الرأي

تقدير موقـف (2/2)

مسارب الضي
الحاج وراق
•    هناك احتمالان رئيسيان للمغامرة الانقلابية، إما أن يقودها الحزبيون الإسلامويون أو العسكريون غير الحزبيين. فإذا قادها الحزبيون فلا بد أن تشق طريقها للسلطة ليس فقط بالإطاحة للحكومة المدنية وإنما كذلك بالقيادة الرسمية للجيش والأجهزة العسكرية الأخرى. وهذا يشبه المستحيل، حيث تغيرت موازين القوى بعد الثالث عشر من إبريل لصالح العسكريين غير الحزبيين، فتسلموا قيادة الأجهزة، وتوفرت لديهم موارد ومعلومات، ولم يعودوا كما في السابق مجرد عناصر مبعثرة في مقابل التنظيم الإسلاموي.
وقد يخطر في ذهن بعض الحزبيين أنّ حملة اغتيالات واسعة للقيادات الرسمية قد تفتح      طريقهم للسلطة، وهذا الخطر غير بعيد عن ذهنية الفاشية الإسلاموية التي تتوسل كل الوسائل بما فيها جز الرقاب لتحقيق غاياتها التي تتوهم قداستها، وسبق وجرب السودانيون استسهال خوض هؤلاء في الدماء، بل وسبق وحاولوا اغتيال رئيس بلد آخر، وحين فشلت المحاولة انهالوا على عناصرهم  (المخلصة) بالاغتيالات للتغطية على المتنفذين!
ولكن كما تؤكد شواهد التاريخ لا تنجح عمليات الاغتيال – غض النظر عن أخلاقيتها- إلا حين تكون عملية جراحية دقيقة لإزاحة شخص واحد أو اثنين لفتح الطريق لبديل جاهز في الموقع الأدنى. وأما إذا كانت عمليات متعددة فالأرجح أن ينجوا واحد على الأقل ليقود عمليات الانتقام المضاد، مما يجهض المغامرة أو يدفع لاقتتال الأجهزة العسكرية الأمنية فيما بينها.
•    وأيما تحليل موضوعي غالباً ما يصل إلى أنّ ما سبق يدخل في حكم البداهات. ولكن التنظيم الإسلاموي في الأجهزة العسكرية تقوده (مجموعة كوبر)، وهي مجموعة يائسة، غالباً ما تفكر بذهنية (لا يؤذي الشاة بعد الذبح السلخ)، فهم أصلاً في السجن، ولن يترددوا كما المعتاد بالتضحية بــ(إخوانهم) للحفاظ على رقابهم. ولكن إلى مدى لا يزال هؤلاء(الإخوان) على استعداد لتقديم أرواحهم أضاحي لهؤلاء، هذا ما ستجيب عليه مقبل الأيام .
•    وربما تفكر (مجموعة كوبر) في المغامرة كمرحلتين متتابعتين، أولهما تحريض القيادة الرسمية للأجهزة العسكرية على الانقلاب، وبذل الوعود لها بتقديم الدعم السياسي، ومن ثم تأزيم الأوضاع على السلطة المدنية بشتى السبل، وإخراج تظاهرات (التفويض) التي ربما توظف وتمتطي حتى شعارات بعض الثوريين عن (تسقط ثالث). وبعد استيلاء القيادة الرسمية على السلطة تفرض عليها مجموعة الإسلامويين شراكة من موقع أدنى أو تنقلب عليها لاحقاً وتتنتزع منها السلطة بالكامل.
•    وهذا السيناريو غير عملي، من عدة وجوه، أولها صراع المحاور في المنطقة، فإذا كان التنظيم الإسلاموي يستند على محور قطر تركيا إيران فالعسكريون الآخرون مدعومون من محور السعودية الإمارات مصر، ومن غير المتوقع أن يمتزج الماء والزيت، مما يقود لاحقاً إلى نزاع على السلطة واقتتال يتحول إلى صراع محاور لا يمكن إخماده في المدى القصير.
وكذلك غير عملي من حيث الاستهانة بقدرات غير الحزبيين، فهؤلاء ليسوا بالسذاجة كي يركبوا قطار أناس يريدون أخذهم لمحطة واحدة ثم توديعهم !
•    وحتى إذا افترضنا تحقق المستحيلات، بتأسيس هذه الشراكة الملغومة، وتسليم الحزبيين للقيادة الرسمية بالموقع الأعلى، ورضى المحاور المتناقضة عن ذلك، فإن هذا السيناريو لن يحل أزمة (مجموعة كوبر)، فالانقلاب المتعطش للتأييد والشرعية غالباً ما يواصل في محاكماتهم، وإذا لم يفعل يبدأ من حيث انتهت الإنقاذ. كما لن يحل السيناريو أزمة التيار الإسلامي فهم يكررون بذلك ذات رهاناتهم البائسة والكارثية في الانقلابات، وهي رهانات كما اتضح لا تضع الأغلال على أيادي  خصومهم وحسب، وإنما كذلك وبمنطق الاستبداد تحول تنظيمهم إلى زائدة دودية في معدة الاستبداد.
•    وأما الاحتمال الثاني للمغامرة الانقلابية، فهو الذي تقوده القيادة الرسمية للأجهزة العسكرية الأمنية، وهذا خلاف اصطدامه بواقع تنافس هذه القيادت على المقعد الأول، فإنه يصطدم بما هو أكبر: حيث تؤكد تجربة تاريخ السودان الحديثة أن الانقلابات التي استقرت في السلطة لسنوات أكثر هي الانقلابات التي سندها تيار أو تيارات سياسية منظمة. ولكن المشهد الحالي يرجح بأنه ما من تيار سياسي منظم وعريض يمكن أن يضع نفسه في خدمة مغامرة انقلابية للقيادة الرسمية. ربما تجد تأييد عدد من الآبقين من أحزابهم، إضافةً إلى تأييد حزب الفاسدين الذين يبحثون عن الاحتماء بظلال أي حراب عسكرية، لكن هؤلاء كما تؤكد التجربة أيضاً لا يزيدون أي نظام إلا خبالاً، فهم يتهافتون عند المغانم ويزورون عند المكاره.
•    وقد وصل نظام الإنقاذ إلى حتفه في حين كان يسنده تيار سياسي منظم لديه آلاف الكوادر المدربة والمال والمعلومات والسلاح، ولذا ما من عاقل يمكن أن يتصور أن يستقر انقلاب في بلاد متعددة ومركبة مثل السودان بلميم من الانتهازيين و (إخوان) الدرجة الرابعة!.
•    وهكذا إذا غامرت القيادات العسكرية غير الحزبية بالانقلاب فإنها ستضطر لمواجهة غالبية القوى السياسية في البلاد، وبالتالي ستلجأ لاستخدام عنف باهظ، ومن ثم تركيز الموارد على قلتها في الصرف الأمني والسياسي، مما يؤدي إلى تفاقم الفساد وتفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ومع تزايد القمع تتزايد العزلة عن المجتمع الدولي، مما يوصل إلى النتيجة المحتومة: كوبر أو المحكمة الجنائية الدولية!
•    ختاماً ، إنني إذ أدفع بفشل المغامرات الانقلابية لا أعنى بأني أرى الأوضاع القائمة حالياً عال العال، على العكس فأنا أرى أننا في أزمة حقيقية، لكنها أزمة لن يحلها طرف واحد أياً كان، كما لن يحلها، وإنما يفاقمها إلى أقصى مدى الانقلاب. أزمة من العمق والتعقيد بحيث تتطلب الجهد الجماعي المنسق لأوسع قاعدة اجتماعية ممكنة بما في ذلك بالطبع العسكريين الذين يرفضون الانقلابات والاستبداد العسكري. ومثل هذه العملية تستدعي ذهنية ديمقراطية حقيقية، تقبل التنوع وتحترم الآخر المختلف، وبالحوار النزيه والصبور تصل إلى المشتركات الوطنية العظمى التي تستجيب للمصالح الحيوية والمعقولة للقوى اللاجتماعية الرئيسية. وبعد ثلاثين عاماً من الشمولية وما أحدثته من خراب مادي ومعنوي واسعين فإن عملية معقدة كهذه تستدعي المكابدة والصبر. ولكن في المقابل فإن الخيارات الأخرى القائمة على الاحتكار والآحادية والانقلابات، والتي تبدو سهلة، إلا أنها في الحقيقة سهولة زائفة، حيث ستدخل البلاد في دوامة باهظة الأكلاف الإنسانية والمادية، وربما لا تخرج منها في المدى المنطور ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى