ثلاثة خيارات، لا أكثر، لمخاطبة الحرب
إما الحفاظ على الثورة والوطن، أو الحفاظ على الوطن على حساب الثورة، أو ضياع الإثنين معاً
*محمد سليمان عبدالرحيم
الذين أشعلوا هذه الحرب لن يوقفوها استجابة لنداء أو مذكرة أو استغاثة، وإنما فقط لو فرضت قوة ما ذلك الأمر فرضاً عليهم، وحتى الآن ليس في الأفق ما يشير إلى وجود هذه القوة. ليست لدينا أي أوهام بأن الدعم السريع أو الجيش، في حال انتصار أي منهما على الآخر، سيعمل على قيام دولة مدنية ديمقراطية. إن لم نتمكن من وقف هذه الحرب بأسرع ما يمكن وفي أقصر فترة ممكنة، فإنها لن تبقى ولن تذر، وستعصف بما تبقى من الوطن تماماً. لأربع سنوات ظل العقلاء يحذرون مما تحت الرماد من وميض نار، ومن المخاطر الماحقة المحدقة بالبلاد، ومن نذر الحرب التي تملأ الآفاق، ولكن تلك التحذيرات ظلت تقابل من جانب معظم القوى السياسية بالاستهزاء والاستهجان، وبأنها مجرد فزاعة لا أكثر ولا أقل، لأن تلك القوى كانت تؤمن بأن الخطر الأعظم ليس هو ما يهدد وجود الوطن، وإنما ما يهدد مطامحها ومطامعها هي، وما يقطع الطريق أمام وصولها للسلطة. الآن هاهي الحقيقة المرة تصم الآذان بدوي المدافع وتعمي العيون بسطوع ألسنة الحرائق والانفجارات، وتزكم الأنوف بروائح الجثث التي تغطي الشوارع والساحات. حتى الآن، ليست هناك في الأفق أي مؤشرات لكيفية التصدي لهذه الكارثة الفادحة، وما زالت حركتنا السياسية توالي إصدار البيانات الفاترة والنداءات الباهتة، التي لا تهدف إلا لإبراء الذمة وإراحة الضمير وإلقاء المسؤولية على الآخرين. في اعتقادي أن هناك ثلاثة خيارات رئيسية، فقط لا غير، أمام حركتنا السياسية ومجتمعنا المدني لمخاطبة هذه الحرب. بالطبع يمكن أن تكون هناك اختلافات في تفاصيل هذه الخيارات هنا وهناك، ولكنها تبقى الخيارات الرئيسية،والتي يتعين على حركتنا السياسية وعلى منظمات مجتمعنا المدني أن تختار من بينها طريقها للتصدي لهذه الحرب. هذه الخيارات الثلاثة هي:
الخيار الأول: الدولة المدنية الديمقراطية بوحدة قوى الثورة:
هذا الخيار يشترط أولاً وعي كافة قوى ثورة ديسمبر 2018 ، وخاصة القوى والأحزاب السياسية، بأن هذه الحرب هي النتاج الطبيعي والمنطقي لأخطائها الفادحة طوال السنوات الأربع الماضية، ولانقساماتها غير المبدئية، ولإعلائها من شأن خلافاتها الثانوية على التناقض الرئيسي مع فلول النظام البائد. تلك الخلافات والانقسامات هي التي أتاحت الفرصة للفلول للعودة من جديد، ومنحتهم شريان الحياة بعد موت، وسمحت لهم بالسيطرة على المشهد وفرض أجندتهم وإشعال الحرب. إذا ما استبانت قوى الثورة أخطاءها تلك، وامتلكتها وتحملت المسؤولية عنها بكل شجاعة، وأعلنت استعدادها لتجاوزها باستلهام الدروس والعبر الصحيحة منها، وتوحيد قواها كافة لمجابهة الأخطار الماحقة التي تحيط بالثورة وبالوطن وبالشعب، فإن ذلك يقتضي منها التوجه فوراً لبناء الجبهة المدنية الديمقراطية الشعبية الواسعة على أساس برنامج حد أدنى واضح لإيقاف الحرب وحماية التحول الديمقراطي وبناء السلطة المدنية الكاملة. هذه الجبهة، هي الكيان الوحيد القادر على مواجهة العساكر وفلول النظام البائد، ويجب أن تضم كافة القوى السياسية وقوى المجتمع المدني التي شاركت في ثورة ديسمبر ولجان المقاومة والنقابات والنقابات التسييرية واللجان التمهيدية وغيرها. كما يجب أن تعلن عن نفسها كقيادة سياسية، وكسلطة شرعية وحيدة، وأن تضع برنامجاً فعالاً للمقاومة المدنية الشعبية للحرب ولانتزاع الشرعية من طرفيها وفي النهاية بناء جيش وطني قومي مهني واحد عبر تفكيك الوجود الكيزاني في الجيش وتفكيك البنية العشائرية والقبلية في الدعم السريع وعودة المفصولين من القوات النظامية. هذا الخيار هو الأمثل، ولكنه بالطبع يظل هو الخيار الأصعب.
الخيار الثاني: الحفاظ على الوطن بالتوافق الوطني العريض
إذا فشلنا في الحفاظ على الثورة عبر إنجاز الخيار الأول، وهو الأمر الأكثر احتمالاً، فإن علينا العمل للحفاظ على وجود الوطن من خلال الخيار الثاني. يقوم هذا الخيار على التوصل إلى وفاق وطني عريض وشامل يتضمن، بوضوح ودون مواربة، التوصل إلى تفاهمات مع الحركة الإسلامية لوقف الحرب والخراب والدمار وسفك دماء الأبرياء الجاري الآن، وإقامة حكومة مدنية تمثل فيها جميع القوى السياسية وبمقتضاها تخرج المؤسسة العسكرية والقوى النظامية من العملية السياسية تماماً. هذا الخيار يعني التخلي عن معظم أهداف ثورة ديسمبر المجيدة، ولكن يجب أن يكون واضحاً للجميع أن هذا هو الثمن الذي سندفعه لقاء فشلنا في تنفيذ الخيار الأول. يحتاج هذا الخيار الي شجاعة من كل الاطراف وخاصة الاسلاميين لتحمل مسؤوليتهم عن كل ما ارتكبوه في حق الوطن والشعب ومواجهة تبعات ذلك امام قضاء مستقل عادل ونزيه. ربما يكون بإمكاننا تنفيذ بعض الأهداف إلى حدود متدنية، وربما أمكننا فكفكة التمكين في بعض الأجهزة وإجراء إصلاحات في أجهزة العدالة، وهذا أفضل من لاشيء. نضع في اعتبارنا أن غياب الدعم السريع من الصورة قد يساعد العناصر الوطنية والمهنية القليلة الموجودة داخل الجيش على رفع صورتها والحد من سيطرة الإسلاميين على هذه المؤسسة. المهم أنه يمكن، وفق هذا الخيار، إعادة الحياة إلى طبيعتها واستعادة الدولة والحفاظ على الاستقرار والأمن والشروع في إعادة بناء ما دمرته الحرب. يمكن تنفيذ هذا الخيار إما وفق برنامج تقليدي لفترة انتقالية قصيرة المدى ببرنامج متواضع يوفر آلية لصياغة الخيارات الدستورية وطرحها في استفتاء وطني، ثم تهيئة البلاد لانتخابات عامة في نهاية الفترة، أو وفق برنامج لفترة انتقالية طويلة المدى تتضمن خطة طموحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتحسين البنية التحتية والخدمات. بالطبع هناك تحديات كبيرة أمام هذا الخيار، ولكنه، في الظروف الحالية، يبدو أكثر واقعية من الخيار الأول.
الخيار الثالث: لا ثورة ولا وطن، بل حرب وأوهام بلا ضفاف
الخيار الأخير لايحتاج منا لأي جهد إضافي، لأنه يمثل الوضع الحالي لا أكثر ولا أقل، حيث يتخندق كل منا في موقعه، ويتمسك بأن أوهامه التي أثبتت فشلها الذريع طيلة الفترة السابقة هي المخرج الوحيد للبلاد، وحيث نكتفي بتبادل أقذع الشتائم والاتهامات لبعضنا البعض أو لطرفي الحرب ودعوة السماء أن تخسف بهم الأرض أو أن تنزل علينا قوات قوات أجنبية للفصل بين القوات، أو استجداء تدخل سفارات لا تملك الآن توفير ملاذات آمنة لرعاياها، أو الاستمرار في إصدار البيانات والمذكرات المبرئة للذمة التاريخية فقط لا غير. هذا الخيار سيؤدي، ببساطة، إما إلى انتصار أحد الطرفين، بما يمكنه من توطيد سلطته ثم التفرغ لتصفية قوى الثورة الحقيقية والقضاء على الثورة قضاءاً مبرماً، أو إلى تمدد الحرب واشتعالها في كل أرجاء البلاد وإطالة أمدها وفتح المجال للتدخلات الأجنبية السافرة وربما احتلال أجزاء من البلاد وغيره، وفي النهاية انزلاق البلاد في هاوية بلا قرار.
هذا المقال هو رسالة إلى كل قوي الثورة، وخاصة القادة السياسيين، هذه المرة أنتم لا تملكون ترفاً من الوقت، فكل دقيقة تمضي تحمل في طياتها أرواح مئات الأبرياء إلى اللا عودة. الخيارات واضحة، تحتاج فقط إلى الشجاعة والصدق، والقرار بايديكم.