حمّود حمّود : الأصوليّ وجرح الدولة
الأصوليّ وجرح الدولة
حمّود حمّود
إحدى سمات الأصولي أنه كائن ممزق: بين واقع لا شرعي مُجبر على عيشه، وشرعية يفنى وهو يبحث عنها. إضافة إلى أنّ هذا التمزق يُمثل إشكالاً دينياً يعايشه أيديولوجياً، فإنه إشكال سيكولوجي عميق. الإرهاب أحد المخارج المهمة في التعبير عن التمزق، ولكن بين اللاشرعية والشرعية هناك الدولة التي هي من أهمّ عوامل انجراح الذات الأصولية، وبدرجات متفاوتة الذات القومية العربية المنتفخة دوماً إلى ما وراء الدولة؛ ومن جهة أخرى فعامل الجرح هذا يمثل سبباً عميقاً في استمرار سقوط الدولة العربية في غير بلد.
إنّ معظم الدول العربية التي ولدت ثم استقلت في القرن العشرين قامت وفق أشكال معلبات، افتقرت إلى أهم عامل في الدولة ألا وهو العامل الوطني، ولكن مع فائض في العامل الديني والقومي. معظمها ولد وعيون نُخبِه وسياسييه أسيرة أيديولوجيات تقع خارج أسوار الدولة. العامل الوطني-الدولتي كان يستعاض عنه إما بعامل عروبي فاشي أو بديني أصولي. وحينما كان يصر الأصولي والقومي على اندماج الفرد في المجتمع وفق رابط ديني أو ثقافوي متخيل، وأنّ هذين جزء أصيل من أصالة أمة متخيلة آتية لا محالة، وأنّ مجرد الحديث يُمنع في مسائل الأقليات والمواطنة طالما أننا «شعب واحد»، فلا نستغرب ثلاث نتائج كبرى:
أولاً، صعود في الأصولية بأشكال جديدة وعنيفة أكثر من أي وقت مضى، وثانياً، أن يرافق هذا الصعود عامل مهم هو انبعاث الهويات الطائفية، العِرقية والدينية التي كانت تنظر إلى نفسها على أنها مأسورة وأسيرة فاشيات جمعية، واليوم تريد أنْ تعبّر عن نفسها هوياتياً وسياسياً، وثالثاً، الاستمرار في إسقاط فكرة الدولة. هذه النتائج مترابطة، تحدث اليوم على رغم كل «الربيع»، وتختصر عمقاً من التأزم العربي على الصعد السياسية والدينية والاجتماعية.
بالأخذ دوماً في الاعتبار والنقد أنّ الدولة، كجسم سياسي حديث، فُرضت على العرب فرضاً، ولم تكن نتاجاً طبيعياً داخلياً لحركة شروطهم التاريخية الداخلية (وإن كانت بذاتها نتاج حركة تاريخية حداثية كونية)، نكون بالفعل أمام جزء من تعقّد استمرار لا سقوط الدولة في غير بلد عربي اليوم فحسب، بل حتى الاستمرار في إجهاض الفكرة ذاتها، فكرة الدولة. هناك جرح مشرقي عميق ما زال يُعبّر عنه أصحاب العقول الامبراطورية الأمّتية الواسعة، قوميين أو أصوليين، في ما يخص لحظة الانفكاك عن «الأم العثمانية»، ذات الحضن الامبراطوري، ما أدى إلى الانضواء في معلبات دولتية أصغر بفعل حداثة سياسية كونية لم تكن يوماً من صنعهم. لحظة الانفكاك تلك كانت مؤلمة، ولم يكن السؤال «ما الحل»، سوى جزء من ذاك الألم ونتيجة الصدمة بالحائط الحداثي الغربي. إنه سؤال ما زال مطروحاً، ترافقه إجابات مخيالية أصولية قومية (مثلاً، اليوم على رغم أنف العقد الثاني من القرن الـ21، وبعد «وداع العروبة»، ما زلنا نقرأ عنواناً إمبراطورياً مخيالياً ضخماً «العروبة هي الحل»!، («الحياة»، 27 أيار- مايو 2014). وهو عنوان يستمرّ في منافسة إسلاميّة الحلّ الإخوانية والأصولية عموماً، على رغم أنّ الاثنين ينتميان إلى نظيمة مثالية لا تاريخية واحدة).
ولكنْ، إذا كان السؤال «ما الحل» جزءاً من الألم، فمعظم الإجابات لم يكن سوى تعبير عن الرفض وعدم الإرادة في الشفاء من الجرح الغربي، بخاصة جرح الدولة الذي أحدثته القوى الغربية في الجسم المخيالي العربي. ومن الطبيعي في ذاك السياق أننا لم نقرأ كلمة «شكراً» للغرب على هدية الدولة، بل كان هناك رفض لها، وأنّ ما قدمه الماضي التليد، العربي الإسلامي، يتجاوز الغرب وهداياه الإمبريالية. من هنا، فنشوء الحركات الأصولية والقومية المتزامنة (وهو ما يستمر إلى اليوم على نحو كثيف أكبر) جزء من رفض لحظة الدولة التي فرضت على العرب.
هكذا، حينما كان عام 1928 موعداً ولحظة تتويج لأصوات أصولية في التعبير عن أبنية اللادولة والهروب منها، ممثلةً بأخوة الإخوان المتجاوزة التاريخ، أو حينما نقرأ عن كاتب قومي، هو ساطع الحصري، يتجول بين العراق وسورية ومصر ليقنع المصريين بأنهم «عرب» وبكونهم جزءاً من الأمة المتخيلة وبأنّ الإسلام لا يتناقض والعروبة والاستعمار هو الذي مزقنا (أي فرض علينا الدولة)، لا نستغرب اليوم الشعور المبطن بالعداء للدولة عند قطاع فائض من الشعوب العربية، وهو الشعور الذي كان يسبق دوماً فكرتها بل حتى الإيمان بها وقيام نظرية عنها: هناك وعد بالأمة، بالفوز بالسماء، ووعد بـ «الخلاص» من القطر والتجزؤ، من الغرب والإمبريالية… الخ. لماذا إذاً الدولة؟
إشكال عميق. يسأل الأصولي نفسه لماذا يدافع عن صندوق لم يكن يوماً ما من صنعه، بخاصة أنّ عقله مثالي لا تاريخي يسبح في المقولات «الإسمية» للأمة، خصوصاً حينما يغدو هذا الصندوق متراساً أمامه يمنعه من عملية الشهيق والزفير كما تطلبها اللحظة المنفصلة من التاريخ، لحظة الأصل الأصولية. الإسلام وتطبيق الشريعة في غزة حماس هما من الأولوية بمكان، ولا بأس بتقدمهما على «حلم فلسطين» الطوباوي الذي مثّل مركزية كبرى في الهروب من الدولة عند القوميين والأصوليين على السواء. الأمر ذاته بدرجات مختلفة ينطبق على «حزب الله»: لا بأس بدولة داخل دولة، ووجود جيش أقوى من جيش الدولة (ولنتذكر بديهية ماكس فيبر عن حق استخدام القوة والعنف، الذي إليه يعود تحديد الدولة وتعريفها)، ولا بأس كذلك بالدفاع عن قضايا دينية ولاؤها الأساس للدين وقوى إقليمية على حساب لبنان… الخ. كل هذه قضايا لا بأس بأوّليتها على «دولة» لبنان، وإنْ تكسّرت عظام لبنان أو وإنْ تكسرت عظام هذه القضايا اللادولتية على ظهر لبنان.
حماس و «حزب الله» وكثير من الحركات الأصولية والجهادية في سورية، بكل ألوان الطيف، من الأمثلة المهمة الواسعة على رفض الدولة، بالتالي الاستمرار في السقوط طالما أنهم هم اليوم، مع داعميهم الإقليميين والدوليين، من يتحكم بمجرى شكل المنطقة ومصيرها. لكنهم يبقون تاريخياً أشكالاً طبيعية نهضوا من فضاء ثقافي وسياسي مريض، متمرّس في الشيزوفرينيا وعشق الأمة، ودائماً على حساب الدولة.