفكير في أزمة الحضارة الغربية كما يشخصها “هوسرل”، إطار انطلاقا منه يشخص وضعية مرض ويستمد أدوات التفكير فيها. اليونان القديمة هي منبع علوم الغرب -طبيعية كانت أو فكرية-، وهي أيضا منبع الفلسفة التي هي الوجه الحضاري للغرب بأكمله، وهي أساس التفكير في وحدة تاريخية الإنسية الأوروبية. وما يقصده “هوسرل” بوحدة التاريخية “وحدة حياة ووحدة فعل ووحدة إبداع نظام فكري يمثل الأهداف والمصالح والهواجس والمجهودات والأعمال المنبثقة عن قصدية ما، والمؤسسات والتنظيمات التي داخلها يعمل الأفراد في إطار مجتمعات متعددة ومختلفة عن بعضها البعض، وداخل أسر وأعاق وقوميات مرتبطة فيما بينها داخليا ارتباطا فكريا ومجتمعة كلها داخل وحدة شكل فكري معين(26).
تشكل ثقافة الإغريق مبدأ فريدا في تاريخ الإنسية الأوروبية لأنها تمنح هذه الإنسية عناصر اوعيها بذاتها. الإغريق القديمة هي مكان ولادة أوروبا. و”هوسرل” لا يفكر في هذا المكان بأدوات الجغرافيا المادية فقط، بل يفكر فيه بوصفه “مكانا فكريا” لولادة تمثل جديد للعالم كان هو الفلسفة. ما الفلسفة في هذا الإطار؟
الفلسفة هي العلم الكلي المحيط بكل شيء، ومع أنها تفرعت إلى علوم جزئية، فإنها ظلت المصدر الذي يعطي للقوميات الأوروبية غاياتها الكونية. يقول “هوسرل”: تدل كلمتا فلسفة وعلم على صنف خاص من الإبداعات الثقافية. وإن الحركة التاريخية التي أخذن شكلا يتجاوز حدود القوميات الخاصة -شكلا نسميه أوروبا-، تمتلك كقطب لها شكلا معياريا يمتد إلى مالا نهاية له. لكنه -مع ذلك- لا يمكن الإحاطة به فقط من زاوية اعتبار تطور أشكاله المتتالية (= يقصد من زاوية التاريخ). وإن خاصية كونه يتجه نحو معيار ما، كامنة داخل الحياة القصدية لمختلف الأشخاص الذين يعيشون متباعدين عن بعضهم البعض. من هنا، يتجاوزهم إلى القوميات والبيئات الاجتماعية الجزئية، ويمتد بالتالي إلى النظام العام الذي يتكون من القوميات المرتبطة فيما بينها داخل أوروبا(26). إن ما يقصده “هوسرل” من هدا التحديد أنه رغم وجود اختلافات بين الأفراد -داخل القوميات الأوروبية- من حيث اللغة والانتماء الجغرافي والأهداف والمصالح… إلخ، فإن هناك قصديات وقيما عامة تتجاوزهم وتتحقق داخل حركة التاريخ العامة المميزة للمجتمعات والدول التي تدخل تحت الشكل الحضاري المسمى: أوروبا. وليست الفلسفة (والعلوم التي تفرعت عنها) مجرد أفكار يمكن فهمها ودراستها داخل تاريخ جزئي للأفكار، بل هي الشكل الفكري الذي يعي ويبلور تلك القصديات والقيم العامة. وعلى هذا الأساس، لا يمكن فهم تاريخ أوروبا خارج حركة تطور الفلسفة والعلوم المتفرعة عنها. إن تاريخية هذا التاريخ لا تكمن فقط في مؤسساته وتنظيماته الاجتماعية، بل في وحدة هذه المؤسسات والتنظيمات والأشكال الفكرية التي تبلور قصدياتها العامة وتعطيها قيمها العميقة. لذلك، لا يمكن فهم الغرب -حاضرا وماضيا- دون فهم هذه التاريخية العميقة، أي وحدة التاريخ المادي (الاقتصادي، الاجتماعي) والتمثلات الفكرية التي تعطى لهذا التاريخ. وإذا كانت الإنتاجات المادية ذات وجود عرضي مرحلي داخل العالم المحيط بالإنسان، فإن الإنتاجات الفكرية (الفلسفية، العلمية، الفنية…) تدشن دائما شكلا جديدا في حياة الإنسان مخالفا للإنتاجات المادية. فالنشاط الفكري ينتج “موضوعات لا مادية” لها قيمتها الحقيقية داخل حياة الشعوب إذ تصبح مادة لإبداع موضوعات جديدة أكثر كونية. وما أنتجه الغرب عند إبداعه الفلسفة والعلوم، لم يكن مجرد أفكار يمكن تدوينها في هذا الكتاب أو ذاك وجعلها موضوع تاريخ جزئي للأفكار، بل أنتج في العمق فكرة التاريخية واللامتناهي: تاريخية الإبداع واكتشاف غايات لا متناهية للحياة الإنسانية (كالحق والخير والجمال والحقيقة…).
ولم يكن بإمكان الغرب -في نظر “هوسرل”- اكتشاف ثقافة محكومة بغايات لا متناهية وكونية لولا اكتشافه الفلسفة. لقد كانت الفلسفة بمثابة ثورة مست تاريخ الغرب، أصبح هذا التاريخ تاريخ إنسية محددة في الزمان والمكان، لكنها بفعل إبداعاتها الفكرية قادرة على اكتشاف غايات عامة(27) “… ومع ذلك، إن الإنسية الجديدة ذات الأهداف اللامتناهية لم تظهر أولا إلا عند بعض الفلاسفة (…) لقد حمل “بروميتوس” اللوغوص الإلهي إلى بعض الأشخاص المتباعدين الذين يحملون إلى مدى أبعد مهمة الفكر الذي ينبغي عليه أن ينور يوما ما ويغير العالم الإنساني بكامله(28).
كيف كان الاندهاش الفلسفي ثورة في تمثل العالم وظهور التفلسف؟ ليس الاندهاش علاقة نفعية بين الإنسان والعالم المحيط به، بل هو علاقة نظرية هدفها “المعرفة” والحقيقة التي لا تنفصل طبعا عن “جدية الحياة بكل هواجسها ومجهوداتها”(29). لكنها معرفة تؤسس الممارسة عوض أن تكون خاضعة لها، وتوجهها إلى غايات كونية عامة، معرفة تفتح أمام الإنسية الغربية الوليدة أفقا للوعي بالذات وبالحقل العملي الذي يحيط بها. لقد جعلت الإنسان خاضعا لهيمنة الرغبة في معرفة تتجاوز حدود الممارسة اليومية وتمتد إلى مستوى تأملها داخل أفق أكثر كونية(30) ولم يرتبط اكتشاف الفلسفة بظهور معرفة جديدة، بل إنسية جديدة أيضا لها قيمها الحضارية ومعاييرها الخاصة حول الحقيقة وغيرها، ذلك ما يستخلصه “هوسرل” إذ يقول: “وهكذا، إن تنامي إنسية خاصة عالمة جيدا بأنها مدعوة إلى حياة خاصة ومتميزة، لازم خطوة خطوة تكوين ثقافة جديدة. إن معرفة العالم الفلسفية لا تعطي نتائجها الخاصة فقط، بل تنتج أيضا سلوكا إنسانيا يشمل باقي الحياة العملية بغاياتها وأنشطتها الجزئية، وبالخصوص الغايات التي يقصدها التقليد التاريخي الذي تولدت فيه والذي تستمد منه قيمتها. لقد تكونت مجموعة إنسانية جديدة تتضمن داخلها مجموعة خالصة (من الفلاسفة) تقوم على مصالح فكرية عامة، مجموعة تضم أناسا يعيشون لأجل الفلسفة، يوحدهم الإخلاص والتضحية لأجل أفكار لا تكون نافعة لكل شخص فقط، بل يمكن للجميع امتلاكها والتصديق بها. وهكذا، يتكون بالضرورة شكل خاص للحياة الاجتماعية يعمل كل شخص فيه مع الغير ولأجل الغير، ويمارس فيه نقدا بناء لصالح الغير، ويتم فيه -إضافة إلى ذلك- تكوين وتعليم قيم الحقيقة، تكون خالصة ولا مشروطة لأنها ثروة جماعية(31).
غير أن تساؤل “هوسرل” حول الفلسفة لم يقف عند الثورة التي أحدثتها داخل الإنسية الأوروبية منذ اليونان، بل امتد أيضا إلى “الأهداف العامة” والتربوية للتفلسف. ف”بشيوع الفلسفة عبر البحث والفعل التربوي (عند اليونان)، مارست الفلسفة أثرا فكريا مزدوجا: من جهة أولى، إن الخاصية الجوهرية، التي تميز أكثر من غيرها الموقف النظري للإنسان الفيلسوف، هي الكونية النموذجية الخاصة بموقفه النقدي وإصراره على ألا يقبل أي رأي مسبق دون إخضاعه للسؤال. وهو من الآن فصاعدا، حينما سيواجه هذا العالم الزاخر بالمعطيات التقليدية، سيطرح أسئلة كثيرة في اتجاه الوصول إلى الحقيقة في ذاتها، أي في اتجاه الوصول إلى حقيقة شمولية(32).
أما عن الأهداف العملية للتفلسف، فيلخصها “هوسرل” -متمما حديثه عن الأثر الفكري المزدوج للفلسفة- كما يلي: “… غير أن الفلسفة ليست مجرد موقف جديد داخل المعرفة. فإرادتها إخضاع مجموع التجربة لمعايير فكرية -خصوصا معايير الحقيقة اللامشروطة- تحدث في الحال تحولا عميقا في الممارسة بكاملها، وبالتالي في مجموع الحياة الثقافية. ستصبح الحقيقة الموضوعية هي التي تنظم الحياة عوض التجربة الساذجة للحياة اليومية والتقليد. وستتحول الحقيقة المثالية إلى قيمة مطلقة تسبب تحويلا للمارسة في اتجاه كوني وحيد، وذلك لصالح حركات تكوين ثقافي، بواسطة تأثير دائم تمارسه الثقافة على تربية الأطفال(33). وأخيرا، يلخص “هوسرل” آثار التحول العميق الذي أحدثته الفلسفة على المستوى التربوي، النظري والعلمي كما يلي: “وإذا حاولنا ضبط هذا التحول بدقة أكثر، فإننا سنفهم بسرعة طابعه الحتمي: فبمجرد أن تصبح فكرة الحقيقة في ذاتها معيارا شموليا لكل الوقائع والحقائق التي تسود الحياة الإنسانية، فإن هذا التحول يمس أيضا كل المعايير القليدية، معايير الحق والجمال والغاية والقيم الإنسانية السائدة والقيم الشخصية(34).
وإذا تقلص دور الفلسفة داخل الحداثة العلمية بفعل تنامي النزاعات الوضعية، فلابد من استعادة تاريخية الغرب، لأن ذلك سيمكن من فهم عميق لـ”أوروبا” بوصفها ظاهرة ومفهوما، لأجل اكتشاف الغايات اللامتناهية للعقل الفلسفي. فولادة الإنسية الأوربية يعود إلى فكرة العقل، وهي روح الفلسفة(35). لكن، ما الذي قد يحدث إذا ما تخلت أوروبا عن تاريخيتها وعن اختيارها الأصلي (التفلسف)، وعن غاياتها العامة التي هي غايات العقل؟ ستغرق في نزعة موضوعاتية Objectivismeوتستلب العقل في تصور ساذج عن العقلانية (هو التصور الوضعي والطبيعاني) يؤدي إلى سيادة البربرية والفوصونية (وهذا ما حدث قبيل الحربين العالميتين)… لذلك، ولأجل العودة إلى روح الإنسية الأوروبية، يجب فهم العلاقة التي تربط بين تاريخيتها وبين الفلسفة. غير أن ذلك سيظل غير ممكن ما لم تتخلص القوميات الأوربية من تهميشها للفلسفة لأجل سيادة النزاعات الوضعية والطبيعانية(36). لأجل كل ذلك، يطالب “هوسرل” بشدة: “ينبغي أن تمارس الفلسفة دائما -داخل الإنسية الأوروبية- وظيفتها الموجهة الرائدة تجاه الإنسانية بكاملها(37).
والخلاصة، لم يكن سؤال هوسرل عن الفلسفة وتفكيره فيها مجرد انشغال بيداغوجي أو تأريخي، بل هو سؤال منفتح على أساس فلسفي. لقد حاول هوسرل أن يجد للتفكير في مسألة الفلسفة طريقا فلسفيا للتفكير في مسألة التاريخية. وإذا كانت التاريخية تلزم بالتفكير في أوروبا كظاهرة وكمفهوم وبالتفكير في الشكل الحضاري لإنسيتها العميقة التي تولدت مع اكتشاف الإغريق للتفلسف، فإن الفلسفة بدورها تلزم -يوصفها مدخلا لتاريخية الغرب وقيمه ومؤسساته- بإعادة النظر في مفهوم العلم (علوم الطبيعة وعلوم الفكر) والطبيعة والثقافة وقيم الحقيقة ذاتها. بهذا الشكل، فتح “هوسرل” أفقا أمام الفكر الحديث للربط بين الفلسفة وبين التاريخية في كينونة الغرب. فالمدخل إلى تاريخية الغرب هو الفلسفة. كما أنه لا يمكن فهم الفلسفة إلا بربطها بتحولات الإنسية الأوروبية العميقة التي مست ثقافة الإنسان الغربي وتمثله للعالم وممارساته ومؤسساته.
(يتبع)
الهوامش
1 – لا يمكن فهم الفلسفة انطلاقا من مقولة الخطاب وحدها، وإلا سيكون هذا الفهم ضيقا جدا وخاضعا لمفاهيم وحدود التصور اللساني ومعطيات بعض العلوم الإنسانية والتحليل الإيديولوجي. وهذا بالذات ما يرفضه الفكر الفلسفي المعاصر: فليست العلوم الإنسانية واللسانية هي المدخل الوحيد لفهم التفلسف، فهي تقدم أدوات لفهم الفلسفة من خارج التفلسف. كيف يتحدد هذا “الخارج”؟ وكيف حاول الفكر الحديث والمعاصر فهم التفلسف من داخله؟ هذا ما نعتزم إبرازه في هذه الدراسة.
2 – التساؤل تقنية أساسية من تقنيات التفلسف منذ سقراط حتى “كانط” و”هايدجر”… ومع ذلك، لا يمكن فهم ماهية السؤال وتحديد وظائفه داخل الفكر الفلسفي إلا انطلاقا من ذلك الفكر. فلا يمكن للعلوم الإنسانية واللسانية أن تفهم السؤال الفلسفي في عمقه، وهي في كثير من الأحيان تجاهلته أو استبعدته بدعوى كونه سؤالا غير ذي معنى، أو متعاليا يستدعي رياضة ذهنية عديمة الجدوى أكثر مما يفتح على بحث أمبريقي نافع.
3 – في هذا الإطار تندرج مجموعة من الأعمال الفلسفية لـ”جاك ديريدا” و”إيريك فايل” و”م.ماير” و”هـ.ج.كادامير”…، والتي حاولت اكتشاف علاقة ما بين التفلسف وبين العقل أو الدولة أو الأشكلة.
4 – انظر كتاب “هوسرل” E.Husserl : La crise de l’humanité européenne et la philosophie, Aubier 1987.
5 – انظر م.ماير: M.Meyer : De la problèmatologie. Pierre Mardaga Editeur. Bruxelles 1986.
6 – لنشر إلى أن نظام العقل لدى “هيجل” -الذي كان بعد “كانط” أكثر فهما لعقلانية الحداثة- نظام ثلاثي: – نظام دولة، ونظام أخلاق، ونظام معرفة.
7 – نذكر هنا على سبيل المثال:
l- Marges de la philosophie. Mimuit 1972.
2- Du droit à la philosophie. Galilée 1990.
3- Psyché. Inventions de l’autre. Galilée 1987.
8 – راجع بهذا الصدد: Où commence et comment finit un corps enseignant ? in : Politiques de la philosophie. Grasset. 1976.
9 – ديريدا: الحق في الفلسفة -مرجع سابق- ص: 19-20.
10 – المرجع السابق، ص: 19.
11 – يندرج موقف “هايدجر” من الفلسفة ضمن الشكل الأول.
12 – الحق في الفلسفة، ص: 21.
13 – المرجع السابق نفسه.
14 – هذا المكان الرمزي كان في ذاكرة كل الفلاسفة المحدثين هو المكان الإغريقي. وليس المقصود به المكان الجغرافي والطبيعي فقط، بل أيضا المكان الثقافي بلغة “هوسرل”.
15 – الحق في الفلسفة، ص: 27.
16 – لا يجب أن نخلط بين الحق في الفلسفة وبين الحق في العقلانية. فلا يوجد تطابق بين الفلسفة والعقلانية، وبالتالي لا يمكن مهاجمة “اللاعقلانية” باسم الفلسفة والعقلانية. فالتفلسف ليس له حدود. وإذا وجب التفكير في علاقة الفلسفة بالعقل، فليس من زاوية إبستمولوجية ضيقة، بل من زاوية الكينونة كما هو الحال عند “إيريك فايل” Eric Weilفي كتابه “منطق الفلسفة”.
17 – الحق في الفلسفة، ص: 69-70.
18 – كل مؤلفات “هوسرل” تبنت لغة تشخيصية لأغراض وانحرافات الفكر في العصر الحديث (سيادة النزعات الطبيعانية Naturalismeوالوضعية المادية… وقد تجلت هذه اللغة التشخيصية في عدة كلمات تتكرر في خطابه مثل: أزمة، مرض، علاج، ضيق، قلق…
19 – نذكر هنا على الخصوص:
1 – L’idée de la phénoménologie. P.U.F. 1970.
2 – La philosophie comme science rigoureuse. P.U.F. 1955.
3 – Idées directrices pour une phénoménologie – Gallimard 1950.
4 – Méditations Cartisiennes. Vrin. 1931.
20 – انظر: E.Husserl : La crise de l’humanité européenne et la philosophie, Aubier 1987.
21 – المرجع السابق، ص: 7.
22 – عادة ما يطلق مصطلح “علوم الفكر” في التقليد الألماني على العلوم التي تدرس الحياة النفسية والثقافية والتاريخية للشعوب.
23 – هذا المثال الذي يستعمله “هوسرل” ليس مجرد مثال عادي، بل مقصود لأنه يستعمله في سياق برهنته لإبراز ضرورة الفلسفة في تاريخ الغرب.
24 – يقول “هوسرل”: وإن كون كل واحدة من حيواتنا تتطور داخل عالمها الحي المحيط بها والذي يشمل هواجسها ومجهوداتها، يميز نظاما لوجود الأشياء لا يجد مكانه إلا على مستوى الفكر، أي داخلنا وداخل حياتنا التاريخية. وبالتالي، لا يوجد ما يلزم من يدرس موضوع الفكر -بوصفه فكرا- أن يفرض على هذا العالم الحي المحيط (بالإنسان) تفسيرا آخر مخالفا للتفسير الفكري (الروحي). أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة -مرجع سابق- ص: 25.
25 – لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن مسألة التاريخية تثار عند “هوسرل” عند طرحه المرض الأوروبي الحديث. ولا ينبغي فصل هذا المرض عن تعدد القوميات والانسياق وراء التصنيع وامتلاك المواد الأولية والسيطرة على المجال لأجل ضمان استمرارية الإنتاج والربح والسيادة. ولا ينبغي أن ننسى أيضا علاقة هذه الوقائع بالحربين العالميتين و”هوسرل” واع تمام الوعي بهذه الوضعية التاريخية، لذلك، فهو يشير إلى خصوبة مفهوم “الحياة” بالنسبة للإنسان والشعوب، وعدم الاقتصار على حصر الحياة في معناها البيولوجي. فالحياة الإنسانية تأخذ هنا شكل حياة جماعية: أسر، قوميات ودول كبرى، كما تمس الجانب النفسي والفكري والثقافي لدى تلك القوميات والدول. وعنها تصدر كل الإبداعات الثقافية منظورا إليها -حسب تعبير “هوسرل”- داخل تاريخية موحدة أو من منطلق وحدة التاريخية. (أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة ص: 15).
26 – المرجع السابق، ص: 9.
27 – المرجع السابق، ص: 37-39.
28 – يقول “هوسرل”: “لكي تكون الثقافة محكومة بأفكار متميزة باللانهاية، وجب أن تحدث ثورة في الإنسية وأن تمسها في كينونتها الخاصة وفي قدرتها على خلق ثقافات كثيرة. ويجب أيضا أن تحدث ثورة داخل حركة تاريخها الذي يصبح -منذ ذلك الحين- تاريخ إنسية متناهية، لكنها تصبح جديرة بإنسيتها القادرة على إنجاز مهمات لا متناهية. هذا التحول يتم أولا داخل الدائرة الضيقة للفلاسفة وداخل الفلسفة ذاتها. المرجع السابق، ص: 45.
29 – المرجع السابق، ص: 47.
30 – المرجع السابق، ص: 47-49.
31 – يمكن -في هذا الإطار- فهم ظهور المفاهيم الفلسفية والشخوص المفاهيمية التي أثارها كل من “ج.دولوز” و”ف.كاطاري” (في كتابهما: ماهي الفلسفة؟ الذي سنعود إليه في مناسبة لاحقة مثل الصديق والحكيم ورجل الحقيقة والناقد والمفكر… إلخ، هذه الشخوص هي بمثابة “نماذج مثالية” للتفلسف أو ذوات تتفلسف داخل الخطاب، وليست نسخا متطابقة بالضرورة مع شخصيات الفلاسفة التاريخية.
32 – أزمة الإنسية الأوروبية والفلسفة، ص: 55.
33 – المرجع السابق، ص: 53-55.
34 – المرجع السابق نفسه.
35 – المرجع السابق، ص: 55.
36 – المرجع السابق، ص: 103.
37 – يقول “هوسرل”: “إن الشكل الذي أثرناه حول الأزمة يجرنا إلى بيان كيف أن عصرنا الحديث الذي امتدح ذاته بانتصاراته النظرية والعملية منذ قرون خلت، يغوص في نهاية الأمر داخل قلق متنام، وينبغي عليه أن يعيش وضعيته هاته ويحسها بوصفها وضعية قلق وضيق. وإن هذا الضيق يعلن ذاته في كل العلوم بوصفه ضيقا ميتودولوجيا في نهاية التحليل (المرجع السابق، ص: 83).
38 – المرجع السابق، ص: 63.
لا شك ان الفلسفه هي العنصر الاساسي فياحياة الانسان هي المعاير المتكامله لوصفها بالايدلوجيه الفكرريه للاحداث الملائمه لكي يتحلى بها الجتمع والوسيله الفكريه لمباغضت التعارف اللا ارادي و مزامنة الوعي الفكري
اشكرك جزيل الشكر على هذه المعلومات القيمة و السؤال الذي يطرح نفسه هنا ما مكانة الفلسفة في الفكر الغربي المعاصر