تشكيل

صدام الفنان الحر بالسلطة الباطشة، من المنتصر؟- مصطفى سعيد

مصطفى سعيد
في لعبة الفيديو الشهيرة (SUBWAY)، يُمسك ذلك اليافع بعبوات الألوان، وما أن يبدأ في الرسم على إحدى المقطورات الواقفة في المحطة، حتى يظهر من خلفه شرطي لئيم بصحبة كلب لاهث، ويستمر الشرطي في الركض وراء ذلك اليافع إلى أن يقبضه.
هذا المشهد يماثل كثيراً مشاهد القمع التي تمارسها كل السلطات والأنظمة الباطشة ضد الفنانين الذين يتخذون الفنون كأداة مقاومة قوية ضد صلف الأنظمة.
فها هو نظام الإنقاذ يقوم بإزالة وتدمير (عزيز جاليري) تاركاً صاحبته الفنانة إيثار عبدالعزيز غارقةً في الدموع والحسرة، وها هو الشاعر يوسف الدوش يمثل أمام القضاء بسبب قصيدة أدبية كتبها، وذلك هو رسام الكاريكاتير الجزائري جمال غانم وضع من قبل تحت الرقابة القضائية بسبب رسم كاريكاتيري مناهض للعهدة الرابعة.
أذكر أننا وفي حيـِّنا عقب الثورة وسقوط النظام قمنا باسترجاع أحد المكاتب الذي كان يتخذه فلول النظام وكراً للتخطيط وتدبير المكائد، بعدما اقتلعنا ذلك المكتب، والذي ارتبط في ذهنية السكان بالقمع والتحفّظ، عكفنا على تغيير شكله بتلوينه والرسم على حوائطه رسومات ترتبط بالراهن وأجواء التغيير، لعلنا بذلك نستطيع محو تلك الصورة النمطية القبيحة عنه. تداعى أبناء الحي وجاءوا بالألوان واتّخذ كل فرد منهم موقعاً في جدار ذلك المكتب وبدأوا في التلوين، ولم تمض ساعة زمان حتى تبدد القبح وأطلّ الجمال من الجدارن وقد كانت الألوان المتداخلة زاهية وجميلة، وشعارات الثورة التي كُتبت عندما تراها ينتقل إليك صوتها، وكأنك في ميدان الاعتصام. استيقظنا صبيحة اليوم التالي على خبر مفاده أن هنالك قوة عسكرية تحيط بذلك المكان، وعندما توجّهنا إليه؛ وجدنا أن أفراد تلك القوة قد قاموا بمسح ما رسمناه ليلة أمس، وتفاجأنا باللون الأزرق المائل إلى الرمادي الذي اكتست به الجدران، كان لوناً بائساً وقبيحاً، ما إن تنظر إليه حتى تنتابك قبضةً في روحك وكأنك تقف أمام زنزانة كئيبة!.

(من الذي مسح الجدارية؟) سألْنا قائد تلك القوة، فَرَدّ لنا رداً ممتلئاً بالعجرفة والعدوانية (دا شنو الكلام الفارغ العملتوهو في الحيط دا؟!!).
ومرّةً أخرى تجدد الأمر عندما مُسحت الجداريات التي كانت تزيين المباني المحيطة بالقيادة العامة عقب فض الاعتصام المبارك، وأكاد أجزم لو أن هذه الجداريات كانت قد رُسمت في أي دولة تحترم الفنون وتعتبرها جزءاً من أدوات التغيير؛ لعنيت باهتمام خاص، بل لأصبحت متحفاً مفتوحاً وطريقة من طرق التوثيق لتاريخ الأمّة.
فهذه الأعمال لا تقل عظمةً عن الأعمال المعلّقة في أكبر المتاحف، بل تكاد أن تتفوق وذلك للظرفين الزماني والمكاني اللذان شهدا ميلاد هذه الأعمال، فعلى سبيل المثال جدارية الشهداء في الشارع الواصل بين شارعي النيل والقيادة العامة، والتي اشترك في رسمها عشرات الفنانين المقاومين أصبحت مزاراً ومعلماً وأيقونةً للثورة، ولا تقل قيمةً عن لوحة غيرنيكا لبابلو بيكاسو.
الصراع المستمر واللانهائي بين الفنان والسلطة المتجبّرة تعود أسبابه إلى أن الفنان بطبعه ميال إلى الحرية وقيم الخير والجمال وكارهاً لكل أشكال التقييد والكبت، وهذا بالطبع يصطدم ولا يتسق مع مبادئ ومشاريع الأنظمة الباطشة، وهنا ينشأ الصراع ويحتد، فتلجأ السلطة إلى وسائلها القمعية في مواجهة هذه الأفكار أوالفنون، وقد يبلغ ذلك القمع أكثر الأفعال تطرّفاً بمصادرة حياة الفنان أو المفكر، إلا أن السلطة وبفعلها هذا تقود إلى نتائج عكسية؛ فلكل فعلٍ رد فعل، حيث أنها تمنح العمل الذي ظنت أنها قتله؛ تمنحه الخلود، ودائماً ما تتقزم هذه الأدوات القمعية أمام خلود الأفكار والفنون، وتبقى مقاوِمةً عصيةً على الفناء.

تعتبر من أوائل الجداريات التي تم رسمها خلال اعتصام القيادة العامة، ورسمت بمشاركة عشرات الفنانين المحترفين والهواة. وتتكون اللوحة من عدد كبير من بورتريهات شهداء ثورة ديسمبر الذين رسموا بثلاثة ألوان أساسية وهي ألوان علم السودان القديم، الأزرق والأصفر والأخضر.

وأخيراً..
قال محمود درويش:
هَزَمَتك يا موتُ الفنون جميعُها
هَزَمَتك يا موتُ الأغاني في
بلاد الرافدين، مسلةُ المصري،
مقبرةُ الفراعنةُ، النقوشُ على
حجارةِ معبدٍ، هَزَمَتك وانتصَرَت
وأفلَتَ من كمائنك الخلودُ
فاصنعْ بنا واصنعْ بنفسكَ ما تريدُ

 


 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى