قضايا فكرية

تأملات في مسار الثورات العربية جنود القلم.. فتحي التريكي

يمكن التأكيد على العلاقة الثلاثية بين المثقف والسلطة فإما أن يكون خادما للسلطة على وجهين، وجه ثقافي إيديولوجي بحت ووجهه تجييشي يشجع على العنف والإرهاب والتسلط.

تتعرض الثورة التونسية في عيدها الثالث إلى حملة تشكيك واسعة يقوم بها بعض المثقفين والسياسيين الموالين لحكم بن علي السابق. وهذه الحملة تقوم على محورين رئيسيين. يتمثل الأول في التأكيد على أن الأحداث التي أدت إلى الثورة هي من صنع الإستخبارات الأجنبية والأميركية تحديدا بتواطؤ مع الإسلاميين وقد جندت هذه المجموعة جملة من الحجج دون أن تقدم الأدلة المادية الدامغة لتبقى حسب رأيي فرضيات غير مستبعدة ولكنها أيضا غير مقنعة. أما المحور الثاني فهو يقوم أيضا على نظرية المؤامرة ولكن هذه المرة تأكد على دور تلك الإستخبارات في التأثير على المسار الديمقراطي وعلى كتابة الدستور نفسه.

سوف لن أناقش هذه النظريات القائمة على فرضيات صعبة التأكيد وكنت قد كتبت في مكان آخر مقالات بينت فيها كيف يمكننا أن نعتبر ما حدث بتونس هو من قبيل الثورات الكبرى. لكنني سوف أواصل التفكير في دور المثقف في المجتمع وفي علاقته بالسلطة. لأن الحجة عند المشككين في صحة الثورة التونسية تتعلق بالنسبة إلى المحور الأول بالمدونين الشبان الذين قد أطلقت عليهم في مقال سابق تسمية المثقف اللمسي. فقد اتهموا بأنهم تلقوا تدريبات في المصالح الإستخباراتية بالولايات المتحدة وتلقوا التعليمات للإطاحة بالنظام. شخصيا أعتقد أن هذا الإتهام باطل ولا ينطبق على كل المدونين قبل الثورة. ربما اندس داخل جماعتهم ما سميتهم بجنود القلم لفرقعتهم من الداخل ولتحويل وجهة نضالهم نحو مصالح معينة.

أما الحجة بالنسبة إلى المحور الثاني فتتمثل في تواجد بعض المثقفين الغربيين في مناطق القرار قد يؤثرون في مجرى الأحداث مثل تواجد أستاذ الحقوق المختص في علوم الإسلام نوح فلدمان في مقر المجلس التأسيسي كملاحظ. ومعروف أنه قد ساهم في كتابة دستور العراق وأفغانستان وهو يحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية ويحذق اللغات العربية والعبرية والفرنسية والأنكليزية. ويبدو أنه على اتصال بقيادات حزبية ومن بينهم من ينتمي إلى النهضة الحزب الحاكم. فهو يلعب دور جندي القلم يحاول تحويل المسار الديمقراطي والمناقشات حول الدستور نحو مصالح الإمبريالية.

فيمكن للمثقف إذن أن يكون جنديا بقلمه وفكره وعلمه يعمل تحت إمرة الاستراتجيين في السلطة. ولست في حاجة إلى أمثلة كثير ة على ذلك ولكني أود أن أذكر بالدور الكبير الذي لعبه جندي القلم بارنرد هنري ليفي الفيلسوف الفرنسي الذي أطلق معية غلوكسمان على المثقفين الماركسيين في الثمانينات من القرن الماضي صفة “جنود القلم” لمناصرتهم للنظام السوفيتي آنذاك.

وقد بان الآن بالكاشف أنه يعمل تحت إمرة الإستراتيجيين الإمبرياليين وأن دوره كان يتمثل في تعبئة الرأي العام والمفكرين في العالم لتسهيل الإطاحة بالمعسكر السوفيتي خدمة للمصالح الغربية والصهيونية.

هذا الفيلسوف الذي تحول إلى صحفي يهاجم هجوما شنيعا كل من ينتقد الرأسمالية فينعته بالنازي والفاشي لعب دورا رئيسيا في تدمير ليبيا إذ أننا نذكر كيف وصل إلى مدينة بنغازي في أوائل شهر مارس 2011 واعتبر أن الجيش الليبي آنذاك على وشك القيام بمجزرة فحرض على تدخل الأمم المتحدة وأساسا فرنسا وهذا ما حدث وكانت الغاية السيطرة على الثروة البترولية والغازية الليبية وهذا أيضا ما حدث إذ تم الإتفاق بعد سقوط نظام القذافي على أن تمتلك فرنسا 35% من تلك الثروة.

وقد بينت الدراسات الآن أن مدينة بنغازي لم تكن مطلقا معرضة لخطر المجزرة وأن بارنرد هنري ليفي الذي أصبحت ثروته لا تحصى قد أطنب في الكذب لتهيئة الرأي العام حتى يتقبل بسهولة افتكاك بترول ليبيا. وقد بين ذلك بوضوح رمزي بارود في مقال أصدره شهر نوفمبر 2013 تحت عنوان ” بارنرد هنري لافي وتدمير ليبيا”.

فمثال نوح فلدمان في تونس ومحاولة تدخلاته كخبير في كتابة الدستور ومثال بارنرد هنري لافي وتدخلاته كمفكر فيلسوف لتدمير ليبيا وأمثلة عديدة أخرى تبين بما لا يدعو للشك أن “المثقف المفكر” قد يتحول إلى جندي يكرس العنف الشديد ويدعي أنه يشهر بالتعسف والعنف والمظالم الموجودة في الممارسات السلطوية.

فالعمل الأول الذي يقوم به جندي القلم الآن في الغرب بالنسبة إلى ما يسمى بالربيع العربي هو التدخل السريع في الثورات العربية حاملا لواء “الحضارة الغربية” باعتبارها الحضارة الكونية بامتياز محاولا من خلال علمه وتكنولوجيته وخبرته ربط مصير هذه الدول بالمصالح الإستراتيجية للغرب.

وقد بين إدوارد سعيد في كتابه المشهور “تصورات عن المثقف” أن ذلك لم يعد مجديا باعتبار أن للعالم الثالث أصبح الآن حضور فعال.

أما العمل الأهم لجندي القلم هذا يتمثل حسب رأيي في القيام بالتهيئة الإيديولوجية لما سميته في مقال سابق بالاستعمارية في مظهرها الجديد الذي يعتمد على العولمة.

ليس ثمة شك أن للمثقف المفكر في عصرنا وظيفة محددة بانتمائه الطبقي والسلطوي كما ذهب إلى ذلك الفيلسوف السياسي الإيطالي انطونيو غرامشي عندما ميز بين المثقّفين التّقليديّين الذين يقومون بوظيفتهم بانتظام كالمعلمين والأساتذة والإداريين وغيرهم والمثقفين العضويين النسقيين وهم مرتبطون ارتباطا مباشرا بالطّبقات التي تستخدمهم في تنظيم مصالحها السياسية.

كما لا يمكن الشك أيضا في قدرات المثقف المفكر على تجاوز المصالح المحلية نحو مبادئ وقيم أكثر كونية. ومع ذلك لابد من الانتباه إلى ظاهرة تحدث عنها الأديب المفكر الفرنسي جوليان بندا منذ العشرينات من القرن الماضي في كتابه “خيانة رجال الدين” وكان يتوجه باللائمة على المثقفين عامة الذين قد غادروا موطنهم الطبيعي ونعني الفكر والثقافة والإبداع ليرتبطوا بأهل السياسة والسلطة طمعا في المال والجاه، ازداد إذن التواطؤ بين المثقف والسلطة وتحول المثقف إلى جندي قلم يبرر القمع ويشجع على الهيمنة والإمبريالية.

هكذا نستطيع القول بأن العلاقة التناوبية بين السيف والقلم التي أكدنا عليها في مقال سابق اعتمادا على ابن خلدون لا تكفي بل هناك إمكانية لأن يصبح المثقف المفكر جنديا يبث بقلمه الرعب والعنف.

وعموما يمكن التأكيد على العلاقة الثلاثية بين المثقف والسلطة فإما أن يكون خادما للسلطة على وجهين، وجه ثقافي إيديولوجي بحت ووجهه تجييشي يشجع على العنف والإرهاب والتسلط، وإما أن يكون ناقدا للسلطة صامدا وثائرا ومدافعا عن حقوق المقهورين وإما ثالثا أن ينسحب من الساحة السياسية ليسكن برجه العاجي.

ومهما يكن من أمر فإن المثقف المفكر أصبح يتأرجح بين الخضوع والتمرد وفي كلتا الحالتين يعيش أزمة وجود قد تعصف به نهائيا لتحوله إلى تقني مختص يفكر جزئيا من خلال اختصاصه أو انتمائه فيسهل على السلطة تحويله إلى جندي قلم يخضع لأوامر الإستراتجيين المنظمين للحرب وللسلم على حد السواء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى