قضايا فكرية

تأملات في مسار الثورات العربية .. فتحي التريكي

المداولة

من أخطاء حركة النهضة في تونس عند وصولها إلى السلطة أنها تصرفت في هياكل الدولة دون تحاور وتشاور، وكأنها الحزب الحاكم الأوحد.

قلما تدخّل الفكر الفلسفي في القضايا اليومية الحينية التي طرحها المسار الثوري لما يسمى بالربيع العربي وذلك لسببين رئيسيين، يكمن الأول في ما يتميز به المفهوم الفلسفي عادة من صبر وتأنّ في معالجة الأحداث والمواضيع الخاضعة للتغيرات. إذ لا يمكن للفيلسوف عامة أن يخضع المفهوم والتصورات إلى النقد والتحري في خضم أحداث متتالية ومتحولة لا يمكن معرفة مصيرها بدقة. أما السبب الثاني فيتمثل في كون الساحة الفكرية العربية قد أصبحت حبيسة المعارك السياسية والإيديولوجية التي فرضتها دقة المرحلة التي يعيشها العالم العربي الآن. لذلك ارتأينا أن نخصص لقراء جريدة العرب مقاربات فلسفية تتدخل في تلك الأحداث المتغيرة للعالم العربي لتوضيح جملة المفاهيم المعقدة التي أفرزتها الثورات العربية خدمة للثقافة العربية التي آن الأوان أن تهتم بجانبها الإجرائي وجانبها الكوني على حد السواء.

لقد دخلت تونس اليوم مرحلة صعبة في درب تأسيس المسار الديمقراطي الذي يمر طبعا بكتابة الدستور وإقراره والمرور إلى الانتخابات الحرة والنزيهة حتى تكون لها دولة شرعية وقانونية تحكم بإرادة الشعب. المرحلة الصعبة التي نتحدث عنها والتي أسالت حبرا كثيرا هي مرحلة المداولة والحوارات والتوافقات بين الأطراف السياسية الفاعلة في البلاد لكتابة الدستور وتنظيم الانتخابات. وقد لاحظنا أن هذه المفاهيم المستعملة بكثرة في أفواه السياسيين وفي أقلام الصحافيين غالبا ما تأتي غامضة لا تؤدي المعنى الذي يجب أن تؤديه فتكثر المغالطات ويحتد سوء الفهم عن قصد أو عن غير قصد.

وحتى نفهم معنى المداولة لابد من الرجوع إلى التصور التأسيسي لمفهوم الديمقراطية. فلنذكر أن الديمقراطية هي طريقة في الحكم تكون فيها السيادة للشعب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فيكون الشعب حرا في اختيار من يحكمه فينتخبه ويراقبه ويعزله إن رأى ذلك ضروريا. لذلك تقوم الديمقراطية على مراحل ثلاثة هي المداولة، ويدخل ضمنها التحاور والموافقات والصراعات الفكرية والإيديولوجية السلمية، أي ما يسميه الفيلسوف الألماني هابرماس بالنقاشات العمومية، ثم الاختيار ويدخل ضمنه كل ما يهم مرحلة الانتخاب من تهيئة وإجراءات وتحضيرات وغيرها، وأخيرا التنفيذ أي كل الفعاليات والقرارات والتحضيرات لتسليم الحكم إلى من قد اختاره الشعب. فلا يمكن أن يستغني حكم ديمقراطي عن مرحلة من هذه المراحل الثلاثة حتى وإن جاءت متشعبة ومتداخلة.

تجاذبات عديدة ونقاشات شديدة مصحوبة بالشتم والسب وانتهاك حرمة الأشخاص وعنف لفظي متواصل قد يفضي أحيانا إلى العنف الجسدي وخصومات لا تنتهي، تلك هي حالة الحوار الوطني التونسي الآن في الساحات وفي استديوهات الراديو والتلفزة أو في الأنترنت. مما جعل التونسي يعيش اليوم أزمة نفسية خانقة أدت بالبعض إلى الكآبة والبعض الآخر إلى التشنج. زد على ذلك الإرهاب والترهيب الذي تدخّل في ساحة النقاش العمومي ليزيد المشهد ضبابية وغموضا.

هكذا إذن تصبح المداولة إشكالا يدعو إلى التفكير والبحث لاسيما إذا كانت لنا حقا إرادة قوية وجدية لتعلم نواميس التمشي الديمقراطي في الوطن العربي.

فالمداولة تعني أساسا تبادل الأفكار والآراء في موضوع معين مع الاستدلال عليها حتى تصبح عملية الإقناع أو الاختيار سهلة. فتكون الطريقة في ذلك التحاور. نشدد قصدا على كلمة تحاور ولا نعني بها الحوار الذي قد يكون تحت وطأة الظرف، أو نتيجة غلبة لقوة سياسية معينة على القوات الأخرى، أو فرضا من قبل سلطة داخلية أو خارجية. التحاور مشاركة فعلية وعلى قدم المساواة بين الفاعلين السياسيين في تبادل الأفكار والآراء الذي يقوم على الاستدلال والبرهنة.

لا أعتقد شخصيا أن الحوار الوطني في تونس الآن سيفضي إلى نتيجة إيجابية. لأن متطلبات التحاور لم تكن موجودة ومتوفرة. فاليسار التونسي قد استعمل الشارع بمظاهراته واعتصاماته ليضغط على الطرف الآخر أي حركة النهضة وأحلافها، والذي بدوره يستعمل السلطة ودواليبها ليكون هو سيد الحوار. طبعا يجب أن لا يفهم من ذلك أن التحاور يمكن أن يكون خارج الظرف والعواطف والوجدان دون غلبة ودون سلطة. فكل حوار مهما كانت درجة نزاهته وموضوعيته يخضع إلى الظرفيات والتوجهات السياسية والإستراتيجية. ولكن ما نصبو إليه في الديمقراطيات هو أن يميل التحاور أكثر إلى الموضوعية والنزاهة دون التخلي عن التوجهات الأساسية التي تفرق بين الأحزاب والمذاهب والتيارات. لأن الغاية القصوى من التحاور تتمثل أولا وبالذات في التفاهم، بمعنى أن يعرض كل طرف مميزات أطروحته ويفسرها ويقدم البراهين العقلية لوجاهتها ونجاعتها، ويخول للآخر إمكانية نقدها وإظهار سلبياتها بالبرهان العقلي والدليل المنطقي، وبذلك يتمكن كل طرف من تطوير طروحاته والتوجه بها نحو كل المواطنين للإقناع حتى ينضوي من أراد تحت رايته من أجل الوصول إلى الحكم عن طريق الاختيار والانتخاب وتنفيذ تلك الطروحات وتطبيقها. لكل ذلك نعتبر مرحلة المداولة مهمة جدا لأنها ستركز الأس الأصعب للديمقراطية وتبعد عنها شبح الغطرسة. قال كاتب فرنسي متهكما إن في الديمقراطيات ينتخب الشعب دكتاتورا يحكمه. هناك طبعا ما يبرر هذا الخطر، إذا لم ننتبه إلى أن المداولة ليست مرحلة زمنية تسبق المرحلتين المتبقيتين، ونعني الاختيار والتنفيذ بل هي المرحلة السابقة واللاحقة والمصاحبة لهما.

لأن التحاور يجب أن يكون متواصلا حتى تكون القرارات ملائمة والتنفيذ ممكنا. فمن أخطاء حركة النهضة في تونس عندما وصلت إلى السلطة أنها تصرفت في هياكل السلطة دون تحاور وتشاور وتساعد، وكأنها الحزب الحاكم الأوحد بينما كان بإمكانها مد قنوات اتصال متعددة مع مختلف الأحزاب الفاعلة دون احتقار، لا للحوار من أجل الحوار، بل لتكون القرارات مدعومة بالنقاش العمومي حسب قواعد التواصل المنطقية وحتى يكون تنفيذ تلك القرارات ممكنا وناجعا.

إذا اقتنعنا بذلك يمكننا التفكير في أدبيات المداولة وفي أخلاقيات التحاور ضمن تأسيس العمل الديمقراطي داخل الوطن العربي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى