حوار مع منير كشو: حول فلسفة جون رولز
إذا تدخلت الدولة لفرض رؤية ما للخير على المجتمع سواء كانت هذه الرؤية دينية أو عَلمانية فإنها تنتهك الحرية الفردية وتتحول إلى دولة مستبدّة
أجراه نور الدين علوش
بداية من هو الدكتور منير الكشو؟
أستاذ في الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة بقسم الفلسفة بجامعة تونس وتحديدا بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية. تحصلت على التبريز في الفلسفة من الجامعة التونسية سنة 1992 والدكتوراه من نفس الجامعة سنة 2000. صدر لي كتابان باللغة الفرنسية حول الفيلسوف الأمريكي المعاصر الذي تُوفي سنة 2002 جون رولز، الأوّل بعنوان دراسات رولزية سنة 2006 والثاني بعنوان العدل ومعاييره: جون رولز ومفهوم السياسة. كما قمت بترجمة أحد الكتب الهامة للفيلسوف الكندي ويل كيمليشكا وهو مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة وقد صدر الكتاب عن دار سيناترا للنشر سنة 2010. ولي كذلك العديد من المقالات الصادرة بالعربية والفرنسية بمجلات وبمؤلفات مشتركة صادرة في تونس وفي الخارج.
انتم من الباحثين المتميزين في نظرية العدالة عند رولز فما هي مرتكزاتها النظرية وأسسها الفلسفية؟
تتصدى نظرية العدالة لجون رولز إلى مشكل قديم في الفلسفة السياسية منذ أفلاطون وأرسطو إلى يومنا هذا وهو كيف تستطيع المجتمعات ضمان استقرارها السياسي واستبعاد خطر الحرب في الخارج أي في علاقاتها بغيرها من المجتمعات والفتن والصراعات في داخلها؟. وإذا كانت المجتمعات التقليدية (أو لنقل ما قبل الحديثة) ضمنت استقرارها السياسي من خلال اشتراك أفرادها في هوية واحدة وفي رؤية متجانسة لما يجمع عليه أعضاؤها أنه خير مشترك إلا أن المجتمعات الحديثة فقدت مثل هذه الرؤية الموحّدة والمتجانسة لمعنى الهوية المشتركة ولمفهوم الخير المشترك. وقد تفطن عالم الاجتماع الألماني تونيز في أواخر القرن التاسع عشر إلى الفارق الذي يفصل المجتمع الحديث عن المجتمع القديم فأقام تمييزا بين مفهوم الجماعة Community ومفهوم المجتمع Society.فالجماعة يوحّدها اعتناق إجماعي وغير مُفكّر فيه لقيم جوهرية في حين يتأسس المجتمع على تصور فردي تام للمصالح يقود الأفراد إلى البحث الواعي عن أشكال من التوافق مع غيرهم وعلى أشكال من التسوية بين مصالحهم ومصالح غيرهم والإتحاد الطوعي مع أقرانهم. وعندما يتساءل رولز عن شروط ضمان الاستقرار لهذا المجتمع فهو يدرك أن زمن الوحدة المتأتية من مطلق من المطلقات سواء تمثّل في خير متجسد في رؤية دينية ما للحياة أو في رؤية قومية ترى أن الخير هو في عزة الأمة ونصرتها أو في أيديولوجيا ما كالاشتراكية مثلا التي تماهي خير الجماعة بمصلحة الطبقة العاملة، هذا الزمن قد ولّى دون رجعة. إلا أن الخطر الذي أصبح يتهدّد المجتمعات المعاصرة في زمن أفول الرؤى الشاملة للحياة والعالم أو ما عبّر عنه عالم الاجتماع الأمريكي دنييل بل في كتاب أصدره سنة 1975بعنوان “نهاية الايدولوجيا” بعصر نهاية الأيديولوجيات سواء كانت دينية أو معلمنة هو استعار حمى البحث المحموم عن المصلحة الفردية دون وازع أو قيد. وإن كان أفول الأيديولوجيات يمثل، على الأقل من وجهة نظر الليبرالية، تحرّرا من الاستعباد وخطوة أخرى في سبيل تأكيد قدرة الذات الفردية على السيطرة على مصيرها إلا أنه ضاعف من جهة أخرى من خطر التفتت والتفكك بالنسبة للمجتمعات الحديثة التي يكون فيها الفرد لا الجماعة المصدر الأوّل لكل صلاحية على الصعيد الأخلاقي أي أنه الحَكم فيما يتعلق بالخير والشر في المسائل المتعلقة به. فالمشكل إذن بالنسبة لرولز هو كيف نجد صيغة تضمن للفرد البحث المعقول عن مصلحته الخاصة وتحقيق تصوره الخاص للخير وفي نفس الوقت نضمن وجود إطار عام للتعاون يحمي الرابطة الاجتماعية من التفكك. ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا اعتبرنا المجتمع على شاكلة مغامرة تعاونية مشتركة قائمة على المصلحة المتبادلة ففي هذا النموذج هناك من جهة تماثل في المصلحة بين الأطراف المشاركة في هذا المشروع التعاوني إذ لها جميعها مصلحة في استمراره ونجاحه في تحقيق فوائد ومن جهة أخرى تنازع في المصلحة حيث أن كل طرف في هذا المشروع التعاوني يريد أن يحوز لنفسه ولمجموعته أكبر نصيب من فوائد وأرباح هذا التعاون الاجتماعي. لذلك فالجميع شركاء على قاعدة المساواة في الانتماء إلى الجماعة السياسية والمواطنة والحرية المتساوية بين الجميع والكرامة وحرمة الشخص التي لا تقبل الانتهاك والتعدي تحت أي داع ولو كانت المصلحة الجماعية سواء تمثلت في الرفاه العام للمجتمع كما هو في النزعة المنفعية أو في عزة الوطن ومجده إلخ. لهذا ينتهي رولز إلى أنه لا يمكن أن يستمر التعاون بين هذه الأطراف إلا إذا وجد اتفاق على إطار عام يمكن للنزاعات الفردية والخلافات حول تقسيم مغانم العيش المشترك وأعبائه أن تجد طريقها للحلّ دون جنوح إلى العنف أو تهديد به. ولا يمكن أن يكون ذلك ممكنا، في رأيه، إلا بتأكيد أولوية العدالة في كل تنظيم لمؤسسات المجتمع الحديث إذ يقول في بداية رولز الفصل الأوّل من كتابه العمدة “نظرية في العدالة” إن “العدالة هي الفضيلة الأولى للمؤسسات الاجتماعية تماما مثلما أن الحقيقة الفضيلة الأولى لأنساق التفكير” ويعني ذلك أن القوانين والمؤسسات لا بُدّ تقع مراجعتها وإصلاحها أو إزالتها إذا أخلّت بهذا المقتضى مهما كانت جودة تنظيمها ومهما كانت فاعليتها. ويضيف قائلا أن كلّ شخص له حرمة Inviolabilty قائمة على العدل لا يمكن التعدّي عليها ولو بداعي رفاه المجتمع وسُؤدده. وفق هذا المنظور تفترض العدالة تنظيما للمؤسسات الكبرى للمجتمع على نحو يكون فيه توزيع فوائد التعاون الاجتماعي وتكاليفه توزيعا عادلا على أساس المواطنة حتى لا يشعر أي طرف شريك بالضيم أو يشكو من الحيف والإجحاف في حقه. فالنظرية السياسية تضع صورة أو نموذجا مثالا لمجتمع حسن التنظيم well-ordred society يمكّن من نقد المؤسسات القائمة والعمل على إعادة تنظيمها. ويرى رولز أن مجتمع مثل هذا لا بُدّ تكون مؤسساته تُدار من خلال تصور عمومي للعدالة يكون موضع وفاق بين أفراده والمجموعات المكونة له ويكون معروفا منهم ويحظى بقبولهم الحر. ويرى رولز أننا لو تخيلنا إجرائية تعاقدية يتم وفقها تصور مداولة تتم بين شركاء في وضع مثالي” وضع بدئي” افتراضي يختارون فيه مبادئ عدالة تحكم مؤسسات مجتمعهم لا يعرفون في ذلك الوضع لا الفئة التي ينتمون إليها، أي إن كانوا من الميسورين أو المعوزين، ولا مواهبهم ومؤهلاتهم الطبيعة كالذكاء أو الإقدام على المخاطرة أو القدرة على المساومة أو قواهم البدنية إلخ. ولا يعرفون أي التصورات للخير يفضلون( التديّن أو الزهد أو حب المال أو المتعة الحسية والجمالية إلخ.) وضمن أي فئة يضعهم ذلك التصور سواء ضمن الأقلية، دينية كانت أم عرقية أم ثقافية أم اجتماعية، أو ضمن الأغلبية ولا يعرفون أيضا الثروات والقدرات التي يتوفر عليها مجتمعهم ولا مكانته ضمن الأوطان في حين أنهم يعرفون أن لهم وطن يخلصون إليها. يقول رولز إن المداولة بين أطراف متساوية من حيث المعلومات التي لديهم عن أنفسهم وعن مجتمعهم ستقودهم إلى اختيار إجماعي للمبدأين التاليين:
المبدأ الأوّل: لكلّ شخص حقّ متساو مع غيره في النسق الشامل من الحريات الأساسيّة المتساوية وعلى نحو يتّسق مع نسق مماثل من الحرية للجميع.
المبدأ الثاني: لا بدّ أن تُـنظَّم مظاهر التفاوت الاجتماعيّ والاقتصاديّ على نحو:
أـ تكون فيه لصالح الأقلّ امتيازا؛
ب – تكون مرتبطة بوظائف وبمواقع مفتوحة أمام الجميع وفي إطار من المساواة العادلة في الفرص.
ولا يكتفي رولز بالتنصيص على مبادئ العدالة وإنما يؤكّد أيضا على ضرورة أن ترتّب على نحو تفاضلي وفق قاعدتين. أما الأولى فتنص على أولوية مبدإ الحرية كما يلي: تخضع مبادئ العدالة إلى نظام معجميّ لا يمكن وفقه أن تُحدّ الحرية إلا بمقتضى الحرية ذاتها في حين تنص الثانية على أولوية العدالة على الفاعلية الاقتصادية والرفاه فالمبدأ الثاني ذو أولوية معجمية على مبدأ الفاعلية وعلى مبدأ تعظيم مجموع الامتيازات كما أن المساواة العادلة في الحظوظ لها أي الجزء(ب) من المبدإ الثاني لها الأولويّة على الجزء(أ) من المبدإ الثاني مما يعني أنه لا يمكن للتوزيع للخيرات لصالح من هو الأقل امتيازا من غيره أن يكون مقبولا إلا إذا تمّ احترام مقتضى المساواة في الحظوظ [ Rawls 1971:302-303] .
من الواضح إذن أن هذان المبدآن يمثلان الحلّ الذي يرتئيه رولز لمشكلة العدالة في المجتمعات الديمقراطية المعاصرة. وإذا كان المبدأ الثاني ـ الذي يسميه رولز ” مبدأ التباين” ـ مبدأ يحكم توزيع الموارد الاقتصاديّة. فإن المبدأ الأول الذي يحظى بأولوية مطلقة عليه يتعلق بالحرية وحق كل مواطن أن يتمتع بها على قدم المساواة مع غيره مهما كان الموقع الذي يحتله داخل المجتمع ومهما كان جنسه أو عرقه أو دينه. وكما نرى هذا المبدأ يعمل على التأليف بين مقتضى المساواة في التوزيع الذي تجعل منه الاشتراكية، وعلى نحو خاص في صيغتها الماركسية، أساس كل توزيع عادل للدخل والليبرالية الاقتصادية كما نظّر لها فردريك هايك وفون ميسز من المدرسة النمساوية وميلتون فردمن وأقطاب مدرسة شيكاغو الذين يجعلون من السوق الحرة الإطار الوحيد للتوزيع العادل للدخل ومن المنافسة والمبادرة الاقتصادية الفردية الحرة قاعدة لمشروعية الدخل والربح. فعيب الأولى هو أنها تقضي بأن يكون توزيع الدخل على قاعدة المساواة وهي لذلك لا تصلح، في رأي رولز، إلا بمجتمع تكون فيه الموارد التي يقع تقاسمها ثابتة لا تزيد ولا تنقص في حين أن المجتمع الحديث هو مجتمع يقوم على الإنتاج مما يعني أن الموارد وفوائض التعاون هي في ازدياد مُطّرد وهي لا تنمو إلا حينما يكون الأفراد مُقبلين على العمل والمبادرة والابتكار والإنتاج. وليكونوا محفّزين لذلك لا بُدّ ينعموا بما حصلوا عليه من خلال جهدهم الخاص وجدارتهم فالأفضل في رأيه أن نكون غير متساوين ولكن في حالة رخاء يستفيد منها الجميع على نحو عادل ومعقول لا أن نكون متساوين وفي حالة فقر وركود اقتصادي. أما وجهة النظر الليبرالية الاقتصادية فهي تركز على الحرية الاقتصادية والمنافسة ولا تأخذ بعين الاعتبار أن الخيرات والسلع والممتلكات تظل رأس مال اجتماعي وأن إنتاجها يقتضي تعاون من الآخرين وبالتالي عدالة اجتماعية.
يعتبر كتابه نظرية العدالة إعادة صياغة (2001) مراجعة لكتابه السابق نظرية العدالة كإنصاف (1971) فما هي ابرز التحولات والمراجعات التي قام بها بعد تعرضه للكثير من النقد؟
سؤالك وجيه وجيّد ولكن دعني أصّحح بعض ما ورد فيه كتاب رولز الصادر سنة 1971 هو بعنوان ” نظرية في العدالة” أما كتابه الصادر سنة 1999 والذي تُرجم إلى العربية وصدر سنة 2001 فهو بعنوان ” العدالة كإنصاف، إعادة صياغة”. ولكن ما يسميه بعض النقاد بالمنعطف في فكر رولز حصل في واقع الأمر قبل صدور هذا الكتاب وتحديدا منذ سنة 1980 في سلسلة من المحاضرات والمقالات تمت فيها مراجعة جوانب هامة من الصيغة الأولى لنظريته. وقد صاغ رولز على نحو نسقي كل هذه التعديلات في كتاب ” الليبرالية السياسية” الذي أصدره سنة 1993 بالانغليزية. ولكني أوّد لأضع القراء في الصورة أن أعرّج على النقد الذي واجهته نظرية رولز. لقد استقطبت هذه النظرية حال صدورها اهتمام الدارسين والنقاد حتى أصبح كل جدل في قضايا الفلسفة الأخلاقية والسياسية المعاصرة يمرّ عبرها. ويمكن أن نميز بين ضربين من النقد وجّها إلى رولز أحدهما يمكن عدّه سياسيا، وإن كانت له خلفيات فكرية وفلسفية، والثاني فلسفي بالأساس، ولا يخلو من أبعاد سياسية، ويتعلق بمسالة العلاقة بين الهوية الفردية والجماعية. وقد وُجّه الضرب الأول من النقد إلى نظرية رولز من جهتي اليسار واليمين السياسي في نفس الوقت. فمفكرو اليسار وفلاسفته لم يرضوا عنها لأنها تخلّت، في نظرهم، عن مقتضى أساسي لتحقيق العدالة وهو المساواة الكاملة في الأوضاع بين الناس والقضاء على كافة مظاهر اللامساواة واكتفت فقط بتقييد اللامساواة بشرط أن يستفيد منها الجميع وعلى وجه الخصوص من يكون الأكثر تضررا من جهة قسمة الموارد المتوفرة. وكأمثلة على هذا النقد يمكن أن نذكر كوهين ورويمر (Cohen 1995 ; Roemer 1996 ) أما اليمين الليبرتاريني (أي أنصار الليبرالية الاقتصادية المتطرفة في أمريكا) فقد اعتبرها محاولة جديدة لإيجاد تسويغ فلسفي لدولة الرفاه الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية والتي هي في حالة وهن وتتداعى للسقوط نتيجة لاستنزافها لموارد المجموعة القومية في الإنفاق على جهاز إداري متضخم وعلى برامج اجتماعية فاشلة لم تحل لا مشاكل البطالة ولا الفقر. وهذا النقد نجده في كتابات نوتزك وبوكنان وغوتيه Nozick 1974 ;Buchanan 1975 ;Gauthier 1986). أما النقد الأعنف والذي ترك آثرا على النظرية فهو النقد الجماعتي. يعيب هذا النقد على النظرية ليبراليتها ونزعتها الفردانية وتأكيدها أن الفرد لا الجماعة هو المصدر الأوّل للصلاحية الأخلاقية وكذلك نزوعها نحو رؤية سياسية كونية منقطعة عن الواقع الاجتماعي والسياسي للمجتمعات التي تريد أن تؤسس لصالحها نظرية في العدالة كما ينتقد أيضا تأسيسها للرابطة الاجتماعية على معايير العدل لا على صورة للخير المشترك الذي يؤلف بين الجماعة السياسية.
وحتى يجعل رولز نظريته أكثر قدرة على الصمود أمام النقد الجماعتي أدخل عليها سلسة من التعديلات. ففي كتاب ” الليبرالية السياسية” تخلى رولز عن البعد الكوني، الذي جعل نظرية العدالة في صيغتها الأولى تبدو وكأنها نظرية صالحة لكل المجتمعات مهما كانت ثقافاتها ومهما كان عصرها وتاريخها، وأعاد تقديمها على نحو يجعلها وثيقة الصلة والارتباط بالتقاليد الخاصة بالدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي تتميز بثقافة عمومية تتأصل فيها قيم المساواة والحرية الفردية. ويميز هذا الكتاب بين الليبرالية السياسية والليبرالية وفق مفهومها الشامل. فمبادئ العدالة لم تعد تندرج ضمن تصور عام يقوم على مثال أعلى ليبرالي جامع وشامل وإنما أصبحت تشكّل رؤية سياسية يمكن أن تقبل بها مذاهب واتجاهات فكرية وفلسفية ودينية لا تقبل بالرؤية الفلسفية الليبرالية الشاملة كما نجدها لدى جون ستوارت ميل أو كانط مثلا. والليبرالية السياسية على خلاف الليبرالية الشاملة أكثر مواءمة لواقعة التعددية الأخلاقية التي تسم بميسمها المجتمعات المعاصرة فالناس لا يتفقون اليوم حول المثل الأعلى للحياة الطيبة وحول القيمة الأخلاقية للأفعال ولكنهم رغم ذلك مجبرون على التعايش داخل مجتمع واحد تتعدّد فيه رؤى العالم وينقسم أفراده حول معنى الحياة المثلى وحول قيم الخير وحول ما يجب أن يكون موضوع تثمين أخلاقي. وفي نظر رولز لا تمثل الصياغة الجديدة للفكرة الليبرالية عدولا عن المبادئ التي تقوم عليها نظريته في صيغتها الأصلية أو تغييرا جوهريّا في أساليب البرهنة والحجاج عليها. فهو يستمرّ في الدفاع عن مبدأيه في العدالة: مبدإ الحرية الذي يضمن لكلّ فرد الحريات الأساسية الأوسع مجالا والمتساوية مع تلك التي يتمتع بها أقرانه ومبدإ التباين الذي ينصّ على ضرورة أن تكون المساواة القاعدة لتوزيع الموارد الاقتصادية باستثناء الحالات التي يثبت فيها أن الشخص المتضرر أكثر من غيره من حيث توزيع تلك الموارد سيكون المستفيد من التوزيع غير المتكافئ لها.
ويتعلق أهمّ تعديل أدخله رولز على نظريته بالحجج الساندة لمبدأيه في العدالة وعلى وجه الخصوص تلك التي قدّمها في نظرية العدالة لتسويغ مبدأ الحرية والدفاع عن أولويته. إذ أصبح رولز الآن يعترف بوجود حجج مختلفة لتسويغ مقتضى حماية الحرّيات الأساسيّة ولم يعد هذا التسويغ يقع، كما كان عليه الأمر من قبل، من وجهة نظر قيمة بعينها وهي الاستقلالية الذاتية أي أن يكون الفرد كشخص أخلاقي المصدر الأول والأصيل لكل تشريع يتعلق بأفعاله. فوفق التصور السابق الذي دافع عنه رولز في كتابه الأوّل تكون الاستقلالية الذاتية العقلانية خيرا بذاتها أو هي الخير الأسمى وهو ما لا يمكن أن تقبل به المذاهب الأخلاقية ذات الوجهة الدينية. فالكاثوليكي أو المسلم أو اليهودي مثلا يمكن أن يكون ليبراليا ويقبل بمقتضى حماية الحرية الفردية ولكنه سيعترض على فكرة الاستقلالية الذاتية وأن يكون الفرد مصدر كل تشريع أخلاقي إذ يرى في ذلك تناقضا مع الإيمان بأن الله مصدر كل صلاحية على الصعيد الأخلاقي. ومهما اختلفت الحجج يظل في نظر رولز مقتضى حماية الحريات الأساسية موضع اتفاق وقبول من الجميع داخل المجتمعات الديمقراطية حتى وإن سلّم البعض به لدواع دينية والبعض الآخر لأسباب عقلانية وفلسفية وعلمانية. وستكون النتيجة التي سنحصل عليها عند ذلك ” وفاقا من خلال التراكب” overlapping consensus تسلّم في إطاره كل الجماعات والمذاهب سواء كانت دينية أو غير دينية بضرورة تعزيز الحريات الأساسية وحمايتها.
ولتجسيد فكرة “الوفاق من خلال التراكب” يتطرق رولز إلى مسألة حرية الضمير. ويميّز هنا بين ضربين من الحجج ، في الضرب الأول يُنظر إلى المعتقدات الدينية كموضوع قابل للمراجعة والنظر العقلاني فحرية الضمير ضرورية لنا لأنه ليس هناك ما يضمن لنا أن تكون أساليبنا الراهنة في العيش هي المناسبة لنا أوأنها ليست في حاجة إلى مراجعة أو إعادة نظر. والحجّة التي تقوم على فكرة المراجعة العقلانية هي الحجة التي يستند عليها الليبراليون لتبرير مقتضى الحريات الأساسية. أما الضرب الثاني من الحجج فينطلق في دفاعه عن الحرية الدينية من أن العقائد الدينية معطاة وراسخة وليست بالتالي موضع مراجعة أو محلّ نقد. وإن كنا في حاجة إلى حريّة الضمير فلأنه توجد داخل المجتمع تصوّرات دينية متعدّدة والتي وإن لم تقبل المراجعة أو المساءلة تقبل بحق التصورات الدينية الأخرى في الوجود والتعبير عن نفسها في إطار تعدّدية تجعل التعايش ممكنا. وترى هذه الحجة أننا ما دمنا ننتمي جميعنا إلى مجموعات دينية مختلفة ومتنافسة أحيانا فإننا نحتاج إلى تبني مبدإ الحرية الدينية في صيغة حرية الضمير وإقراره ضمن المواد الدستورية والدفاع عنه باعتباره موضوع وفاق من خلال التراكب ليكون بذلك أسّا من أسس العدل في مجتمع تعدّدي.
هذه هي إذن أهم المراجعات وهي قابلة للنقاش في جوانب عديدة منها ولكن رولز لم يتخلّ عن مبادئ العدالة والنظرية السياسية التي تقوم عليها وإنما جعل نظريته تقبل بأشكال متعدّدة ومعقولة من التعليل وليس التعليل الفلسفي الكانطي هو الوحيد الممكن للنظرية كما بدا الأمر في الصيغة الأولى لها.
وبالعودة إلى سؤالك كتاب رولز العدالة كإنصاف، إعادة صياغة هو كتاب يعيد صياغة بعض الجوانب من النظرية بدت للقرّاء معقدة شيئا ما في النسخة الأولى من كتاب نظرية في العدالة ويصحّح بعض التأويلات الخاطئة كالموقف من دولة الرفاه التي لا يعتبرها رولز حلا كافيا لمشكلة العدالة في المجتمعات المعاصرة.
يثير كتابه الكثير من القضايا أبرزها مسالة العدالة والخير أيهما اسبق حيث يميل راولز إلى أسبقية الحق على الخير كيف تشرح هذه الإشكالية للقراء؟
كما أسلفنا مبادئ العدالة تنطبق على البنية ” البنية الأساس” للمجتمع وليست مبادئ ستحكم السلوك الفردي. فالعدالة التي يتعلق الأمر بها هنا هي فضيلة المؤسسات أكثر مما هي فضيلة الأشخاص(رولز 1971: 33). وبعد إقرارها في إطار تصور للعدالة يكون عموميا وموضع وفاق اجتماعي تصبح هذه المبادئ قاعدة لتقييم عمل المؤسسات الكبرى داخل المجتمع وطريقة توزيعها لمنافع العيش المشترك وتكاليفه. ويترتب عن هذا أولوية العدالة على تصورات الخير إذ أن الرابطة الاجتماعية في مجتمع عادل تقوم في رأي رولز على قواعد العدل التي يتعين أن تُحترم من قبل الجميع أما الخير فيظل أمرا خصوصيا يتعلق بالمعنى الذي يمنحه الأشخاص للحياة المثلى والجديرة بأن تعاش ولمفهوم القيمة الأخلاقية للأفعال. وهي مسائل يختلف فيها الناس وتظل مجال الاختيار الفردي الحر ولا يحق لا للدولة و لا للمجتمع التدخل فيها. وتكون بهذا نظرية العدالة تعتمد وجهة ديونتولوجية (آدابية) من الطراز الكانطي تؤكد أسبقية الحق والواجب على مُثل الخير والسعادة وتتعارض مع النظريات التليولوجية التي تجعل من خير ما (كالمنفعة العامة مثلا في النظريات المنفعية) غاية للفعل الفردي ولعمل السلطات العمومية. وتحديد الخير على نحو منفصل على العدالة ومنحه صفة الغاية الكبرى يجعل من العدالة وسيلة لتحقيق ذلك الخير. على خلاف هذا التمشي تأكيد أسبقية العادل على الخيّر سيجعل كل تصور للخير غير مقبول إذا كان متعارضا مع العدالة وإذا كان تحقيقه سيؤدي إلى انتهاك لحقوق الناس. ويضمن المجتمع العادل، وفق التصور الليبرالي الذي يدافع عنه رولز، للفرد أمرين: أوّلا حماية حقوقه وشروط تحقيق تصوره للخير دون تدخل من شركائه في المواطنة ودون احتكاك أو نزاع معهم وثانيا، حياد الدولة تجاه تصورات الخير فإذا تدخلت الدولة لفرض رؤية ما للخير على المجتمع سواء كانت هذه الرؤية دينية أو عَلمانية تنتهك الحرية الفردية وتتحول إلى دولة مستبدّة تستخدم الأجهزة والسلطات العامة لتحشر نفسها في المجال الشخصي.
هناك من الباحثين من يعتبر نظرية العدالة محاولة فلسفية لتجديد الليبرالية من الداخل هل تتفقون معهم؟
نعم بقي أن نتفق في معنى الليبرالية. أنت تعرف أن هذا المصطلح في بلدان المغرب العربي المتأثرة بالتقاليد الفكرية الفرنسية (تونس والجزائر وموريتانيا والمغرب وباستثناء ليبيا) يُحمل على معنى نظرية تدافع عن اقتصاد السوق غير المقيّدة وترفض كل دور اجتماعي للدولة في إعادة توزيع الدخل من خلال الرافعة الضريبية ولذلك تكون عموما الليبرالية موضع استهجان وانتقاد حاد من الجميع. غير أنه كما رأينا ليست هذه هي الليبرالية في السياق الفكري الأمريكي. فالليبرالية أخذت هناك معنى اجتماعي سبق أن دفع في اتجاهه في أواخر القرن التاسع عشر في انغلترا فلاسفة أمثال هوبهوس وجون ستوارت مل ثم ديلتاي وليبمان في أمريكا حيث أكّد كل هؤلاء على أن الحرية لا معنى لها من دون إعادة توزيع عادل للثروة ومن دون دور فاعل للدولة في مقاومة الفقر والبطالة والمرض ونشر التعليم وتوفير المرافق العمومية الأساسية. فرولز يأخذ إذن بهذا المعنى لليبرالية حينما يؤكد أن الكرامة المتساوية لا تتوفر فقط بتوفير الحرية والمساواة بين الجميع أمام القانون وإنما بتمكين الناس من التمتع الفعلي بحرياتهم والاستخدام الفعلي لها. وهذا لا يكون إلا بضمان شروط العدالة التوزيعية وفق المبادئ التي نصت عليها نظريته. أما الليبرالية المتطرفة والاقتصادية فتُسمى في السياق الأمريكي الليبرتارينية. فالليبرالية في المجال الفكري والسياسي الأنغلو أمريكي تحيلنا إلى اتجاه سياسي يساري أي بمعنى أنه يجمع بين مقتضى المساواة في الأوضاع المادية من خلال التوزيع العادل للدخل ومقتضى الحرية الاقتصادية في إطار سوق حرة مع دور تعديلي للدولة. ومن هذه الوجهة يتوافق تقريبا مع تنادي به الاشتراكية الديمقراطية Social Democracy في أوروبا.
ما يعاب على النظرية تمركزها الغربي وحصرها فقط في المجتمعات الليبرالية الدستورية ما ذا تقولون؟
نعم ذلك صحيح. لكن قبل أن أشرح الأمر دعني أوضّح مسألة تتعلق بطبيعة الفلسفة السياسية وبالدور الذي تضطلع به في الثقافة السياسية للمجتمع وفق رولز. وفي مقال صدر له سنة 1980 تحت عنوان ” الإنشائية الكانطية في النظرية الأخلاقية” Kantian Constructivism in Moral Theory أكّد رولز على أن دور الفلسفة السياسية في الديمقراطيات هو تعريف المبادئ والمصطلحات الكامنة في الحس المشترك والتي يتقاسمها الناس من خلال الثقافة السياسية المشتركة بينهم وجعل هذه المبادئ بيّنة وحيث يكون الحس المشترك متردّدا وغير واثق من اختياراته ومواقفه ولا يعرف في أي جهة يوجد الصواب يتعين على الفلسفة السياسية أن ترشده إلى بعض التصورات والمبادئ التي هي في صميم أهم اقتناعاته وتقاليده التاريخية. وفق هذا التصور لا يمكن للفلسفة السياسية إلا أن تكون متأصّلة في سياق ثقافي وفكري وتقوم بوظيفتها ودورها النقدي في إطاره وذلك، كما يقول فيلسوف أمريكي آخر توفي مؤخرا وهو ريتشارد رورتي، لأن الثقافة السياسية للمجتمعات المنفتحة والديمقراطية ليست متجانسة من حيث القيم والمبادئ وإنما يوجد تضارب داخلها بين القيم (قيم الحرية والمساوة، العدل والخير، الفاعلية الاقتصادية والمصلحة العامة، حرية الفرد وقيم الجماعة، الأنانية والإيثار إلخ .) ويكون دور النقد الفلسفي هو إيجاد أفضل تأليف عقلاني ممكن بين هذه القيم من خلال الموازنة بينها ومكافحتها ببعضها البعض. فحيث هناك نزاع بين القيم وحيث هناك سؤال حول المبادئ التي يتعين اعتمادها لحل النزاعات وصناعة القرارات العمومية الصائبة يكون هناك دور للفلسفة السياسية ولا تكفي العلوم الاجتماعية لهذه المهمة. ولكن ذلك يفرض أيضا على المشتغل بالفلسفة السياسية معرفة بما يسميه رولز بالوقائع الكبرى للمجتمع وهو ما يتطلب منه معرفة بنتائج الدراسات في القانون والاقتصاد وعلم الاجتماع والعلوم السياسية وعلم النفس والتاريخ إلخ.
وتجدر الملاحظة أيضا أن القيم الليبرالية كالحرية والمساواة والعدالة وحقوق الإنسان، كما نرى، لم يعد مجالها منحصرا في المجتمعات الغربية وإنما اتسع أكثر ليشمل العالم بأسره إذ كما يقول كيمليشكا في تصدير الطبعة العربية لكتابه “مدخل إلى الفلسفة السياسية المعاصرة”، الذي قمنا بترجمته إلى العربية، مسألة بناء دولة تخدم مصلحة مواطنيها وتحجم عن إلحاق الضرر بهم هي مسألة عابرة للثقافات مهما كانت درجة الاختلاف بينها وهذا ما يجعل، في رأينا، الجدل حول قضايا الليبرالية الدستورية ولئن انطلق حقيقة في الغرب إلا أنه يهم كل المعنيين ببناء دولة مدنية حديثة.
ثمة اختلاف كبير في مقاربة قضية العدالة بين الاتجاه الليبرالي الذي يمثله هابرماس ورولز والاتجاه الجماعاتي الذي يمثله تايلور وماكنتاير وسندل فما هي أوجه الشبه والاختلاف بينهما؟
في خصوص الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس يجب أن نوضح الأمر التالي: وهو أنه لا يضع نفسه ضمن الاتجاه الليبرالي فلئن اعتبر نفسه قريبا منه ظل يعتبر أن الليبرالية والجماعتية لم يتخلصا من براديغم الذاتية الميتافيزيقة. فالليبرالية تفترض فكرة ذات فردية متوحدة تحدّد نفسها بنفسها على نحو منعزل عن الآخر وفي غنى عن الحوار والمداولة في الفضاء العام في حين أن الجماعتية تظل حبيسة نفس البراديغم الميتافيزيقي ولكن بدل الذات الفردية تحلّ الذات الجماعية وصورة الخير التي توحّد بين أعضاء وهو خير تضعه في منأى عن النقاش والجدل العام لذلك يقترح هابرماس نموذجا بديلا يتمثل في نظرية إتيقا النقاش يعتبر قادرا على تجاوز هنّات الليبرالية والجماعتية والقطع مع الخلفية الميتافيزيقية التي ينهضان عليها. أما فيما يخص الليبرالية فلا بُدّ أن نميّز بين المجتمع الليبرالي والعقيدة الليبرالية. فالمجتمع الليبرالي هو المجتمع الذي تكون فيه قيم الحرية والمساواة والحقوق متأصلة في الثقافة العامة التي يشترك فيها أفراده وتكرسها المبادئ الدستورية التي يُجمعون عليها ففي مجتمع كهذا يمكن أن يغير الأفراد تصوراتهم للخير، كأن يخرجوا مثلا من دين ليدخلوا دينا آخر أو ليصبحوا لا دينيين، دون أن تتأثر مع ذلك حقوقهم المدنية المحصّنة دستوريا ومؤسساتيا كما أن الانتماء في مثل هذا المجتمع يكون على أساس المواطنة وليس الاشتراك في هوية جماعية وثقافية. أما العقيدة الليبرالية فهي تفترض نظرية متكاملة تنتصر للحرية وتجعلها أساس تنظيم العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية. وهي نظرية ليست موضع قبول تام إذ تجد من يختلف معها من حيث المنطلقات الفكرية والفلسفية. والفلاسفة الذين ذكرتهم يمثلون أقطاب الاتجاه الجماعاتي. ولئن اشتركوا في رفض أركان العقيدة الليبرالية مثل أسبقية الحق والعدل على الخير وفكرة ذات تتشكل على نحو منعزل عن سياقات التنشئة الاجتماعية ودافعوا على فكرة أولوية الجماعة على الفرد إلا أنهم يختلفون من حيث حدة نقدهم للفلسفة الليبرالية. فتايلور مثلا يشاطر الوجهة الليبرالية في العديد من النقاط الهامة في حين أن ماكنتاير وساندل يبدوان أكثر حدّة وتطرفا في نقد الليبرالية مما يدفعهم في إتجاه تبني مواقف أكثر محافظة وبالخصوص حينما يرفضان أن يكون الفرد سيد اختياراته وأن تكون له القدرة على رفض فكرة الخير الجماعي أو أن ينفصل عن جماعته إن طاب له ذلك إذ أن الهوية الجمعية هي التي تسود لديهم على الهوية الفردية. ولمعرفة أكثر بالجدالات التي تدور داخل الاتجاه الجماعتي وحوله أدعو القارئ إلى الإطلاع على الفصل الذي خصّصه كيمليشكا له في كتابه الذي ترجمناه إلى العربية.
في الأخير ماذا عسا نا نحن العرب ان نستفيد من تلكم النظرية معرفيا وسياسيا وأخلاقيا في ما بعد الربيع الديمقراطي؟
يجب التنويه أوّلا بأن ثورات الربيع العربي تمثل تكذيبا لمزاعم الموقف الثقافوي في النظرية السياسية والذي يعتبر الثقافات وحدات وكيانات تكاد تكون منغلقة على نفسها ومكتفية بذاتها وهي تنقسم إلى ثقافات تقبل الديمقراطية والقيم الليبرالية أي الحرية الفردية ومبدأ المساواة والمشاركة السياسية وثقافات موصدة أمام القيم الثقافية الليبرالية لا تعترف بالحرية الفردية ولا بحق الفرد بأن يكون مصدر للصلاحية الأخلاقية وتقدّس قيم الجماعة وترفض المساواة وتتشبث بالبنى التراتبية التقليدية للمجتمع. فثورات الربيع العربي رفعت كلها شعارات الحرية والعدالة الاجتماعية والحق في الكرامة وندّت بالظلم والفساد والاستبداد وبهذا أكدت عكس ما يذهب إليه المدافعون على الموقف الثقافوي وما قاله رولز نفسه الذي ذهب في كتاب “قانون الشعوب”، وهو الكتاب الذي يقدّم فيه وجهة نظره في العدالة الدولية، إلى أن القيم الليبرالية تظل خاصة بالمجتمعات الغربية وقد قمنا بنقد هذا الموقف في كتابنا الصادر سنة 2006.
الآن وبعد الربيع العربي تتجه النية نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تحقق الأهداف التي عبرت عنها الشعارات التي رُفعت أثناء هذه الثورات. لهذا تتجه الأنظار بكثير من القلق في تونس وليبيا ومصر واليمن لمراقبة حركة الفاعلين في الساحة السياسية ومعرفة إن كان الحراك السياسي سيفضي إلى صياغة دستور عصري يضمن الحرية الفردية بمعناها الشامل وحقوق الإنسان كما وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق والمعاهدات الدولية ذات الصلة ويضع الركائز لاستقلال القضاء وبناء دولة المواطنة ويضمن المساواة بين المواطنين مهما كان جنسهم أو دينهم أو لونهم أو عرقهم ويحمي الحق في المشاركة السياسية والتداول السلمي على الحكم ويوفر حدّا معقولا من العدالة الاجتماعية والإنصاف في تقاسم منافع العيش المشترك وتكاليفه ويرسّخ أيضا حكم القانون. بطبيعة الحال إذا تحققت هذه الخطوات فسنكون في حاجة إلى النظرية السياسية الليبرالية لرولز والجدالات التي تدور حولها ولكن لن نكون في حاجة إلى رولز فقط بل أيضا إلى الفلسفات السياسية والحقوقية والأخلاقية لدووركين وهبرماس وأمرتيا صن وآكرمن وغيرهم. أما إذا وقعت انتكاسة لا سمح الله في هذا المجال وعاد الاستبداد من جديد في ثوب آخر، قد يكون هذه المرة ديني وليس عَلماني كما عهدنا من قبل، فستتأخر شعوبنا ردحا آخر من الزمن في تحقيق التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية وقد ندخل مرحلة أخرى من الاضطرابات وعدم الاستقرار. ولكن عموما أظل متفائلا بمستقبل الديمقراطية والليبرالية في بلداننا وانتصار الليبرالية لا يعني بالضرورة فوز الليبراليين في الانتخابات واعتلاؤهم سدّة الحكم إذ قد تتحقق هذه القيم والمبادئ من خلال أحزاب لا تتبنى النظرية الليبرالية صراحة.
انا ادرس النظرية السياسية في كلية الاقتصاد جامعة القاهرة وسعدت جدا بتحليل دكتور منير شكرا