الرأي

حكايات عن فانتازيا النشوة

حكاياته وقال: حدثني أحد الباحثين الاجتماعيين عن تفاصيل بحثه عن تنفيذ عقوبة السكر، قال إنه اختار يوم السبت لبحثه، وذلك بحرفة مدربة وملاحظة عن حالة كون يوم السبت هو اليوم الذي يقدم فيه أولئك المارقون الخارجون عن الشرائع، المنتمون إلى ممارسة نشوتهم إلى المحاكمة، وذلك بعد قضاء يوم الجمعة داخل الحراسات المتناثرة هنا وهناك في جهات المدينة الأربع، لأن يوم الخميس هو ذروة ممارسة هذا الطقس الخارج عن القانون (يوم الخميس فرح المطاميس) أو (يوم الخميس صفقة ورقيص) أو (خميسك لو تبيع قميصك).
قال الباحث إنه اختار يوم السبت حتى يتمكن من اختيار نماذجه بتنوع يخدم البحث.
حدث عباس الوناس، قال: دخل الباحث ذات سبت محكمة وسط المدينة التي كانت مكتظة بأولئك السكارى المنتمين إلى نشوتهم، سجل الباحث عددهم الكبير على دفتره بعد أن صاح بأسمائهم رجل الشرطة المسئول عن ذلك، حرص الباحث على مشاهدة تنفيذ العقوبة– عقوبة الجلد – وكتب في دفتره ملاحظاته الدقيقة عن كيفية استقبال أجساد أولئك المعاقبين لضربات السياط الأربعين.
حاول الباحث أن يجري أحاديث وحوارات مع المقبوض عليهم ليلة الخميس داخل حراسة (شمال المدينة)، ولكن قوبل بالرفض شديد اللهجة من الضابط المسؤول، ولكنه استطاع تسجيل بعض الملاحظات عن عددهم الذي كان كبيراً، ولاحظ اكتظاظ الحراسة حتى ضاقت بهم.
في ظهيرة ذلك السبت وأمام المحكمة، محكمة (جنوب المدينة) بعد أن دون الباحث على دفتره ملاحظاته عدد المحاكمين، تعرف الباحث على عدد لا يستهان به من (الجليدين)، جمع (جليد) بكسر الجيم واللام.
و(الجليدون) هم أولئك الذين يجلدون بدلاً من المعاقبين الأصليين ممن توفرت لديهم إمكانيات مادية لأن (الجليد) يأخذ مبلغ ألف جنيه على السوط الواحد أي أربعين ألف على العملية، وعرف الباحث أن هنالك مبالغ أخرى تخص السلطات التي تحمي وتستفيد من هذا النوع من المهام، وأن المبلغ الكامل لهذه العملية قد يصل إلى ثمانين ألف جنيه أو أكثر حسب نوع المساومة والمساوم، ويقسم باقي المبلغ بعد أن يأخذ (الجليد) ثمن الأربعين سوطاً التي استقبلها جسده بقدرة محترف على شخصيات ذات سلطة عسكرية وقانونية.
لم ينس الباحث أن يسجل حواراً مطولاً مع أحد (الجليدين) الذي قال إنه مارس هذه المهنة بقناعة ورضاء تام، وأكد أنه يكسب من عرق جبينه، وأن مهنة (الجليد) مهنة شريفة.
وأكد الجليد للباحث أنه لم يقرب الخمر في حياته، وأنه يواظب على صلاة الصبح حاضراً في الجامع، وأشهر حجاباً مجلداً يلبسه على ذراعه اليمنى، قال إن هذا الحجاب يخفف وقع السياط الأربعين على جسده، ولكي يقوم هذا الحجاب بمهمته يجب عليه كـ (جليد) أن يتوضأ قبل وبعد الجلد.
حين كان الباحث يجلس داخل صالة محكمة (غرب المدينة) يدون ملاحظاته على دفتره، لاحظ أن الكثيرين من المقبوض عليهم بتهمة السكر يصارعون القاضي ويجادلونه بحجج تحاول أن تذهب نحو إنكار التهمة، إلا أن أحد المتهمين قد لفت انتباه الباحث، حين وقف ذلك أمام القاضي، سأله القاضي:
)سكران مش كده؟(
(وبايتة معاي كمان)
دهش القاضي، وحين حاول أن يدخل معه في حوار حول تهمته حسم المتهم الأمر قائلاً:
(إنت سألتني وأنا جاوبتك، أعمل الإجراءات خلينا نتخارج. أنا ما عندي زمن)
وقف الباحث، وقرر متابعة هذا المتهم الاستثنائي حتى مرحلة تنفيذ العقوبة. وقف ذلك المتهم أمام الشرطي الذي يقوم بتنفيذ العقوبة ووقعت على جسده الأربعين سوطاً دون أن ترمش له عين، وحين انتهى الشرطي من مهمته التفت إليه ذلك المتهم بابتسامة واضحة وصافح الشرطي بحرارة قائلاً:
(شكراً جزيلاً يا أخي)
الأمر الذي جعل ذلك الشرطي يقف كتمثال تتحرك منه العيون التي تابعت بدهشة معلنة المتهم وهو يتحرك ذاهباً، فما كان من الباحث إلا أن ركض وراء ذلك المتهم غير المبالي وحين لحق به وأمسكه من كتفه قائلاً:
(يا ابن العم ممكن دقيقة؟ أنا عندي بحث عن عقوبة ….)
نفض ذلك المتهم يد الباحث عن كتفه قائلاً:
(يا أخينا ما تمشي تشوف ليك شغلة تانية)
في محكمة (شرق المدينة) تابع الباحث أحد المتهمين، كان رجلاً أشيب الشعر بعض الشيء عليه ملامح من وقار قديم، يبدو أنه قد تجاوز العقد الخامس ولو بقليل، آثار حبسه في الحراسة ليلة الخميس والجمعة ظاهرة على ملابسه، خاصة القميص.
وقف ذلك الرجل أمام الشرطي المنفذ للعقوبة، كان محمر العيون. ومع ضربة كل سوط كان الرجل يهتز وعلى طريقة تفادي تلاميذ الابتدائي لسياط المدرسين، ومع كل سوط يصرخ متألماً وبصوت متحشرج ومغبون، وحين انتهى تنفيذ العقوبة، مر الرجل في طريقه بالباحث الذي قذف نحوه بسؤال مباغت:
(الأستاذ شغال شنو؟)
فكان أن رد الرجل وبصوت باكٍ وفيه أنات مكتومة:
(باشكاتب)
دون الباحث تلك الملاحظة على دفتره وهو يضحك.
فجر عباس الوناس ضحكته المميزة وأشعل سيجارة، ومن بين بخة الدخان الأولى، قال:
(في تجوال ذلك الباحث على كل المحاكم لاحظ العدد الكبير من المعاقبين، لكنه حين دخل ذات سبت على المحكمة التي تختص بقضايا وأحداث الحي (س)، وجد أن المحكمة خالية تماماً من أولئك المتهمين المنتمين لنشوتهم. لا أحد هنا يمارس عليه ذلك الحد الشرعي، وحين كرر زيارته في السبت القادم وجد أيضاً أن المحكمة لم تستقبل هذا النوع من المعاقبين مجال بحثه، وهكذا وجد نفس ذلك الغياب في زيارته الثالثة فاحتار ذلك الباحث وقرر أن يعرف السبب وراء غياب هذا النوع من المتهمين عن محكمة الحي (س).
تجول الباحث في الحي (س) نافياً فكرة أن السكان فيه قد خاصموا نشوتهم بالامتناع عن شرب العرقي وهم مشهورون بذلك، قرر وأصر على معرفة السبب وراء ذلك.
حين طرق الباحث أحد أبواب بيوت الحي (س)، استقبله صاحب البيت وبعد طقوس الضيافة المعتادة، قدم الباحث نفسه قائلاً: الحقيقة، أنا باحث اجتماعي، وعندي بحث عن تنفيذ عقوبة السكر. لاحظت انو المحكمة المختصة بقضايا الحي بتاعكم ده ما فيها أي زول متهم بي سكر، يعني المحكمة فاضية خالص من السكارى، يعني مثلاً ناس الحي (س) بطلوا السكر؟
ضحك صاحب البيت قائلاً:
تعرف نحنا هنا حلينا المسألة دي خالص، فبدل المساسقة في المحكمة هم بجوا يجلدونا في البيوت وبنديهم حقهم
اختلت هنا موازين الباحث، وفجر عباس الوناس ضحكته الصاخبة الساخرة وهو يقذف بسيجارته بعيداً عن مجلس حكاياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى