الرأي

تلفون الوصول إلى القفص

كنت أجهز تفاصيل ورديتي الليلية، انتهيت من ارتداء (الينوفورم)، القميص الأبيض والبنطال الأسود وكرفتة سوداء، وضعت الطاقية السوداء التي عليها شعار واسم شركة الأمن التي أعمل بها. تناولت الجاكيت الأسود، خرجت من الغرفة، تذكرت ساعتي، رن جرس التلفون، تناولت ساعتي وهرولت نحو الصالة، رفعت سماعة التلفون. كانت على الجانب الآخر (تامي)، الموظفة المسؤولة عن توزيع ورديات حراس وحارسات الأمن التابعين للشركة. أخبرتني (تامي) أن ورديتي الليلية في مستشفى (ماكماستر التعليمي) قد ألغيت، وضعت سماعة التلفون، وتخلصت سريعاً من الكرفتة وصعدت إلى الغرفة وأنا أفتح أزرار القميص، كنت قد تركت الجاكيت الأسود ملقى على إحدى الكراسي في الصالة. في الغرفة تخلصت من كل (اليونفورم) وعدت إلى الصالة أحمل فردتي الحذاء الأسود، وضعتهما في دولاب الجزم.
كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة، وقد مضى البص (22) الذي كان من المفترض أن أستقله لأصل قبل بداية ورديتي بنصف ساعة. ورديتي التي ألغيت، من المفترض أن تبدأ في العاشرة ليلاً لتنتهي في العاشرة صباحاً. وكان علي أن أحرس مريضاً في حالة خطرة لمدة ثلاث ليال، أخبرتني (تامي) أن المريض قد مات، بالرغم من أنني كنت أشعر بأنني قد نجوت من ثلاث ليال كانت ستكون من ضمن رصيدي في بيع سهري. فأنا دائماً حارس ليلي، وكثيراً ما كنت أؤدي مهمة (مراقبة مريض) في مستشفيات مدينة (هاملتون): مستشفى جامعة (مكماستر) التعليمي، مستشفى (هاملتون) العام، مستشفى (هندرسون)، ومستشفى (شيدوك). بالرغم من فرح داخلي بإلغاء ورديتي، إلا أن شعوراً بالخسران قد أصابني في مقتل، ببساطة خسرت ست وثلاثين ساعة من ساعات عملي في هذا الأسبوع، وهذا يعني أن ارتباكاً كبيراً سيحدث في دفع فواتير الشهر، حين استلقيت على أريكة الصالة كنت موقناً تماماً أنني مواجه بأزمة مالية علي أن أتداركها. نهضت منفعلاً، وبهمة رفعت سماعة التلفون، أدرت الأرقام، جاءني صوت صديقي العراقي، أخذت منه رقم تلفون وكالة عمل كان قد حدثني عنها.
في الصباح، أدير أرقام وكالة العمل تلك، يرن الجرس، لا أحد يرد، يأتيني صوت نسائي ناعم يطلب مني أن أترك رسالة صوتية ورقم تلفوني. أفعل ذلك، أضع سماعة التلفون، وأرجع إلى كوب القهوة الذي تركته على طاولة المطبخ، أحمل الكوب وأعود للتلفون وأدير أرقام شركة الأمن، أتبع التعليمات الصوتية وأضغط على الرقم (4) ويرن الجرس. (تامي) ترد علي بصوت محايد، هي دائماً هكذا تبدو محايدة وباردة حين لا يكون لديها جدول عمل محتمل. اعتذرت لي (تامي) بما هو متوقع، أنه ليس هناك عمل هذا الأسبوع، وعلي أن أتصل في الأسبوع القادم، ولم تنس أن تمنحني بعض أمل حين قالت إنها ستتصل بي قبل ذلك إذا كان هنالك وردية محتملة. هذا يعني أنني فقدت الأربعين ساعة التي يجب أن أعملها في الأسبوع وتتسع الفجوة بيني وبين دفع فواتير الشهر.
بعد عودتي من مكتبة (شيروود) العامة في شارع (أبر أتاوا)، كنت عادة أتصل تلفونياً بهذه المكتبة لأحجز الساعة المجانية الممنوحة لي في اليوم كمواطن في استخدام الإنترنت، وكنت أصل المكتبة وأعود منها بدراجتي الخضراء. كنت قد عدت من المكتبة العامة في عصر من نوفمبر، يباغتك أحياناً بلفحة باردة تبشر ببدايات تساقط الجليد. أدخلت الدراجة في (القراش) الذي يجافي مهمته الأساسية في حالة كونه (قراش) للعربة، ودلفت إلى داخل البيت متجهاً مباشرة نحو التلفون، وضجة الأولاد الذين عادوا من المدارس وهم يلعبون في الباحة الخلفية. رفعت سماعة تلفون، جاءتني رنات متقطعة، مما يعني أن هنالك ورديات حراس، أضغط على زر النجمة والرقم (9) والرقم (8)، وتطلب مني رسالة مسجلة وإدخال الأرقام السرية الأربعة التي تقودني إلى صندوق رسائلي التلفونية. أفعل ذلك، وجدت رسالة صوتية من وكالة العمل، جاءني صوت رجل رخيم به، لكنة (الإسبان) حين يتحدثون الإنجليزية. الرسالة تقول إنه علي أن أتصل فوراً حين أستقبل هذه الرسالة، أضغط على الرقم (1) كي أرد على الرسالة، يرن الجرس ويرن ويرن حد أن أسجل رسالة صوتية، أقول فيها إنني اتصلت، وأرجو أن يتم الاتصال بي مرة أخرى.
يرن جرس التلفون فيما قبيل المغرب، هرولت نحوه، جاءني صوت الرجل الرخيم ذي اللكنة الإسبانية، وسألني: هل أنا على استعداد للعمل فوراً؟! أجبته بنعم. سألني عن عنوان سكني، وهل أملك كرت عمل باسمي؟! أعطيته الأرقام التسعة لكرت العمل، وبعدها قال لي إن عربة ستأتيني أمام الباب حوالي الساعة الرابعة والنصف صباحاً، لأن موقع العمل في مدينة (ميلتون) التي تبعد عن (هاملتون) بساعة، وأن وردية العمل ستبدأ في السادسة صباحاً. وافقت على ذلك، فشكرني صاحب الصوت الرخيم، وتمنى لي يوماً سعيداً.
في الساعة الرابعة والربع صباحاً، رن جرس التلفون، وكنت أشرب كوباً من القهوة الثقيلة، محرضاً نفسي على الصحو استعداداً لبداية العمل. رفعت سماعة التلفون، جاءني الصوت الرخيم كي يقول لي إنه في الطريق إلي بالعربة، وعلي أن أكون مستعداً، قلت له إنني مستعد، وخطر لي فجأة أن أسأله عن طبيعة العمل، فذكر أنه عمل يتعلق بالدجاج، فخيل لي أنني سأعمل في أحد مذابح الدجاج الذي يورد للمصانع التي تغلف وتوزع الدجاج في ثلاجات البقالات. فأوضحت لصاحب الصوت الرخيم أنني ممنوع من استخدام الآلات الحادة مثل السكاكين لأنني مريض بالسكري، وعلي أن أتفادى أي نوع من الجروح، لكنه قال لي، وبطريقة مشجعة، إن الأمر أسهل من هذا، وأنني لا أحتاج أن أستخدم أي آلة حادة، وإن كل ما سأفعله هو القبض على الدجاج وهو حي وإدخاله في الأقفاص، كل خمسة في قفص، بعدها قال لي إنه قريب من البيت، وأغلق الخط، فوجدتني أضحك وأنا أتخيلني وأنا أجري وراء الدجاج كي أقبضه وأدخله في الأقفاص في صباح كندي نوفمبري بارد، وتداعت في ذهني المسرحيات التي شاركت فيها ولها علاقة بالدجاج، مسرحيات: (ريش الجداد)، (جدادة آمنة)، (إمبراطورية الجداد)، وحين كنت أفجر سؤالاً سريالياً، وهو: هل سألتقي وسط هذه الملمة من الدجاج بـ (ديك الحاجة بهانة)؟! و(ديك الحاجة بهانة) مسرحية من تأليف عادل إبراهيم محمد خير، وإخراج قاسم أبوزيد. كنت لا أزال ممسكاً بكوب القهوة، وممسكاً بموقفي الحرج من (مكابسة) الدجاج في هذا الصباح حين سمعت صوت العربة، وهي تقف أمام الباب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى