الرأي

حمدوك ولا جووووك

خالد فضل
كأنما البرهان وجنراليه ود الكباشي وود العطا قد هبّوا فجأة من سبات، مثل أهل الكهف فوجدوا الدنيا قد تغيّرت.
كأنّهم قبل أن يذهبوا في نومهم العميق ذاك قد تركوا جيشهم الذي درجوا فيه يفعا عقب انتهائهم من المرحلة الثانوية وإلتحاقهم بالكلية الحربية وهم أبناء بضع عشرة سنة، تركوه جيشا واحدا موحدا مهنيا ودستوريا، تسوده الروح الوطنية وتتحكم في ممارساته روح الضبط والربط الإنتماء له عبر أسس وقواعد معلومة ومنشورة ومشهورة، ليس فيها حالات (تسلل) .
كأنّهم قد تركوه هكذا، ولم يكونوا وقد دغدغ النعاس أعينهم، وهم بين اليقظة والأحلام يتسمعون طشاش طشاش عن (فاولات ) داخل منطقة الجزاء، مثل تحويل العقيدة العسكرية لتصبح (زودا) عن المشروع الحضاري، أو حشد الآلاف في معيته بشبهة (الدفاع الشعبي)، وكتائب الظل، أو تسليح القبائل تحت سمعه وبصره بحجة وأد التمرد ومحق المتربصين ، حتى شبّ عن الطوق من هؤلاء وأولئك من يمدّ لسانه ساخرا، ويؤشر بسبابته هازئا، وليهتف بعض الشباب في شوارع الخرطوم بـ (الجيش ما جيش الكيزان) الجيش جيش السودان في تذكير بليغ لمن غاب عن الوعي في سبات عميق !.
كأني بهؤلاء الجنرالات الكبار ؛ وقد جافت جنوبهم المضاجع فجأة قد تلفتوا فوجدوا (حمتّي) وقد صار بعبعا يقتضي التنويه والتحذير مما يروم وما يحوز، والرجل كان قد تعمدت مثلهم ثمّ لما تفرقنوا تفرقن، وبحصافته البدوية سخر ممن (تركنوا) بقوله لهم: الركن دي دايرة ليها قراية ودورات وأشياء من هذا القبيل.
والأمانة تقتضي إنصاف الأخير، فما نما وتدرّج وحاز ما حاز بشطارته وشيطنته فحسب، بل الواقع أنّه مولود طبيعي للحالة التي بلغها الجيش نفسه في عهد المخلوع البشير، والبرهان وجنرالاته الناقمين الآن هم أعمدة في جيش البشير وركائز !! .
حمتّي سجّل مواقف سياسية متقدمة على الجنرالات الخريجين من الكلية الحربية ، فقد رفض على أيام انطلاق التظاهرات الشبابية النسائية الأولى قمع المتظاهرين، وكان الظن (الآثم) يتوقع أنّ قوات الدعم السريع ستكون هي واجهة القمع والقتل للمتظاهرين السلميين، خاصة وأنّ البشير كان يصفهم بـ ( ناسي) ! أو كما قال المخلوع ذات لقاء جماهيري في أم روابة.
ثمّ كانت مجزرة فض الإعتصام وعقبها مباشرة قال حمتي أنّ (فخّا) قد نُصب لقواته ! وكاد في لحظة تجلي أن يبوح بكل ما يعرف حول (حدث ما حدث)، لكنه طفق بعد ذلك في بناء قواعد بلملمة عمد وشيوخ ونظار القبائل في معرض الخرطوم الدولي، سرعان ما انفض سامرهم وهرولوا بعد انتهاء مهمتهم وصرف المعلوم من مصاريف!!، ثم في الفترة الإنتقالية الأولى، برز حمتي في مفاوضات جوبا مع الحركات التي كان يقاتلها، وفي بنود الإتفاق ما يشير إلى دمج القوات كلها في جيش وطني موحد ومهني، ومن ضمنه تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية كخطوة في تحقيق العدالة والإنصاف للضحايا، ثمّ حدث ما حدث ثانية بالإنقلاب العسكري في 25 أكتوبر2021م، وعاد حمتي مرّة أخرى للتعبير عن أسفه لمشاركته فيه، وعدّه (خطأ أساسي مهدّ لعودة الفلول) ومؤخرا قال إنّه ليس لديه مشكلة مع أخوانه في الجيش مشكلته مع (المكنكشين) في السلطة !!!!!!!!!!!!!!! فهل البرهان وجنرالاته من المكنكشين؟؟؟؟
لا أحد عاقل في قلبه ذرة حس إنساني يتمنى انفجار قتال بين الجيشين المدججين بالسلاح، ضحايا مثل هذا القتال هم جنود في الجهتين من أبناء السودانيين العاديين، ومن المدنيين كذلك دون شكـ أطفال ونساء وشيوخ وشباب لا ذنب لهم مطلقا في صراع (الكنكشة) بين من في أيديهم البنادق ! الذين يؤججون النيران لتشتعل أكثرهم من يريدون شرّا بالشعب والوطن.
هذه هي الفرضية الأساسية في تقديري التي ينطلق منها تقدير الموقف.
ومع ذلك لا يمكن غضّ الطرف عن هذا التلاسن والتهييج العسكري، وما يجب قوله يجب أن يقال بوضوح، ولعل الشباب في مليونياتهم قد سبقوا ومنذ الإنقلاب- على الأقل- للهتاف الصريح (العسكر للثكنات والجنجويد للحل)!! والإتفاق الإطاري حدد (الدمج) لقوات الدعم السريع، وبالضرورة قوات ما تسمى بالحركات؛ وإن كانت أعدادها قليلة، وحمتي مهر الإتفاق الإطاري بتوقيعه وهو عارف بمحتواه، فلماذا التشنيف الشديد من جانب البرهان وتأكيده البايخ بأنه ما وقّع على الإطاري إلا لنصه على دمج الدعم السريع!! كأنما يريد أن يقول إنّه ضد ولا يوافق على كل ما ورد في ذلك الإتفاق عدا بند واحد، في حين يتقدمه حمتي بتأكيداته المستمرة على تمسكه بكل الإتفاق .
لقد سبق للدكتور عبدالله حمدوك تقديم ورقة- خارطة طريق- للإنتقال الديمقراطي، وأشار بوضوح إلى العقبات التي تواجه الإنتقال وعلى رأسها التشظي السائد بين كل المكونات المدنية منها والعسكرية، فماذا كانت استجابة العسكريين لتلك التحديات (الإنقلاب) على كل العملية، ثمّ ها هي حالة التشطي بينهم تصل إلى تخوم التراشق.
صحيح التشظي المدني المدني واقع بغيض وذميم لكنه على كل حال لا يرقى إلى خطورة التشظي العسكري العسكري، فهناك اللغة هي السلاح بينما الرصاص هو لغة العسكر، وشتان بين اللغتين مهما احتدت لغة المدنيين .
إنّ د. حمدوك يبقى من الخيارات المعقولة والموضوعية لمنصب رئيس الوزراء في الفترة الإنتقالية الجديدة؛ فالرجل من خلال فترته الأولى عرف الكثير من مواطن الذلل، وأسهم برؤيته المكتوبة في تحليل الواقع واجتراح الحلول ، وأتصور أنّه يُحظى بمقبولية معقولة وسط غالبية الشعب، رغم بعض التحفظات عليه من جانب البعض ، وهي تحفظات مشروعة كذلك.
عودة حمدوك ربما تخفف قليلا من حالة جووك جووك السائدة حاليا ورمضان كريم.
*نقلا عن صحيفة التغيير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى