الرأي

بين الصحافة والسياسية

قال أستاذنا محجوب محمد صالح في أحد اللقاءات التلفزيونية حول أولى خطواته في عالم الصحافة دخلت الصحافة من باب السياسة وكانت بالنسبة لي تجربة وطنية ومهنية مسؤولة.
وحين التقيت برفقة أستاذنا الصحفي المصري يوسف الشريف في منتصف التسعينيات الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل في مكتبه على كورنيش الجيزة سألته إن كان هناك ثمة تناقض بين أن يكون الصحفي مهنياً وأن يكون له رأي سياسي وكيف يمكن أن يوفق بين رأيه ومهنته فقال لي إقرأ كتابي بين الصحافة والسياسة ستعرف الإجابة وأضاف قائلا: للصحافة أخلاقياتها التي طالما تم الالتزام بها فإنها لا تتناقض مع الرأي السياسي أو الفكرة وللخبر ضوابطه وللرأي حيثياته التي يستند عليها، وأضاف أنا كنت مستشارا لعبد الناصر ووزيرا للإعلام ورئيسا لتحرير الأهرام ولم يؤثر ذلك على مهنيتي بل أضاف إليها الكثير من المعنى والمضمون.
وفي ضوء الممارسة الصحفية كثيرا مايصطدم الصحفي صاحب الرأي السياسي بهذا التحدي وهذا ماتعرضت له خلال تجربتي، فأنا بدوري استشعرت ضرورة التوازن في ممارسة المهنة بين الموقف الوطني والمهني، لأني أيضا دخلت الصحافة من باب السياسية ولكني كرست نفسي للعمل الصحفي المهني فكانت الخلفية السياسية قيمة إضافية أعانتني على تجويد الأداء المهني لكنها أيضا كانت منضبطة بأخلاقيات المهنة التي عززتها لنا الخبرات من خلال المدارس الصحفية المختلفة التي استفدنا منها خلال مسيرتنا العملية سواء في مؤسسات الصحافة والإعلام العربي أو في مؤسسات الإعلام الغربي التي عملنا بها واكتسبنا من خلالها بعض الخبرات والتقاليد المهنية.
لكن في بلادنا تغلب السياسة غالبا على محتوى المادة الصحفية بطريقة تؤثر سلبا أحيانا على الأداء المهني ويكون ذلك في الغالب لغياب عامل التدريب بسبب الظروف التي فرضتها الأنظمة الشمولية على مسيرة الصحافة وتطورها، وهو ما لعب دورا أساسيا في اختلال الأداء المهني إلى حد ما.
وغالبا ما تصنف معظم صحافتنا كصحافة مقال أو رأي وقد أثرت الحقب الشمولية في بناء ثقافة صحفية أثرت رغبا أو رهبا لصالح الميل الدعائي السياسي أو الإذعان للسلطة وأهوائها مما أثر على صناعة الخبر أو صياغته بمعنى أدق بعيدا عن الالتزام بأخلاقيات المهنة ويبدو هذا واضحا في ظل النظام الشمولي الذي يوجه الصحافة لخدمة أهدافه فلا يكون أمام الصحفي إلا أن يستسلم لما يريد الرقيب أو الموجه ويتحول إلى موظف لخدمة النظام تحت مصنف صحفي موظف أو يبحث عن مهنة أخرى أو يغادر البلاد ليؤكد ذاته الصحفية وقناعاته المهنية.
ولأن حقبة الإنقاذ كانت من أسوأ وأطول الحقب الشمولية والقهرية التي أهدرت مهنة الصحافة وحولتها إلى جهاز للدعاية الحزبية للنظام أصبحت مثالا واضحا لانتهاكات حرية الصحافة والصحفيين وأصبحت خارطة السودان الصحفية مطلية باللون الأحمر في كل تقارير منظمات الحريات الصحفية الدولية طوال عهد نظام الإنقاذ.
الآن وبعد فجر الثورة لعل أهم التحديات والمهددات التي تواجه مهنة الإعلام والصحافة المهنية هي تحديات الإعلام الجديد السريع الانتشار الذي لا يخضع لأي ضوابط أو أخلاقيات مهنية ويبدو هذا واضحا من سرعة صناعة الشائعات وانتشارها والبناء عليها وكما قال الأستاذ محجوب محمد صالح نقيب الصحافة السودانية سيظل الإعلام الجديد تحديا ومهددا لمهنة الصحافة، إلا أن الأخطر هو أن تستقي بعض الصحف أخبارها من الإعلام الجديد غير المحقق وتساهم بذلك في هدم ذاتها وهو ما يجب الانتباه له.
ولعل من أهم وآجبات الصحافة المهنية وضع الرسالة الإعلامية في مسارها الصحيح لتسهم في تمليك المعلومة الصحيحة وخلق رأي عام مستنير وحقيقي وهو ما يساهم في ترسيخ البناء الديمقراطي وقيم الحرية في مواجهة الفوضى الإعلامية الأثيرية الهدامة والتي تعتمد بشكل رئيسي على الشائعة والترويج لها أو المزاجية في صناعة أخبار وهمية بغية إثارة الرأي العام لأهداف سياسية وهو مايبدو واضحا هذه الأيام عبر العديد من النماذج النشطة فارغة المحتوى.
ومثلما أن الممارسة الديمقراطية تطور من أدواتها التي تشكل ركيزة أساسية لاستمرارها ومن أهمها الصحافة الحرة فالحرية والحفاظ عليها يشكل هدفا استراتيجيا لبقاء الصحافة ودورها كسلطة رابعة لخدمة أهداف الإنسانية في تحقيق السلام والعدل والحرية وإضاءة شموع الوعي والاستنارة في المجتمع الديمقراطي مستلهمة أخلاقيات المهنة وثوابتها الأساسية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى