الرأي

جبريل محمد الحسن/مشارح الخرطوم وحرمة جسد الميت

(فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِى ٱلْأَرْضِ لِيُرِيَهُۥ كَيْفَ يُوَٰرِى سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَٰوَيْلَتَىٰٓ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَٰرِىَ سَوْءَةَ أَخِى ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّٰدِمِينَ)

صدق الله العظيم

وددت لو اصحو يوما ولا أجد أمام عيني عيبا يستحق الوقوف عنده والكتابة عنه.. حتى أنه اختلطت علي الأولويات، أيهما أولى بالكتابة والتعليق.. ولكن ذلك لم يحدث ولا مرة واحدة.. لعل الكتابة في تلك المواضيع تشفي بعضا من غيظي وتحسري، ثم لعلي بالكتابة اجد من يشاركني هذه المآسي، واخيرا عسى ولعل، أن تصادف الكتابة لحظة يتحرك فيها الضمير الإنساني، وتتيقظ بموجبها الوطنية بعد طول سباتها، عند أحد المسئولين فينبري بشهامة، مشمرا عن ساعد الجد، للعمل على التصحيح وإعادة الأمور إلى نصابها ..

كنت يوما أشاهد التلفاز السوداني فإذا بشاب يقول انه مدير مخالفات الشوارع ويطلب من المواطنين التبليغ الفوري عن أية مخالفة على الشوارع بالعاصمة وموضحا على الشاشة رقما للاتصال به..

فهل يا تري تحتاج مخالفات الشوارع إلى هذا القدر من الإعلان لاكتشاف ذلك المجهول والتبليغ عنه ليقوم المسئولون بالتحرك الفوري لازالته ؟؟..

وانا اقول لهذا المدير أنني على استعداد للكتابة والقيام بالترشيح لإعطاء جائزة، تبرعا من فضلاء الرأسمالية الوطنية، لمن يبلغ عن شارع بالعاصمة لا توجد فيه مخالفة!! .. ولكن السيد المدير يريد أن يرسل رسالة إلى الشعب المنكوب مفادها أنه زول شايف شغلو!! ..

ونعود إلى موضوعنا الأساسي لهذه المقالة وهو حرمة جسد الميت في مشارح الخرطوم .. فقد شاهدت قبل يومين على قناة الحدث تقريرا قدمته المراسلةلينا يعقوب عن مشرحة الخرطوم..اوردت فيه أنه يوجد أكثر من ثلاثة الاف جثة موزعةعلي ثلاث من مشارح الخرطوم لم تشرح بعد، ولم تدفن، وقد تعفت، وتحللت، حتى أنه يصعب الوقوف أمام بوابة المشرحة، من شدة الروائح النتنة.. التقت المراسلة بمدير المشرحة الذي ذكر لها أن هذه الجثث موجودة منذ عام ٢٠١٩.. وأنهم في الماضي، كانوا يستقبلون يوميا ثلاثةجثامين ثم يشرحونها ويدفنونها،الي أن وصلهم خطاب رسمي بعد أحداث ٢٠١٩ من جهة عدلية معلومة بعدم الدفن أو التشريح حتى تتبين شخصيات تلك الجثامين لأنه تم التبليغ عن مفقودين كثر ولم يعرف شيئا عن فقدانهم .. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تتوالى علينا الجثامين دون التوجيه، بالدفن أو التشريح، حتى بلغت هذا الرقم المخيف .. واستطاعت الكاميرا أن تنقل لنا طريقة الاحتفاظ بهذه الجثامين، وهي ملقاة على الأرضية، متراكمة بعضها فوق بعض ، بدون تكييف، وبدون اية معالجة كيمائية، وقد خرجت منها تلك الروائح الكريهة، وتولد الدود، وكثير من الديدان، والآفات الأخرى.. وذكر الفني المسئول بالمشرحة في اللقاء، انه بطول المدة تحللت تلك الجثامين، وأصبحت مرتعا لنقل الفيروسات، ونقل الأمراض المعدية، وأنه لو نسي ودخل المشرحة حاملا جواله فلن يستطيع بعدها أن يحمله معه إلى منزله خشية أن يكون قد تلوث واصبح ناقلا للأمراض..

أن لجسد الميت حرمة، فهو يسمع ويري ويشعر بكل ما حوله.. قد اثبت العلم المادي ذلك.. فإنه من الأدب مع الميت عدم رفع الأصوات في حضرته، والهدوء والسكينةوالخشوع عنده، والتعامل مع جسده بلطف كبير ورقة ولين، عند الغسل وعندالتكفين، ثم وضعه على القبر بصورة تكون رقدته فيه مريحة، ورقبته مستقيمة غير متدلية ولا منحنية.. وان يلتف حوله الكبار والاتقياء فإنه يجد بركتهم عليه.. فإنه من هذا الجسد نبعث يوم القيامة (وَنُفِخَ فِى ٱلصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ ٱلْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ..)(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ) وهو لا يفني ولكنه قد يتغير من حال إلى حال اخري.. وهو يأتي شاهدا يوم القيامة(وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوٓاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَنطَقَ كُلَّ شَىْءٍۢ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍۢ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ..) وستقبل شهادته عند الله لأنه لا يكذب.. فإذا كان القلب بيت الرب فإن الجسد هو بيت القلب.. هو الكتاب الأعظم.. هو أعلم ما في الإنسان..وقد كان النبي يتحدث مع اجساد الكفار في القليب ويقول لأصحابه :ما انتم باسمع مما اقول منهم.. وإن الحجر، بله الجسد، كان يسلم عليه في مكة ويشهد له بالنبوة..

أن جسد الميت لهو امانة من الله جعلها في أعناق الأحياء من البشر .. ووجب عليهم أن يردوا الأمانات إلى أهلها ويتعاملون معها بالادب الكافي الذي يليق بصاحب الأمانة وفق ما أمر الله ..

ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حرمة الميت؟

يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا) , ولم تنته عناية الشريعة بالإنسان بانتهاء حياته، بل امتدت إلى ما بعد موته، فجعلت حُرمة الميت كَحُرْمة الحيّ، فحرَّمت أن يُوطأ قبره، أو تُقضى عنده الحاجة، أو تُوضع القاذورات بِقرب قبره، فضلاً عن حرمة حرق جثته..

فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كَسْرُ عَظْمِ المَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا)..

قال: خرجنا في جنازة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا جئنا القبر فإذا هو لم يفرغ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم على شفير القبر وجلسنا معه، فأخرج الحفار عظما – ساقا أو عضدا – فذهب ليكسرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تكسرها، فإن كسرك إياه ميتا ككسرك إياه حيا، ولكن دسه في جانب القبر)..

هذا من حيث القيم والأخلاق الدينية والعرفانية والانسانية..

اما من حيث المعايير والمقاييس الصحية فقد وضعت حكومة الامارات، على سبيل المثال، معايير محددة للمشارح اوردتها صحيفة الرؤية :

حددت الشروط الحد الأدنى من المساحة المطلوبة للجسم بـ(3) أمتار مربعة، في المستشفيات التي تتعامل مع الأجسام البدينة، ويجب أن يكون حجم الصواني وقدرة تحمل الوزن وفقاً لذلك، والتأكد من أن خزائن الجسم لديها مخصص لوضع العلامات المناسبة لضمان هوية الشخص المتوفى، كما يجب أن تكون درجة الحرارة في خزائن الجسم +2 إلى +6 درجة مئوية..وبالنسبة لحالة التخزين طويل الأمد للجثث التي لم يتم تحديدها بعد، يجب أن تكون درجة الحرارة سالبة (-15 إلى -25 درجة مئوية).

وشددت الشروط على مراقبة درجة حرارة خزائن الجسم بشكل يومي وتوثيقها، وفي حالة تغير درجة الحرارة، يجب على مشرف الجثة الاتصال بمهندسين أو قسم الطب الحيوي على الفور لاتخاذ الإجراءات التصحيحية.

وعن منطقة غسيل الجسم (إن وُجدت)، أكدت المعايير على أن تكون مجاورة لمنطقة تخزين الجسم مع طاولة من الفولاذ المقاوم للصدأ ومنشأة صحية متكاملة مع خرطوم قابل للتمدد في وسط الغرفة، ويجب أن تكون هناك مغسلة منفصلة لليدين، وأن تكون المقاعد وصناديق النفايات ومرافق التخزين من مادة الفولاذ المقاوم للصدأ.

وحول شروط منطقة الانتظار وغرفة التحضير، أكدت الشروط على ضرورة أن تكون مساحات مصممة بشكل مريح لتجنب أي إصابة محتملة للموظفين وأفراد الأسرة وموظفي الصيانة، وأن هذه المناطق مخصصة لأفراد العائلة أو الأصدقاء، وبالتالي يجب أن يكون لها دخول منفصل عن بهو الخروج دون تعريضهم للخطر والتلوث، ويجب منع دخول غير المصرح به إلى المشرحة لأسباب صحية وأمنية.

وحول منطقة التخزين والدعم، أوضحت المعايير أنه يجب أن تحتوي ثلاجة الموتى على: مساحة تخزين كافية للمواد الاستهلاكية مثل أكياس الجسم البلاستيكية والمواد الاستهلاكية الأخرى، خزائن قابلة للقفل للمتعلقات الشخصية للمتوفى، خزائن للنفايات، خزائن للأكفان، وغرفة مخصصة لمعدات التنظيف.

وحول مناطق الموظفين، أكدت المعايير على وجود أماكن لتبديل الملابس الشخصية والأغراض الأخرى وكذلك لمخزون الملابس الواقية النظيفة كما يجب أن تكون هناك وسيلة مناسبة لنقل الجثث حيث يجب مراعاة كرامة المتوفى.

وشددت المعايير على نقل المريض المتوفى المصاب بأمراض معدية وفقاً للمادة 18 من القانون الاتحادي رقم 27/1981 بشأن الوقاية من الأمراض المعدية والقوانين اللاحقة بشأن مكافحة الأمراض المعدية (2014 و2016).انتهى..

نحن بالطبع لا نطالب أن تكون مشارحنا كالتي بدولة الإمارات،ولا بالتي في أمريكا ودول الغرب، ولكننا نطالب بمراعاة الحد الأدنى من مقومات المشارح، والتي تحتفظ بكرامة الإنسان ميتا، ثم تؤدي المهام المنوط القيام بها في تحقق الاغراض الطبية والقانونية من إنشاء المشارح .. وان عجزنا عن ذلك فعلينا أن نعلن بشجاعة، اننا لا نملك مشارح طبية ومن ثم يتوجب علينا ان نتعامل مع الموتى على قاعدة (إكرام الميت في دفنه)..

فإذا كان الهدف من عدم دفن تلك الجثامين هو أن تكون خيطا يدل على المفقودين، رغم عدم جاهزية المشارح، ورغم تحلل الجثامين، فما الذي يضير لو تم دفنها وحدد مكان الدفن على ان يتم نبشها وتشريحها وقت الحاجة إليها للوصول إلى هذا الهدف المنشود؟؟ .. فإذا كان الخوف من الدفن انه سيؤدي الي تحللها فإنها قد تحللت بالفعل وهي داخل المشرحة، بل وتعدي ضررها إلى آخرين كذلك.. فهل دلت هذه الجثامين طيلة هذه الفترة الي التعرف على احد من المفقودين؟؟ ، وهم كثر؟؟ ..

ما يتم اليوم في مشارح الخرطوم الثلاث هو قمة الاستهتار بالقيم الدينية والأخلاقية والإنسانية والطبية.. ثم هو مخالفة صريحة لكل القوانين والأعراف المحلية والدولية.. ويجب ألا يمر دون محاسبة كل من كان له دور في انتهاك هذه الحرمات المقدسة والتلاعب بصحة المواطنين وصحة البيئة..

لقد طفح برنامج من بيوت الأشباح التلفزيوني بشهادات كثر من شرفاء ذكروا انهم كانوا يعذبون في بيوت تقل درجة الحرارة فيها من الصفر المئوي.. إلا كان الأجدر أن تخصص هذه البيوت لحفظ الموتى بدلا من استغلالها في تعذيب المناضلين الشرفاء من الأحياء؟؟ وترك مشارح الموتى للتحلل والتعفن بسبب انعدام التكييف؟؟

قال السيد مالك عقار يوما في لقاء تلفزيوني انه يستغرب أن يكتب مثقف سوداني عن بلده ( ملعون ابوكي بلد) ويقصد الحردلو.. ونحن نستعين بصديق، على نهج قرداحي، هو الدكتو محمد عبد الله الريح، ليختار لنا تعبيرا يتناسب والحالة المزرية التي نعيش فيها اليوم، ثم ننجو بعده به من تهكم السيد عقار ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى