قضايا فكرية

تيارات الفكر العربي وسلطة الأنموذج..بقلم:د. عباس رحيم عزيز

د. عباس رحيم عزيز..

في الوقت الذي كان يعاني فيه الشرق جزرا حضاريا وركودا ثقافيا في اثر حضارة دامت قرونا عديدة قدمت خلالها للانسانية انجازات رائعة، شهدت اوربا نهضة حضارية وضعتها على مشارف حياة لم تكن لها عهد بها، ادت إلى انتقال الثقل الحضاري من الشرق العربي الى الغرب الأوربي.

والنهضة الأوربية بوصفها ظاهرة حضارية كما يؤكد عدد من المؤرخين كانت نتيجة مباشرة لسقوط “القسطنطينية” على ايدي المسلمين الاتراك، وتحول البيزنطينيون مع مخطوطاتهم اليونانية القديمة الى ايطاليا اذ (استيقظت اوربا وغدت متلهفة للمعرفة الجديدة)(1).

وقد لعبت الطبقة البرجوازية النامية دورا رئيسا في النهوض باوربا وخاصة الفئة المثقفة منها، فقد وقع على عاتق هذه الفئة القسط الاكبر من مهمات التطوير المادي والفكري.

وقد اتسعت افكار عصر النهضة بطابعها الثوري المتمرد على الاوضاع القائمة، لانها في مجملها تمثل افكار الطبقة البرجوازية وتطلعاتها، فافكار عصر النهضة تناقض تماما قيم مجتمع عصر الاقطاع واخلاقياته، مما جعلها تفضي الى نتائج اجتماعية وثقافية ساهمت على نـحو كبير في تقدم المجتمع الاوربي والتحول به من الاقطاع الى الراسمالية، وهو ما كان ايذانا بتسنم اوربا قيادة العالم والتحكم فيه. وقد افرز مسار حركة التغيير التي كانت قد بدأت داخل النظام الجديد والتحولات الجوهرية في بلاد اوربا مواقف جديدة من الطبيعة والانسان والعقل.

فقد عد مفكرو عصر النهضة الطبيعة العالم الحقيقي الذي يجب ان يحظى بكامل اهتمام الانسان لانه ليس عالما وهميا وزائلا كما كان ينظر اليه من قبل، وانه عالم خليق بان تنصب كل جهود الانسان للكشف عن قوانينه، وتكوين معرفة كافية عنه وتضمن هذا الموقف الجديد من الطبيعة تحولا جوهريا عن القيم الاخروية الى القيم الدنيوية الارضية.

الموقف الاخر المهم ايضا: هو إيمان الإنسان،أهم موجود في العالم، وانه مصدر القيم، وهو العامل الفاعل في التقدم ؛ هذا ما روج له مفكرو عصر النهضة الذين اسسوا لثقافة ابرز خاصية فيها تاكيدها على ” الذات ” وشخصية الفرد حيث اصبحت قيمة الفرد كامنة في ذاته لا في انتمائه الطبقي او العرقي، فقيمة الفرد تحددها قيمة ما ينتج او ما يحسن.

اما الموقف الثالث المهم بدوره في هذا السياق فهو الإيمان بالعقل، وبأنه ميزة الإنسان ومصدر تفرده وتفوقه، وانه الأداة التي يجب ان يعتمد عليها الانسان للوصول الى الحقيقة(2).

هذه المواقف عمت الفكر الاوربي منذ عصر النهضة، فتحول هذا الفكر من المنطق الغيبي الى المنطق التاريخي ومن المنطق المطلق إلى المنطق النسبي ومن الساكن إلى المتحرك وبطبيعة الحال فان المسار التاريخي للنهضة العربية بشكل مختلف تمام الاختلاف عن مسار النهضة الاوربية، فالنهضة الاوربية بعلمانيتها وانسانيتها وعقلانيتها وتصديها لاقدس مقدسات المجتمع كانت نتيجة الكشف والمبتكرات وتناقضات هياكل الإنتاج، والسؤال الذي يواجهنا الان هو: ما الاشكالات الحضارية المترتبة على التباين الجذري في السياق التاريخي بين النهضتين العربية والغربية؟.

إنّ مصطلح ” النهضة الماخوذة من مادة ” نهض ” التي تدل على الحركة والاضطراب، من المصطلحات الجديدة في الثقافة العربية، وهو يشير الى مضمون الكلمة الفرنسية (Renaissance) التي تعني ميلادا جديدا، وهو مصطلح وجد في الفكر الاوربي في القرن التاسع عشر الميلادي للاشارة الى التيار الفكري الذي انطلق من ايطاليا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين ليعم اوربا بعد ذلك داعيا الى احياء التراث الافريقي – الروماني لنقل الفكر القروسطي وشمل العلوم والفنون والاداب كافة. بمعنى ان هذا المصطلح الجديد (Renaissance) الذي ترجم الى كلمة ” نهضة ” يشير في الثقافة الاوربية الى واقع تاريخي له وجود سابق، فهو مصطلح مصاغ ” بعديا ” اي انه يشير الى موجود متحقق فعلا فهو دال اذا ما اطلق استحضر في الذهن مدلولا خاصا، هذا في الفكر والثقافة الاوربيين، اما في الفكر العربي او الثقافة العربية فان الوضع مختلف تماما، فهذا المصطلح لا يشير الى واقع ” متحقق ” كما هي الحال في الفكر الاوربي وانما الى واقع “مأمول التحقيق” بمعنى ان المصطلح في الثقافة العربية مصاغ ” قبليا ” لا ليشير الى موجود فعلي ومتحقق وانما الى موجود ممكن التحقيق(3).

النهضة العربية

النهضة العربية لم تتحقق بعد، وعندما يتحدث المفكرون عنها فانما يتحدثون في الحقيقة عن ” مشروع نهضة ” وهذا المشروع لم يتحقق بعد لا على صعيد التصور الواقعي فحسب وانما على الصعيد الذهني ايضا(4). فما الذي نتحدث عنه اذن؟ اننا في الواقع نتحدث عن ” يقظة ” وليس عن ” نهضة “، لان النهضة مشروع تحديث خرج من حيز التصور الذهني الى حيز التصور الفعلي اي التحقق الواقعي وهو مالم يحصل بعد، اما اليقظة فانها اقرب الى المراد من الاصطلاح الاول لانها تعني الوعي بضرورة التخطيط لبدء مشروع نهضوي، او بعبارة اخرى البحث عن مشروع تحقيق النهضة، وهو ما نـحن فيه الان، فهل يتمكن العرب فعلا من تحقيق نهضتهم ؟ أي تجاوز مرحلة اليقظة، ومرحلة التخطيط والبحث عن مشروع الى مرحلة تنفيذ المشروع ثم بناؤه على الساحة الواقعية بحيث ينتصب واقعا متحققا.

لقد وجد العرب انفسهم في بدء يقظتهم امام واقعين “الواقع الفعلي ” الذي يعيشون فيه: وهو واقع مرفوض لانه متخلف، وهو ما عبر عنه بالانـحطاط، و ” واقع مامول ” يسعون الى تحقيقه، وهو واقع متقدم لانه واقع الحلم او الطموح. واليقظة عند العرب تقوم اساسا على الاحساس بالفارق بين الواقعين: واقع الانـحطاط الذي اكتشفوه اثر التحدي الاوربي الذي تمثل لهم على شكل غزو عسكري وثقافي وهدد وجودهم على المستويات كافة في اوائل القرن الماضي، وواقع الطموح الذي ياملونه ويحلمون في الوصول اليه لمجاراة الامم الحديثة.

ان الانسان العربي وقد احس بتفوق الغرب نتيجة الصدام بين عالمه وعالم الغرب، وهو الذي يحمل في اعماقه ميراث قيم وتقاليد انـحدرت إليه من حضارة عظيمة دفعه الى التساؤل عن سر تفوق الاخر ” الغرب ” وانـحطاط الشرق، كان هذا هو فحوى السؤال النهضوي المحوري ” لماذا تاخرنا وتقدم الغرب ” ؟ هكذا ولد التحدي الذي فرضه الغرب على العالم العربي منذ اكثر من قرن ادراكا ووعيا بضرورة تحديث هذا العالم.

ومنذ بداية اليقظة العربية حددت مجموعة من الاهداف القومية: كالاتحاد والحرية والتقدم، وقد ناظل النهضويون العرب لارساء عقلية جديدة قائمة على اسس ايجابية تعد الفعل والعلم اساس كل مشروعية ليصبح (العلم هو الاساس الشرعي الوحيد للحقيقة والمنفعة هي المحك الشرعي للقيم)(5).

إنّ تخلف العالم العربي قبل مرحلة اليقظة واقعة لا تحتاج الى بيان نظرا للواقع الذي كان يعيش فيه العرب (فبداوة الانتاج الرعوي والزراعي والحرفي، وعشائرية العلاقات الاجتماعية وقبلية القيم والمعايير في الفكر والسلوك هي التي يمكن ايجازها في مقولتين رئيستين هما التخلف والديكتاتورية)(6) اذن فقد منيت المنطقة بتخلف حضاري ومن المهم جدا في مرحلة اليقظة العربية الحديثة البحث عن اسباب هذا التخلف، وبخاصة إذا ما علمنا أن الهدف الأساس من مشروع النهضة العربية الحديثة هو ترك مرحلة التخلف والانتقال بواقع المجتمع العربي من حالة الانـحطاط التي يعاني منها إلى حالة التقدم، إذن فمشروع النهضة في كل الاحوال هو عبارة عن حركة وتحول، والتقدم هو الانتقال من حالة الى اخرى افضل منها وهذا يستلزم ترسيخ الاعتقاد بان الحالة الأولى هي الاسوء بين الحالتين،إذ أن (التقدم والتخلف هما حالة عابرة تنشأ من ظرف تاريخي معين، وليست طبيعة او سجية دائما يحتمها عامل معين كالمناخ او الجنس او اللون او الدين)(7)، وهذه النظرة الجديدة للتخلف والتقدم بوصفهما حالة لا طبيعية ولا ثابتة أو أحوالا طارئة عابرة متحولة تعني امكانية التقدم والخروج من ازمة التخلف سواء على مستوى الفرد او الجماعة، وان ثمة امكانية للتخلص من التخلف متى ما تغير الظرف التاريخي، وإن هذا التغيير في الظرف التاريخي منوط بالانسان نفسه، بمعنى ان جميع المعوقات التي تقف في طريق التقدم هي معوقات مصطنعة اكثر مما هي معوقات طبيعية، وعلى هذا الاساس سيكون امام الانسان والمجتمع المتخلف الفرصة للتخلص من حالته الراهنة المتخلفة.

رد الفعل العربي

قلنا فيما سبق ان اليقظة العربية الحديثة كانت في حقيقتها ردة فعل لتحد فرضه عالم ” اخر ” وكان هذا التحدي عميقا شاملا لكل مستويات الوجود السياسي والثقافي والاقتصادي، اي انها لم تكن وليدة عوامل ذاتية او نتيجة وعي تلقائي وتطور جدلي. وكان الفكر العربي الحديث والمعاصر على المستوى نفسه يمثل استجابة لهذا التحدي المفروض من الخارج، فكيف كانت استجابة الفكر العربي لهذا المؤثر؟

كانت استجابته بان تاقطب حول نزعتين اثنتين: الاولى نزعة الرفض، والاخرى نزعة القبول: الاولى رافضة محافظة، لانها رأت في الغرب الاستعماري العدو اللدود الذي يهدد كيان الامة ووجودها. والاخرى منبهرة مستلهمة، لانها رأت في الغرب المنقذ من عذاب الوضع الراهن، وباختلاف الانطلاق كان لابدّ من اختلاف المسيرة.

وصفت النزعة الاولى: بانها تقليدية رجعية وما الى ذلك، لانها تستمد القوة من تقاليد تكونت عبر التاريخ، وان مواقفها الفكرية كانت تستلزم على الدوام العودة الى الماضي، فقد شكل الماضي بالنسبة لهذه النزعة نقطة البداية للنهوض، والاساس الوحيد لمواجهة التحدي الغربي، ووصفت الثانية بالاغتراب والعمالة الى غيرها من الاوصاف، لانها ارتمت بأحضان الغرب من خلال تمسكها او دعوتها الى قيم غربية مقطوعة الجذور عن التراث والى ضرورة التخيل عن التاريخ، وكان الحاضر همها الاول وهي مستعدة من اجله لان تلغي هوية الامة.

وبين النزعتين نما موقف ثالث يتمثل في شكل حركة وسطية تلفيقية هدفها يفرض عليها التارجح بين القطبين لتأخذ من هذه مرة ومن تلك أخرى مما يلبي حاجاتها ويحقق اهدافها. وكان لكل منهم ممثلون واعلام، وان كان التمييز لا يمكن ان يكون قطعيا ؛ ومن خلال رصد الفكر العربي الحديث والمعاصر واستقرائه يمكن تمييز ثلاثة تيارات رئيسة فيه هي الليبرالية والسلفية والتوفيقية، والتي يمكن أن تمثل النزعات التي اشرنا اليها قبل قليل، وهي تيارات كما سنرى تفصل بينها حدود واضحة تضم كل واحدة منها اتجاهات متعددة تتلون بحسب النظام الفكري المستلهم اولا، وبالاصول الاجتماعية والانتمائية الطبقية ثانيا، فمن يساري الى يميني ومثالي وعلماني وقومي، وكل منها يطرح نفسه بديلا وحيدا، وملغيا شرعية غيره.

كانت هذه الاتجاهات جميعا تمثل اجوبة مختلفة للسؤال النهضوي المحوري السابق ” لماذا تاخرنا وتقدم الغرب “. اختلفت هذه التيارات الى درجة كبيرة حتى وصل هذا الاختلاف إلى حدّ التناقض في تصوراتها للمستقبل العربي، وحول طبيعة المرحلة، والاهداف ذات الاولوية كان احد اهم اسباب هذا الاختلاف هو طبيعة الرؤية الى الماضي، ولانها كانت تستعين بمعايير مختلفة من اتجاه الى اخر في تحديد المشكلة فكان لا بد من الاختلاف حول سبل التغيير ؛ والآن ما طبيعة هذه التيارات وما طبيعة تصوراتها التي طرحتها من اجل الخروج من حالة التخلف والانـحطاط وبعبارة اخرى لتحقيق النهضة؟.

وبما انه ليس من مهامنا هنا رسم خارطة للفكر العربي الحديث والمعاصر، فاننا سنتعرض للتيارات الرئيسة فيه فقط، بما يخدم طبيعة الموضوع المدروس، مبرزين المواقف المتباينة التي افرزتها هذه التيارات حيال القضايا الفكرية الهامة.

وهذه التيارات على الرغم مما بينها من تناقضات وما بينها من اختلاف في الروية والنهج الا انها ترتبط كما سنرى على نـحو ما بحيث يمكن ان نتحدث عن جامع ما يجمعها على صعيد واحد. هذا الجامع او الرابط هو ” الأنموذج المثال ” المطلوب نسخه وتكراره. فكل التيارات الرئيسة في الفكر العربي الحديث المعاصر محكومة بشكل او باخر من قبل هذا “الأنموذج”. فكيف ولماذا وقع الفكر العربي الحديث والمعاصر تحت تأثير هذا الأنموذج ؟ خاضعا لسلطته بحيث صار لا يتحرك الا ضمنه أومن خلاله.

فمن المعلوم ان للعالم العربي قبل هذا الصدام منظومة فكرية وحضارية عميقة شاملة هذا من جانب، ومن جانب اخر فان الطرف المقابل في المعادلة التصادمية لم يكن اقل شأنا، فهو وليد حضارة حديثة. يشهد العالم لقوتها وامتدادها وطغيانها عليه، وهي تستند إلى أصول عريقة إغريقية ومسيحية، وتحمل فكرا فعالا استطاع ان يتخلص من الرواسب الخرافية، وان ينزع عنه قناع الكهنوتية ليتزمل بثوب العقلانية والديمقراطية والعلمانية.

قلنا: إن الفكر العربي الحديث والمعاصر يكاد يكون في مجمله ردّ فعل على الحضارة الاوربية في أثر الصدام بين الواقعين ؛ واقع الغرب المتقدم الغالب والقاهر، وواقع العرب المتخلف المغلوب والمقهور، وان التيارات في هذا الفكر ما هي الا استجابة لهذا المثير، لكن هذه الاستجابة لم تكن آلية بمعنى أن الفكر العربي لم يكن مجرد ردّ فعل آلي على الحضارة الاوربية وتهديدها، وانما كان الى جانب ذلك بعثا لزاد حضاري ضخم واحياء لذاكرة عريقة لها سماتها ومقوماتها، فعكس بدقة الصراع بين هاتين المنظومتين على الصعيد النظري، فكان لكل تيار من تيارات الفكر العربي الحديث والمعاصر اطاره المرجعي الذي يتحرك فيه ومن خلاله، فما هي الاطر المرجعية التي كان يفكر من خلالها ممثلوا التيارات الفكرية العربية ؟.

كان من الطبيعي ان يختلف الاطار المرجعي من تيار لاخر لاختلاف النزعة التي يتبناها، فالاطار المرجعي الذي يفكر فيه السلفي ومن خلاله غير الاطار المرجعي الذي يفكر فيه الليبرالي، لان السلفي يفكر بواسطة الثقافة العربية القديمة، وهي نظام ثقافي عام وشامل، تتشكل احد آلياته من مكونات ثقافية تتميز بنظرة خاصة للعالم والكون والانسان، انتجها اسلوب معين في التفكير، كذلك الحال بالنسبة لليبرالي اذ يتخذ من اساسيات الثقافة الاوربية التي انتجها الفكر الاوربي في العصر الحديث مرجعا له(8).

إنّ اختلاف التيارات الفكرية الى سلفي وليبرالي وقومي وماركسي، ليس اختلافها وحسب، بل وصدامها ايضا راجع بالدرجة الاساس الى طبيعة الاطار المرجعي الذي يستوحيه هذا التيار او ذاك، اذ يلعب الأنموذج الفكري المستوحى دورا في تعميق هذا الاختلاف. فهل كان هذا الاختلاف في المواقف الفكرية يعبر عن صراع طبقي على صعيد نظري ؟ لا شك ان للانتماءات الطبقية والأحوال الاجتماعية التي ينـحدر منها المثقف اثر في اتخاذه وجهة نظر معينة خاصة وان المثقف لا يعبر عن قيمة خاصة وإنما يعبر شعوريا أو لا شعوريا عن قيم الجماعة او الفئة التي ينتمي اليها، ولكن علينا ان ناخذ بنظر الاعتبار الاستقلال النسبي للفكر عن الواقع، وهو ما لم ينتبه له الدكتور هشام شرابي حين ربط بين الفكر والواقع بشكل متعسف منطلقا من اولوية الوجود على الوعي مما اضطره الى تصنيفات فئوية ومتطرفة للفكر العربي الحديث والمعاصر (9). فليس صحيحا ان ” الوضع الايديولوجي العربي بكل مظاهره وليد الضغط الامبريالي” اوانه “وليد العلاقات الطبقية”(10) والاعتراض هنا منصب على لفظة “كل”. إنّ الوعي بالواقع المتخلف الذي كان يعيش فيه العالم العربي كان وراء الوعي بضرورة ” النهضة ومن ثم وراء انبعاث الفكر العربي الحديث والمعاصر، فكلما تعمق وعي العرب بالانـحطاط ارتفع مستوى طموحهم النهضوي، فوعي النهضة عندهم يقوم بين واقع الانـحطاط الذي يعيشونه وواقع النهضة الذي يقدمه لهم طموحهم.

لأنهم عندما يفكرون في النهضة لا يفكرون فيها كبديل عن الواقع الذي يعيشونه أوالذي يجب صنعه، وإنما يفكرون فيها من خلال أنموذج جاهز هو(11) ” الأنموذج المثال الذي فهم اما اسياسيات الثقافة العربية الموروثة او اساسيات الثقافة الاوربية الحديثة.

وعليه يكون السؤال أي الأنموذجين يجب أن نؤسس عليه نهضتنا الحديثة ” أنموذج الماضي العربي ” كما تقدمه الثقافة الموروثة او ” أنموذج الحاضرالاوربي كما تقدم الثقافة الاوربية الحديثة، ام الاخذ بالاحسن من ” الأنموذجين، فهل كان للانسان العربي حرية الاختيار؟

الموقف من الخيارات

إنّ موقف الاختيار في الحقيقة يشكل ازمة على الصعيد النفسي والوجودي، ذلك ان كل اختيار يعني ضمنا الرفض لخيارات أخرى، وهذا الموقف سواء أكان موقف الرفض اليميني الماضوي ام اليساري المغترب، يعكس شقاء الوعي، اذ لا يفهم النهضة على انها بناء شيء جديد وانما يفهمها على انها تبني أنموذج جاهز يراه اما في ” الماضي الاصيل ” او في ” الحاضر المعاصر”(12)، فليس النهضة كما فهمها المفكرون العرب على اختلاف تياراتهم بناء أنموذج حضاري جديد كما حصل في ” النهضة الاوربية ” وانما هي استعادة ” أنموذج قديم ” سواء أكان ” أنموذج الماضي العربي ” ام ” أنموذج الحاضر الأوربي ” كلاهما قديم لانه موجود سلفا، وقد اقام المفكرون النهضويون نصب أعينهم ” أنموذجا مثالا ” او بالاحرى نماذج ارادوا نسخها والنسج على منوالها، وهذه هي الاشكالية الرئيسة في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة.

مما تقدم امكننا رصد التيارات الرئيسة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، وقد حاول كل واحد من هذه التيارات ان يجيب بطريقته الخاصة عن السؤال النهضوي وطرح رؤية ومنهجا خاصين في سبيل تحقيق الاهداف النهضوية. اذ يرتبط التيار الليبرالي تاريخا بالاحتكاك الحضاري مع الغرب منذ اواخر القرن الثامن عشر الميلادي، اذ مارس الفكر الاوربي تاثيره في المفكرين العرب من خلال قنوات عدة ترسبت من خلالها مركبات ذهنية كانت من نتاج عصر النهضة والعصور اللاحقة من تاريخ الفكر الاوربي، وبعد كل هذا نتساءل ما طبيعة الرؤية الليبرالية لتحقيق النهضة؟ وكيفية تعامل المفكر الليبرالي مع مشروع النهضة؟ وما المواقف التي تبناها حيال القضايا الرئيسة في الفكر النهضوي العربي؟

فاذا كانت الرؤية السلفية ترد حالة التخلف الاجتماعي للعالم العربي الى الانـحراف من التراث، فان الرؤية الليبرالية العربية ترجع هذه الظاهرة الى غياب العقلانية والحرية. فحالة التخلف التي يعاني منها العالم العربي راجعة كما يعتقد الليبرالي الى غياب المؤسسات الديمقراطية والى الارتباط بالنظرة السحرية الى العالم، وإذا أريد تحقيق نهضة عربية شاملة فلابد من ترسيخ الاسس التي قامت عليها النهضة الاوربية. فعلى الصعيد السياسي دعا الليبرالي الى مبدا الفصل بين السلطات، وتوجه اقتصاديا نـحو الافاق الراسمالية والتخلص من القيود الاقطاعية وشبه الاقطاعية، وتبنى اجتماعيا مبادئ الثورة الفرنسية كما تجسدت في الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وأيديولوجيا انـحاز إلى المذهب الإنساني كما أنتجته أوربا في عصر النهضة. بينما كان ” التراث ” يمثل بالنسبة للسلفي نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأيديولوجيا(13).

ففيما فهم الليبرالي التقدم على انه تحول جذري وفق الأنموذج الأوربي، ورأى أنّ النهضة لا يمكن ان تحصل مالم يتبنى المجتمع الحضارة الاوربية ,تصور السلفي التقدم على انه العودة إلى الاصول الاولى ,وعد اطروحة الليبرالي للتقدم مسخ للهوية ونفي للذات.

إذن كانت هذه هي اجاباتهم عن السؤال النهضوي، فقد انطلقت الاجابات من اساسيات ثقافتين مختلفتين: الثقافة الاوربية، وفكر عصر النهضة اللذين اتخذهما الليبرالي اطارا مرجعيا يفكر من خلاله، والثقافة العربية الموروثة بالنسبة للسلفي. وقد امنت الليبرالية العربية ان الأنموذج العربي هو أنموذج الماضي، وهو بشكله ومحتواه ما عاد يستجيب لمتطلبات الحياة الراهنة فضلا عن المستقبل اذ تصبح النهضة ” بعث ماضي لا خلق شيء جديد ” كذلك رأت السلفية بان الداعين الى ” الأنموذج الأوربي ” يغفلون ان هذا الأنموذج هو حصيلة تطور وتفاعل فكري واجتماعي واقتصادي خاضته اوربا على مدى قرون وانتهى الى ما هو عليه، واننا لا نستطيع ان ندخل على الاوربي من نقطة معينة ” معاصرة ” بتاريخ ثقافي واجتماعي واقتصادي اخر بحيث نتقمص هذا الأنموذج تقمصا(14).

ولم تكن اوربا تمثل تهديدا لليبرالي يجب الاحتراز منه كما هي الحال بالنسبة للسلفي بل كانت تمثل أنموذجا يحتذى ويقلد، اذ مثلت اوربا وحضارتها بالنسبة لليبرالي ما مثله المجتمع العربي في عصوره الذهبية للسلفي، فكلاهما مثل ” أنموذجا مثالا ” وكلاهما نظر باسطورية الى مثاله.

اما التيار التوفيقي فقد حاول بكل ما أوتي من قوة ان يجمع ما بين أنموذجين بحيث يكون كل من ” أنموذج الماضي ” وانموذج المعاصر” مصدرا من مصادر التشريع للحياة العربية المعاصرة وللمستقبل العربي، كان التوفيقيون منشغلين فيما يجب استعارته من الغرب، وفرضوا في سبيل ذلك قيودا لم يعترف كل من السلفي والليبرالي بشرعيتها، ان الرؤية التي حاول التوفيقيون طرحها تتلخص في التوفيق بين الماضي والحاضر والتي تكمن في محاولة ” الجمع بين المطلق على نـحو مطلق، والنسبي على نـحو مطلق، وهي من ثم ذهنية تقوم على معارضة التناقضات فيما بينها اولا وعلى توليد تقابل بينها ” وان ذلك لا يتم لهذه الذهنية ما لم يتم ” الابقاء على البنية الداخلية لكل منهما بمناى عن عملية التعارض والتقابل تلك”(15). ان هذه المحاولة التي يقوم عليها التوفيق أشبه ما تكون بعملية الجمع بين الماء والزيت، فالحاصل دوما يكون غير متجانس العناصر.

هكذا تلتقي التيارات الرئيسة الثلاثة على صعيد واحد يجمعها، فجميعها ترى النهضة في القفز على التاريخ، فالأول يرها في الأنموذج الحاضر الأوربي، وتبني المبادئ والفكر الاوربي، والثاني يراها في أنموذج الماضي العربي والعودة الى طريقة السلف، والثالث يراها في محاولة الجمع بين الأنموذجين وذلك باستعارة احسن مافيها وهو ما ينطلق من رؤية ذرائعية. ان هذه الطروحات جميعا تؤدي الى نفي العمق التاريخي للفكر العربي الحديث والمعاصر ومن ثم نفي الذات، لانها ذوبان في ” الاخر ” ذوبان في الأنموذج المثال. وبذلك لن يستطيع الفكر العربي الحديث والمعاصر تشييد حلم نهضوي ثقافي مطابق لانه كان ولا يزال لا يملك نفسه”(16) فهو يفكر باسم هذه السلطة المرجعية تارة وباسم السلطة المرجعية المنافسة لها تارة اخرى. ان التحرر من كل شكل من اشكال السلطة، واقصد بذلك سلطة ” أنموذج الماضي العربي ” وسلطة الأنموذج الحاضر الأوربي هو ما يجب ان تؤسس عليه نهضتنا الحديثة. ولن يتم ذلك إلاّ بواسطة منهج عقلاني علمي تجريبي.

وعلى الرغم من ادراك النهضويين العرب جميعا على اختلاف اتجاهاتهم اهمية النهضة الفكرية، وانها شرط ضروري للنهضة الشاملة غير انهم لم يدركوا اهمية الثورة الثقافية لتحديث العقل العربي من خلال الاطاحة بكل رموز التقليد والتبعية والعمل على تكوين عقل قادر على انتاج فكر فاعل اصيل ومعاصر، اذ لا يمكن ان يعيش المجتمع حياة حديثة بغير فكر حديث وعقل حديث. ان العقل الذي نـحن بامس الحاجة اليه هو ذلك العقل الذي يدرك الصيرورة التاريخية ويتفاعل معها لا العقل المتحصن بالماضي او العقل الذي يعيش خارج التاريخ من خلال التقاطه لمركبات ذهنية. فكيف نظر المفكرون العرب المعاصرون لقضية تحديث العقل العربي؟

إنّ سلطة السلف او سلطة الأنموذج المثال هي التي جعلت المفكر العربي البرجماتي يتساءل ” كيف نوائم بين ذلك الفكر الوافد الذي بغيره يفلت منا عصرنا او نفلت عنه وبين تراثنا الذي بغيره تفلت منا عروبتنا او نفلت منها؟ انه لمن المحال أن يكون الطريق الى هذه الموائمة هو ان نضع المنقول والاصيل في تجاور، حيث نشير الى رفوفنا فنقول هذا هو شكسبير قائم الى جوار ابي العلاء، فكيف يكون الطريق؟(17). انه يتساءل عن كيفية الجمع بين متناقضين بين القديم والجديد، اذ يعد مقولة ” الفكر العربي المعاصر ” عبارة ذات حدين متناقضين، فكيف يكون الفكر عربيا وفي الوقت نفسه يكون معاصرا ؟ لأنه عندما يكون عربيا كما يقول فان ذلك يعني انه يغوض في التراث وعندما يكون معاصرا فان عليه ان يكون غائصا في علوم العصر وآدابه. وكان امة العرب او الانسان العربي عند هذا المفكر لا يعيش الا في الماضي وليس له من وجود في الحاضر. وبعد ان يطرح داعية البرجماتية في الفكر العربي الدكتور زكي نجيب محمود عددا من الحلول التي يجدها غير مقنعة لسؤاله,يجد الجواب في جملة قراها نقلا عن مفكر اوربي”هربرت ريد” اذ وجده يقول :انني لعلى علم بان هناك شيئا اسمه التراث ولكن قيمته عندي هي كونه مجموعة من الرسائل التقنية يمكن ان ناخذها عن السلف لنستخدمها اليوم ونحن امنون بالنسبة إلى ما استحدثناه من طرائق جديدة, فيجد في هذه العبارة مفتاحا للموقف كله. فماذا عسانا ان ناخذ من تراث الاقدمين؟ الجواب هو ان ناخذ ما نستطيع تطبيقه اليوم تطبيقا محليا, فتضاف إلى الطرائق الجديدة المستحدثة فكل طريقة للعمل اصطنعها الاقدمون وجاءت طريقة جديدة انجح منها كان لابد من اطراح الطريقة القديمة ووضعها على الرف الذي لا يعنى به الا المؤرخون. هكذا ياتي الحل من الخارج ودفعة واحدة ,ولكن الذي لا يستطيع ان يقنعنا به هو كيف يكون التعرف على ما هو الانجح؟ ولو ان الخلاف منحصر فيما يفيد في بناء المنازل ورصف الطريق لهان الامر فما ايسر الاختيار حينذاك. هذه هي رؤية البرجماتي العربي لعملية تحديث العقل العربي رؤية انتقائية تلفيقية تعتمد على المردود العملي والمنفعة من خلال تحديد ما هو سلبي وما هو ايجابي.

فإذا كان مفكر البرجماتية قد حدد القضية تحديدا عاما، يبدو ان داعية التقنية في الفكر العربي الحديث والمعاصر الدكتور حسن صعب كان اكثر توفيقا في تحديد العناصر الضرورية لعملية التحديث، فنـحن عندما دخلنا عصر الاكتشاف كما يقول كنا متفرجين لا مشاركين، فان ذلك يعود بالدرجة الاساس الى طبيعة العقل العربي الذي هو بعيد كل البعد عن روح العصر، فهذا العقل لا يثمر الموارد الاقتصادية التي يمتلكها تثميرا انتاجيا وانما يهدرها هدرا استهلاكيا، وهو يؤثر تجريد الظواهر الطبيعية والاجتماعية على ملاحظتها ويستعين بالرموز والخواطر على الملاحظات والتجارب، ماخوذ بالقياسات الكلامية والايديولوجية، وهنا يدعو التقني العقل العربي للتحول من (صناعة الكلمات الى صناعة الاشياء ولتحقيق التقدم في العالم المتخلف رهن قبل كل شيء بانتقال المعارف الجديدة والافكار الجديدة التي يقوم عليها التقدم من العالم المتقدم الى العالم المتخلف)(18) ولكن ما مستلزمات التحديث الضرورية في نظر داعية التكنولوجيا، انها “الحرية الانسانية والتجريبية العلمية والتنظيمية العلمية والابداعية الفكرية” لقد اعتقد هذا المفكر بانه وضع يده على أصل المشكلة ويبقى عليه البحث عن الكيفية التي يعالج بها تلك المشكلة “ان السبيل الاول للتحرر من التخلف هو التفتح على معجزات التقدم العلمي والتمرس بطرق تطبيقها في تنظيم الحياة تنظيما انمائيا جديدا” ولكن هذه العملية تحتاج الى نوع من العقل القادر على التعامل مع ا لمشكلة ” وليس مثل هذا العقل المنتج عقل العقائدي الذي يرى الفكره ولا يرى علاقتها بالواقع والتطبيق، ولا عقل الذرائعي الذي يرى الواقع والتطبيق ولا يرى اية فكرة قبلها او بعدها، ولكنه عقل المهندس الاجتماعي او الانمائي، رائد التقدم الذي تبقي العلاقة حية خلاقة في نفسه بين الفكرة والواقع وبين الخطة والتطبيق و هؤلاء المهندسون الاجتماعيون الانمائيون هم الرأسمال الإنساني اللازم للتحرر من التخلف”(19).

هذه الملاحظات جميعا تنصب على طريقة اقتراب الفهم التقني لعملية تحديث العقل العربي، وهي طريقة تبدا بمسلمات لا تقبل الجدل والنقاش بحسب رأيه، ومن ثم يضع يده على “زر”، التحديث وليس عليه الا ان يضغط هذا الزر إن أراد تحقيق أهدافه.

وينكر المفكر ذو النزعة التاريخية على هاتين الرؤيتين قصورهما لانهما لا ياخذان الدور التاريخي للانسان بالحسبان، اذ ادركت الجماهير تحت راية مثقفيها ان القوة الحقيقية تكمن في التنظيم الجماعي وليس في الالات الحربية او الشعارات الحماسية(20). وهنا يؤكد داعية الفكر التاريخي الدكتور عبد الله العروي دور الجماهير في عملية التغيير ودور المثقفين الرائد في هذه العملية، فيوجه نقده نـحو الرؤية السائدة بين المفكرين العرب فيقول: (إن المفكرين يفكرون حسب منطقين.. القسم الاكبر منهم حسب الفكر التقليدي السلفي ,والقسم الباقي حسب الفكر الانتقائي والغريب ان هذين الاتجاهين يخدعان المثقف ويغريانه بنوع من الحرية، يظن انه يملك حرية الاختيار وانه قادر على ان ينتخب من نتاج الغير احسنه)(21). ويرى هذا المفكر ان السبب الوحيد للخروج من الاتجاهين معا هو في الخضوع للفكر التاريخي، ويذهب الى القول (ان احسن مدخل واحسن مدرسة للفكر التاريخي يجدها العرب اليوم في الماركسية)(22).

إنّ الحل الذي طرحه رجل الفكر التاريخي للخروج من هذه الازمة يكمن في الوعي التاريخي كما يقول: “لانه هو الذي سيحررنا من الاوزار والسلاسل التي تكبلنا بها المطلقات وهو يدعو بحماس “علينا أن نعتنق النزعة التاريخانية وتطبيقها في كل الميادين “والماركسية كما يظن” ذلك النظام المنشود الذي يزودنا بمنطق العالم الحديث”(23). ولكن اليست هذه دعوة الى تبني أنموذج جاهز، ولكن هذه المرة ليس من العالم الديمقراطي وانما من العالم الاشتراكي، وهي كما يبدو سلفية من نوع اخر تتخذ الماركسية مرجعا لها.

هكذا تعامل المفكرون المعاصرون مع قضية تحديث العقل العربي، وكانوا جميعا ينطلقون من المنطلقات نفسها؟، فالرواد الأوائل للفكر العربي كانوا جميعا محكومين بسلطة ” الأنموذج المثال ” وكان على الفكر العربي الحديث والمعاصر ان ينتظر حتى السبعينات والثمانينات من هذا القرن لتقدم مشاريع تحليلية نقدية للعقل العربي اذ ظهرت في هذا الوقت عدد من المشاريع الفكرية المختلفة المنهج لنقد الفكر العربي.

وفي ضوء هذه العملية النقدية يمكن اعادة صياغة المشروع النهضوي العربي بعد ان ظل الفكر العربي الحديث والمعاصر يدور في حلقة مفرغة محكوما بالخضوع لسلطة أنموذج جاهز، إذ لم يسجل اي تقدم في اية قضية من قضاياه، فلا زالت القضايا الفكرية التي شغلت رواد اليقظة العربية الحديثة هي نفسها القضايا التي تشغلنا نـحن جيل اواخر القرن، وهذا معناه ان ما يقرب المائة عام غير كافية لحل مثل تلك القضايا، او ان احدا لم يستطع ان يتواصل لحل تلك الاشكاليات الفكرية خلال هذه المدة.

ومن العرض السابق لطبيعة الفكر العربي الحديث والمعاصر واتجاهاته لاحظنا ان الفكر ظل محكوما في معالجته لقضاياه الرئيسة بسلطة ” الأنموذج المثال ” وان هذا النموذج كان على نمطين مختلفين هما “انموذج الماضي العربي” الذي تمثله اساسيات الثقافة العربية الموروثة، و”الأنموذج الحاضر الأوربي” الذي تمثله أساسيات الثقافة الأوربية الحديثة، وان كل منها يمثل منظومة فكرية مختلفة عن الأخرى، بمعنى أن الفكر العربي الحديث والمعاصر عندما يتناول قضية ما فانه يتناولها داخل احد هذين الأنموذجين ومن خلاله، فالسلفي يتحرك في معالجته للقضايا داخل ” الأنموذج الماضي العربي ” وكذلك الحال بالنسبة لليبرالي حيث يفكر من خلال ” الأنموذج الحاضر الأوربي “، بينما كان التوفيقي يحاول ان يجمع ما بين ” الأنموذجين ” وذلك باستعارة احسن ما فيهما. وبهذا يكون الفكر العربي خاضعا تماما لسلطة ” الأنموذج ” وهو عندما يكون خاضعا لهذه السلطة فانه في الحقيقة يكون فاقدا لـ ” استقلاله التاريخي ” ولكي يحقق الفكر العربي “استقلاله التاريخي” عليه ان يتحرر من سلطة “الأنموذج المثال” وهو يتحرر من سلطة “الأنموذج المثال” اي من سلطة أنموذج الحاضر الأوربي، وذلك بالدخول معه في حوار نقدي لنقد مفاهيمه وتحليلها وقراءتها قراءة تاريخية، وهو كذلك يتحرر من سلطة “الأنموذج الماضي العربي” بقراءته قراءة عقلانية وموضوعية.

فإذا لم يتحرر الفكر العربي الحديث والمعاصر من سلطة “الأنموذج المثال” ويتجاوزه لن يستطيع مطلقا تحقيق “استقلاله التاريخي” وبمقدار ما يكون الفكر مستقلا تاريخيا يكون اصيلا قادرا على تحقيق نهضة شاملة، لانه حينذاك فقط يكون فعالا.

الهوامش

1. مظهر, احمد كمال “النهضة” وزارة الثقافة والفنون بغداد الموسوعة الصغيرة (37): 1979/36.

2. ينظر زريق د. قسطنطين “المنهج العصري محتواه وهويته: ايجابياته وسلبياته ورقة مقدمة الى “التراث وتحديات العصر في الوطن العربي – الاصالة والمعاصر بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية المركز بيروت ط2 حزيران 1987/ 367.368.

3. ينظر الجابري , محمد عابد . الخطاب العربي المعاصر دراسة تحليلية، بيروت دار الطليعة “1982 / 18.

4. م . ن ص17- 28 .

5. شرابي . د. هشام ” المثقفون العرب والغرب عصر النهضة 1875 – 1914 ” بيروت دار النهار: 1971 / 101

6. شكري غالي ” النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث ” بيروت دار الطليعة 1978 / 0123

7. صعبد حسن ” تحديث العقل العربي دراسات حول الثورة الثقافية اللازمة للتقدم العربي في العصر الحديث ” بيروت دار العلم للملايين : 1969 / 045

8. ينظر بيرك جاك ” العرب من الامس الى الغد ” ترجمة علي سعيد، بيروت دار الكتاب اللبناني، 1959 / 0373.

9. ينظر ” المثقفون العرب والغرب ” من 23 الى 36.

10. العروي د. عبد الله ” العرب والفكر التاريخي ” دار الحقيقة بيروت/ 1973

11. ينظر: “الخطاب العربي المعاصر” م س.

12. م ن / 39.

13. ينظر اسكندر رامير ” مواقف من التراث ام من الصراع الاجتماعي ” مجلة المنار العدد ” 7″ السنة الاولى تموز 1985 / 0104.

14. ينظر حسيب د. خير الدين ” من كلمة الافتتاح الورقة مقدمة الى ” التراث وتحديدات العصر في الوطن العربي الاصالة والمعاصرة / 022

15. ينظر تيزيني د. الطبيب ” اشكالية الاصالة والمعاصرة في الوطن العربي ” ورقة مقدمة الى ” التراث وتحديات العصر في الوطن العربي – الاصالة والمعاصرة ” 097.

16. م س . الخطاب العربي المعاصر / 180.

17. محمود د. زكي نجيب ” تجديد الفكر العربي بيروت دار الشروق.

18. م س تحديث العقل العربي. 55.

19. م ن من / 60 و 61.

20. ينظر العروي د. عبد الله ” الايديولوجيا العربية المعاصرة” ترجمة محمد عيتاني بيروت دار الحقيقة للطباعة والنشر ط1 : 1970 / 18.

21. م س. ” العرب والفكر التاريخي ” 206.

22. م ن / 207.

23. م ن / 63.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى