ثقافة ومنوعاتصفحات متخصصة

تشكيل – إعداد مصطفى سعيد

جياكوميتي.. البؤس المجسّد وجراحه السرية


سعدية أحمد
أمضى حیاته یتجوَّل في شوارع باریس، بقامته الطویلة والنحیلة ورأسه المنحني دائماً إلى الأمام، یتنقَّل بین مقاهیها دون وجهة مُحدَّدة، وعاش حالاً من الضیاع وعدم الاستقرار، حيث كان مُهمَّشاً عاطفیاً ونفسیاً، یمشي ویمشي بمظهرٍ یشبه منحوتته “الرجل الذي یمشي” محاولاً المضي قُدُماً لكنه یبقى ساكِناً مُتسمِّراً في مكانه في صمتٍ مُریب..
هذا هو النحات السويسري ألبيرتو جیاكومیتي والذي یعد من أبرز وجوه الحركة السریالیة في باریس خلال ثلاثینیات القرن الماضي.
تأثر جیاكومیتي بالتیار التكعيبي الذي كان الفنانان بابلو بیكاسو وجورج براك من رواده، لكنه انجذب بعدها إلى الحركة السریالیة ليصبح لاحقاً من أبرز نجومها وانطلقت شهرته من خلال الرسوم واللوحات الزیتیة التي أنجزها، ولعل أبرز أعماله منحوتته الشهیرة “الرجل الذي یمشي” و”كرة معلقة”، و”منقاش في العین”، و”امرأة مذبوحة”.
تحولات
. تأثر جياكوميتي بالفن الأزتیكي، إلى جانب الفن الأتروري الذي اكتشفه باكراً في متحف اللوفر بباريس، كما تأثر بالفن الفرعوني والسومري والبیزنطي والإفریقي والأوقیاني خلال الأبحاث التي قادها أثناء مرحلته السریالیة، وسعى فیها خلف حلول مركبة غامضة مثالیة لاستحضار أشكال جدیدة ترضي توجهاته الطلیعیة.
وتحول إنتاج هذا الفنان منذ عام 1932 إلى الرمز، وأنجز خلال هذه الفترة التمثال الرمزي المشهور “قصر في الساعة الرابعة صباحاً”، وهو بناء غریب تبدو في جدرانه الرمزية حركات حیة، توحي بالتنقل والاستقرار في آن واحد، وفي مرحلة أخرى غیّر النحات السویسري أسلوبه جذریاً. وقد وصف أحد النقاد منحوتات جياكوميتي بأنها “لا تخضع للفكرة السائدة حول النحت، بل تنتصب أمامنا وتبدو معزولة عما سواها، وكأنها من طبیعة أخرى، تشعر معها بحالة من الرهبة والقلق، كأننا أمام أصنام سحریة لديانة مجهولة!”.
وفي كتابه “الجرح السري.. مرسم ألبرتو جیاكومیتي”، یرى الكاتب الفرنسي
جان جینیه أن فن جیاكومیتي هو “اكتشاف الجرح السري عند كل الكائنات وحتى في كل الأشياء لكي یضیئها، ففي لوحاته تتبدى أول میزة وهي الكشف عن الجوهر الفرید وإبرازه في ثنايا الشخوص، سواء كانت هذه الشخوص جمیلة أو مشوهة”.
السمة العامة لأعماله
تمیزت أعماله بأنها أجسادٌ هزیلةٌ نحیلةٌ.. شخوصٌ أنهكتها المشقات، تماثیل مشدودة كخيطٍ رفیعٍ یكاد ینقطع، ورؤوس حائِرة وعیون تحمل من المُعاناة والأسى الكثیر وسط فراغٍ شاسع.
هكذا تبدو تشكیلات النحَّات ألبرتو جیاكومیتي، الذي كرَّسَ حیاته ینحت
مُجسَّمات للإنسان المُعاصِر المُتعَب مُعبِّراً من خلالها عن أزمته الوجودیة، منحوتات تُحاكي أكثر الأماكن هَشاشة وضعفاً في نفوسنا، فور وقوع نظرك علیها تسأل نفسك في ذهول “أهذا أنا؟!”.
بحسب قول جياكوميتي: “لم أكن أنحت الشخصَ الإنساني بل ظلَّه الذي یُلقیه على الأرض”، هذا الحزن الواضِح على شخوص جیاكومیتي یفسِّر المشهد الدموي لأوروبا بعد الحرب العالمیة الثانیة، رائحة الموت في كل الأرجاء والجمیع یعاني عبثیّة المرحلة ونتائجها على الإنسانیة جمعاء وجیاكومیتي بحساسیّته المُفرَطة وقدرته على الولوج إلى أعماق الروح الإنسانیة والتعبیر عن معاناتها، راح ینحت تماثیل صوَّرت غُربة الناس وعُزلتهم عن بعضهم البعض. كما في منحوتة “ساحة المدینة” التي یظهر فیها خمسة أشخاص بأجسادهم النحیلة یتجوَّلون في فراغٍ، كلٌ في عُزلته الخاصة، یجمعهم المكان وتُفرِّقهم الوحدة.
وقد تأثر جايكوميتي بتیار بیكاسو وجورج براك التكعیبي، ووصفه بأنه “مشروع عَبَثي بكل معنى الكلمة”، ثم اتّجه نحو التیار السریالي الذي أصبح من أهم روَّاده، لكنه في النهایة تفرّد بأسلوبٍ مُمیَّزٍ موضوعه الأساسي مأساة الوجود الإنساني.
خامات فانية
استخدم جیاكومیتي مادتيّ البرونز والجصّ في تشكیل منحوتاته، لذلك كثیراً ما كانت تماثیله الضخمة تنكسر أو تُصاب بالتَلَف سریعاً، فیعود ویشكِّلها مرة أخرى، وأحیاناً یُعید نحت تماثیل مشابهة لها، وعن اختیار النحَّات لهذه المواد القابِلة للخراب السریع، علَّق “جان بول سارتر” في إحدى كتاباته قائلاً: “اختار الفنان مادة لا وزن لها، مادة هي الأشدّ هشاشة وعُرضَة للتلف والأكثر شبَهاً بالإنسان، لكنها ذات طابع روحاني وخالِد”، لذلك ینتابنا شعور بأن التماثیل ستقع أو ربما ستذوب وتتفتَّت وتعود إلى أصلها إلى مواد فقط، وهنا تكمُن عَظَمَة هذه الأعمال التي استطاع جیاكومیتي أن یخلق فیها حسَّاً یُنذِر بأن شیئاً ما سیحدث، ربما ستصرخ أو تنهار من شدة المُعاناة، منحوتات ضخمة یتجاوز طولها المترین، وأخرى صغیرة بحجم كفّ الید لا یتعدَّى طولها السنتيمترات القلیلة، جسَّد من خلالها أطیاف شخصیات مرَّت على حیاته، من أصدقائه الفنانین مثل صامویل بیكیت وبیكاسو وجان بول سارتر وبالطبع صدیقه المُقرَّب جان جينيه، وكان لزوجته آنیت وأخیه دییغو العدد الأكبر من البورتریهات والتماثیل، وفي مرحلةٍ متقدمة من حیاته الفنیة بدأ ینحت من ذاكِرته من دون الاعتماد على أشخاص ماثِلة أمامه، خلال مُلاحظة الناس في المقاهي وعلى الطُرُقات، وبدا الوضع له أشبه بكابوسٍ، فأخذ على عاتقه مسؤولیة نقل هذه الحالة الإنسانیة من خلال فنه.
مشهد أوروبا بعد الحرب العالمیة الثانیة جنائزیاً، مقابر لجنود مجهولین وللمقاومین والأبرياء، ورائحة الموتى تنبعث من أنقاض مبانیها ومن هشاشة الإنسان الذي عاش حربا كونية أفقدته طعم الإنسانیة.
(الجرح السري).. مرسم ألبرتو جیاكومیتي
عاش جیاكومیتي وسط فوضاه في مشغله الخاص، الذي وصفه صدیقه جان جینیه بأنه مستنقع جصّي ومزبلة خفیفة وخندق حقیقي”، الجصّ الأبیض مُنتشِر في المكان، على أرضيته وجُدرانه، بل وحتى شَعر وملابِس النحَّات.
هذه الفوضى التي رافقت جياكوميتي في مشغله وحیاته على حدٍ سواء، أنتجت قطعاً فنیة عظیمة، عبَّر عنها جان جینیه في كتابه “الجرح السرّي.. مَرْسَم ألبرتو جیاكومیتي”، قائلاً: “كما لو كان لتلك الأشياء قوّة تخمّر سحریة مُذهِلة. بدا الأمر وكأنه سحرٌ، عندما ترى الفن یخرج من تلك القمامة الموزَّعة هنا وهناك، فترى الجصّ على الأرض یقفز ویأخذ وضعیات شخصیات قائِمة بحد ذاتها”.
طقسٌ جنائزي یُخیِّمُ على منحوتات جیاكومیتي، تماثیل تظهر علیها علامات الموت بمعناها الرمزي والمعنوي، أرواح مُنهَكة، وظلال أجساد هشَّة تبدو كأشباحٍ وغیرهم.
سجل جان جينيه في كتابه “الجرح السري… مرسم جیاكومیتي” محادثات وحوارات مع ألبرتو جياكوميتي، وقد أنجز فیها جیاكومیتي أربعة رسوم لجینیه، بالإضافة إلى ثلاث لوحات زیتیة، كان جیاكومیتي یرسم جینیه وكان الأخیر یحاوره بلغة سردیة مفتوحة على الكثافة والإیجاز، ویدون ملاحظاته حول منحوتاته التي رأى فیها رحلات للبحث عن أسرار معمار نحتي مشید من الدهشة والثراء الباذخ على مستويا الوجود والعدم.
إن كتابات جان جینیه عن التجربة الفنیة لجیاكومیتي تعتبر الأكثر عمقاً،
فهو یصف هذه الأعمال بقوله: “الجرح السري.. عالمنا لا یحتمل أكثر”

******

 

 


الظل الأبيض!

 

مصطفى سعيد

الظلُّ، لا ذَكَرٌ ولا أُنثى
رماديٌّ، ولو أَشْعَلْتُ فيه النارَ
يتبعُني، ويكبرُ ثُمَّ يصغرُ
كُنت أَمشي. كان يمشي
كنت أَجلسُ. كان يجلسُ
كنت أركضُ. كان يركضُ
قلتُ: أخدعُهُ وأخلعُ معطفي الكُحْليَّ
قلَّدني، وألقى عنده معطفَهُ الرماديَّ…
* محمود درويش
الظل، ذلك الخيال الغريب، الكاسر لوقار الفيزياء، المتمدد في كل مكان، وبكل الأشكال، حينما يرتمي على الأرض يبدو وكأنه انسكاب روح الجسد الواقف، يتحرك بنفس حركات الجسد، لكنه أحياناً يتمرّد تمدُداً وانكماشاً.
في المقولة الشهيرة للنحات السويسري آلبيرتو جياكوميتي: “لم أكن أنحت الإنسان، بل ظله الذي يلقيه في الأرض”، استطاع جياكوميتي بهذه الرؤيا ابتكار منهجاً جديداً في مدرسة “الفن البؤسوي” أيا لفن الساعي لأنسنة الانكسارات والهزائم. واعتمد في تشكيله على إظهار البهاء العدمي والأسطوري الذي تكتسي به مملكة “أنصاف الأحياء”، شخوص بها إنهاك الموتى وقليلاً من تمسك الأحياء بالحياة، وقد جسّد جياكوميتي هذه الرؤيا في منحوتاته، فأظهر عبرها نسباً جديدة غير النسب التشريحية المألوفة.
حاولت النحاتة “سعدية أحمد” إحياء هذه المدرسة وتطبيقها على مشروعها لنيل درجة البكالريوس من كلية الفنون الجميلة. وبدراسة قطعة من قطع المشروع “منحوتة أبيض اللون”، وهي منحوتة لرجل طوله يقارب الثمانين سنتيمتراً بمادة الجبس الأبيض وتُظهر رجلاً واقفاً ويمسك يده اليسرى باليمنى من وراء ظهره.
نجد أن المنحوتة مجرّدة من نسب التشريح الحقيقية، فاليد اليسرى تمتد حتى منتصف الفخذ، وطول الفخذ وحتى الركبة يساوي طول الجزء العلوي من الجسد، والساقين المتوازيين نحيفين نحافةً ملفتة، كما نلاحظ استدارة الرأس وتكوُّره وانشداد إلى الأمام نسبةً للانحناءة الحادّة في الرقبة الطويلة، كما أن ملامح الوجه مغمورة، ثقبان غائصان مكان العينين، وفم مفتوح نصف فتحة، وكأنما هذا “الأبيض اللون” يهمهم مع ذاته. أما الصدر فقد برز هيكله وبانت خطوطة لتُنبئ عن البؤس الذي يعيشه هذا الجسد الواقف.
جياكوميتي لديه منحوتة اسمها “الرجل الماشي” تُظهر رجلاً نحيفاً يخطو خطوةً واسعة، وكأنه يمشي مسرعاً، وأعتقد أن منحوتة “أبيض اللون” جاءت امتداداً لمنحوتة “الرجل الماشي”، ولكن هنا نجد أن الرجل الأبيض قد توقف عن المشي وعقف يده اليمنى لتمسك باليسرى من وراء ظهره في حركة تدل على الإرهاق.
هنالك أمر آخر أعتقد أنه نقطة قوة تُحسب “لأبيض اللون” وهي بقع الصدأ على الساقين والناتجة من الهيكل السلكي للمنحوتة، هذه البقع تضاعف شعور المشاهد بإحساس البؤس الذي يعتري هذه المنحوتة.
وبإلقاء نظرة عامة على المنحوتة فإن أكثر ما يميزها هي النحافة بجانب الطول الملفت، والتكنيك الخشن في النحت.
الظل والضوء هما طرفا المعادلة، فعندما يطغى الضوء يتراجع الظل، والعكس، وعندما ينعكس الضوء بزوايا معينة يُنتج الظل، وزوايا إسقاط الضوء تشكل خيالاً يخرج عن النسب المألوفة ويظهر بنسبِه الخاصة.
وكأن هذه المنحوتة تُجسّد انعكاساً ثلاثي الأبعاد لظل بشري، لكنه ظلٌ أبيض!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى