قضايا فكرية

تأملات في مسار الثورات العربية: الإسلام والحرية.. فتحي التريكي

الإسلام من حيث هو دين السلام والحرية لا يناقض نظرتنا المعاصرة للحرية التي هي شرط من شروط تحقيق المواطنة لدى الفرد، وبناء مؤسسة ديمقراطية وإنسانية.

وددنا في هذا المقال أن نتعمق في الفقرة الثانية من توطئة الدستور التونسي الجديد ونربطها بالفصل الأول والثاني لنتفهم جدلية خلاقة بين الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية والهوية العربية ومقوماتها من ناحية، والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من ناحية أخرى.

جاء في هذه الفقرة: “وتعبيرا عن تمسك شعبنا بتعاليم الإسلام ومقاصده المتّسمة بالتفتح والاعتدال وبالقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان الكونية السامية، واستلهاما من رصيدنا الحضاري على تعاقب أحقاب تاريخنا ومن حركاتنا الإصلاحية المستنيرة المستندة إلى مقومات هويتنا العربية الإسلامية وإلى الكسب الحضاري الإنساني، وتمسكا بما حققه شعبنا من المكاسب الوطنية”.. هناك من يرى في هذه الفقرة تناقضات بين الانتماء والكونية مصدرها تجاذبات سياسية بين اليسار المتمسّك بحقوق الإنسان، والإسلاميين المتمسكين بالهوية الإسلامية، والقوميين الذين يؤكدون على عروبة التونسيين. فكان الحل أن نجمع بين هذه المتناقضات في نفس الديباجة بل في الفصلين الأولين من الدستور ونذكر بهما: يقول الفصل الأول “تونس دولة حرة مستقلة ذات سيادة، الإسلام دينها والعربية لغتها والجمهورية نظامها” أما الفصل الثاني فيقول “تونس دولة مدنية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وعلوية القانون”.

لا أعتقد أن كل هذه الأفكار والمعاني وردت في الدستور نتيجة تلك التجاذبات. بل لا أرى تناقضات بين تلك الفصول وفي الديباجة أصلا. لأن الإسلام في روحه لا يناقض الحرية، ولا يعادي الإنسان، ولا يجانب الكونية. صحيح أن الإسلام دين يربط الإنسان بخالقه في علاقة داخلية وذاتية، ولكنه أيضا ثقافة وحضارة يعتمد دينيا الإحسان، واجتماعيا التآزر، وسياسيا التسامح، لذلك أكد الدستور على مقاصد الإسلام “المتسمة بالتفتح والاعتدال”. وسنحاول البرهنة على هذه الأطروحة في مقالات مقبلة لنبين أن ما جاء في هذه الفقرة وفي الفصلين الأولين، كان نتيجة نضالات المجتمع المدني، فهي مقاربة تقدمية تنويرية لعلاقة ممكنة بين الإسلام من حيث هو دين وحضارة، والحرية والديمقراطية والمواطنة من حيث هي ركائز أساسية للمجتمع المدني الذي يطمح له الشعب التونسي.

لا يمكن في هذا العمل تحليل كل مظاهر كلمة الحرية المشحونة فكريا وكلمة الأمة الموسومة أيديولوجيا، سأحاول تعريفهما وتحليل علاقاتهما المنسجمة دينيّا في الإسلام. لا نشك أن هناك في التفكير السياسي الإسلامي مصطلحات مثل الأمن والعدل والأخوّة والتّضامن أكثر شيوعا من الحقّ والحرّية والفرد. ولكني لا أذهب إلى ما ذهب إليه بعض المستشرقين، مثل”مونتوقمري بيقين”عندما كتب ما معناه أنّ: “مفهوم الحرّية لم تكن له قط أية مكانة في الفكر السّياسي الإسلامي”. بل أوافق ما انتهى إليه “روزنتال” حين أكّد أنّه: “إذا لم تكن الحرّية من حيث هي نموذج، معروفة بكونها قوّة سياسيّة فذلك لأنّ الدّعم ينقصها ذاك الذي به يكون الموقع المركزي وحده في التّنظيم السّياسي وفي نسق التّفكير قادرا على أن يزوّدها به”. إذا كان حقيقيا أنّ المصطلحات المؤسّسة للأمّة مثل الأخوّة والتّضامن قد أضفت طابعا إنسانيا على العلاقات السّياسية والاجتماعيّة، حيث أنها عادة ما تغيب العنصرية والتّمييز، لتمسي علاقات غير صراعيّة بين الناس مهما اشتدت خلافاتهم، فليس أقل أهمية بالنّسبة لهذه العلاقات أن يكون للحرية تأثير في يقظة الفرد بصفته ذاتا مستقلة عن المجموعة.

يجب على الفرد أن يخضع إلى إلزامات الجماعة، بل يجب عليه أن يحمل في ذاته شعورا قويا بالأخوة لا مع المسلمين فقط بل مع الإنسانية جمعاء. هذه الرغبة هي أحد عوامل الاندماج وتجانس أشكال وجود المسلمين في مجتمعاتهم وطموح الإسلام في أن يكون دينا إنسانيا وكونيا، ولكنّ ذلك لا يعني أنّ الفرد كذات لا يمكن له أن يختلف عن جماعته، وأنّ التّفكير في الإنسان الفرد غريب عن الثّقافة الإسلامية، لذا لابد من تحليل يبحث في منزلة الفرد في الفكر الإسلامي ويبرز فعاليته على مستويات متزامنة، نظريّا وميتافيزيقيا وعمليا وسياسيا.

إنّ الفكر الغربي تكوّن، بعد الثّورة العلمية في بدايات الحداثة التي وضعت نظريّة الذّات على النّحو الذي نشتغل به في تفكيرنا. ويعدّ تكوٌن الغرب الحديث نتيجة هذه الذّات المتحررة من تقاليد الجماعة، ومن غير المجدي السعي إلى إيجاد هذا الشكل من الذّاتية في تعبيرات الإسلام الحضارية، ولكن هذا لا يبرهن على أنه لا اعتبار للفرد “المسلم” إلا من جهة انصهاره الكلي في الجماعة. هذه الأطروحة ليست فقط نتاج الغطرسة الاستعمارية والعنصرية المروجة اليوم إعلاميا وثقافيا، بل يوجد لها تبرير تؤيده الأنثروبولوجيا المركزية لعدد كبير من المفكرين الغربيين الذين دعموا، عمدا أو عن غير قصد، مفهوم “أن ذاتية الأنا الفردي هي إبداع غربي فقط”، بينما الحد الأدنى من الموضوعية العلمية يدعوهم إلى الحديث عن نمط غربي للذاتية من بين أنماط أخرى ممكنة. وقد قدم المفكر التونسي فتحي بن سلامة عديد الحجج لفائدة التفكير في الفرد وفي الذّات في الإسلام نلخصها في ما يلي:

– على الصعيد الفكري والفلسفي نشير إلى نظرية التّفريد لدى ابن سينا الذي يعرف الإنسان بصفته كائنا منفصلا له وجوده الخالص في الزّمان والمكان، كما نشير إلى نظرية الهوية الحميمية، عند الفارابي ومسكويه وابن عربي…

– على الصعيد الاجتماعي الأخلاقي نشير إلى رسالة الأخلاق لمسكويه (ق10م) حيث يبدو الإنسان الفرد هو الذي يقوم بالربط بين الطبيعة والثقافة.

– على المستوى الروحي، لنا أمثلة عديدة في كتابات المتصوفة وعلاقاتهم المتفردة بالخالق.

هناك إذن تفكير في الإنسان الفرد وتفكير في المماثلة والتفرد، وما هو مهم هو أنّ المراهنة على الفرد كعنصر تفكير في الإسلام من النّاحية الاجتماعيّة والرّوحانية والسّياسية، يمكن أن يكون أساسا مرجعيا لدراسة حول الحرّية والعلاقة بين الإنسان والمجتمع المدني. هذا الأساس المرجعي يجعلنا نتفادى الخصوصيّة الثقافية والإقليمية الخالصة والمتصلبة والمتعلّقة بالتفكير في الحرية. ورغم الاختلافات، فإن حرية الفرد تبقى قيمة قصوى تتأسس على مبادئ أساسية ومتعالية للحق، مع أن وظائف الثقافة لا يمكنها أن “تستنبط من طبيعة الأشياء أو الطبيعة الإنسانية”.

لا يتعلق الأمر بالدفاع عن الحضارة الإسلامية ولا بالتنقيص من قيمة إحداثيات العالم الغربي، بل يتعلق بتحديد ما يؤهل الثقافة الإسلامية للمشاركة في قيمة الحرية القصوى والمتعالية وفي الإمكانات المتاحة لتفعيلها في السياسة والمجتمع. فالإسلام من حيث هو دين السلام والتضامن والحرية لا يناقض نظرتنا المعاصرة للحرية التي هي شرط من شروط تحقيق المواطنة في الفرد، وبناء مؤسسة ديمقراطية وإنسانية في المجتمع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى