قضايا فكرية

بقلم :ومحمد بنحمامي.. يورغن هابرماس قارئ لنيتشه

..1)    تقديم
ينتمي الفيلسوف الألماني المعاصر “يورغن هابرماس” إلى الجيل الثاني من مدرسة ”فرانكفورت” الفلسفية  الموسومة بـ”النظرية النقدية” والتي ارتبطت بالتنظير للحداثة الغربية وفق مبدأ “النقد” “والإنفتاح” على كل إنجازات الفكر الغربي الحديث. وبذلك ستشكل هذه “النظرية النقدية “، أحد مكونات ”الخطاب الفلسفي للحداثة” كخطاب يمتد من القرن الثامن عشر إلى اليوم. وإذاكانت مهام هذا الخطاب، ترتبط بتشخيص أمراض الحداثة، وتقترح علاجات لها، فإن المشروع الفلسفي الهابرماسي سيقوم بنفس المهام لكن من منطلق فلسفي خاص يتمثل في ما يطلق عليه “هابرماس” اسم :”نظرية العقل التواصلي” والتي في إطارها ينتقد ذلك الموقف الفلسفي الرافض للحداثة، والمرتبط بما يسمون خطأ: “فلاسفة ما بعد الحداثة” والذين على رأسهم الفيلسوف الألماني ” فريديريك نيتشه” بحيث سيخصص كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة” للكشف عن مجموع الإحراجات التي انتهى إليها هؤلاء في إطار نقدهم للحداثة، بما هو دعوة منهم إلى تجاوز الحداثة إلى مابعدها .. لهذا فإن هابرماس سيتحفظ من مصطلح “ما بعد الحداثة ” الذي نحته الفيلسوف الفرنسي ”فرانسوا ليوتار” انطلاقا من مجموع الأبحاث السوسيولوجية المرتبطة بالتحديث الذي يعرفه المجتمع الصناعي المعاصر كمجتمع استهلاكي أي كمجتمع للوفرة. وتحفظه يبنيه على الإعتبارات التالية 1) إذاكانت  الحداثة مشروع غير مكتمل، فإن تنظير هؤلاء الفلاسفة لمرحلة ما يعتقدون أنها تجسد مابعد الحداثة لايعني انفصالهم عن الحداثة.2) وإن كان هؤلاء قد مارسوا النقد الجذري على أحد المبادئ المؤسسة  للحداثة والمتمثل في : العقلانية، وإعلانهم من خلال ذلك عن فشل مشروع الحداثة، فهم بذلك قد اختزلوا هذا الأخير في بعده السلبي فقط .3) إن هؤلاء الفلاسفة رغم محاولاتهم الإنفلات من من شبا ك البنية المفاهيمية للعقل الحداثي أو الأنواري، فهم مع ذلك ظلوا مشدودين إليه وهذا ما أوقعهم في الإحراج. وهكذا وفي جميع الحالات فإن فلسفة هؤلاء ظلت مدرجة ضمن الخطاب الفلسفي للحداثة. هذا مع العلم أنهم تميزوا عن فلاسفة الأنوار، في تشخيص أمراض الحداثة وكذا في حدة انتقداتهم لها، وما يشفع لهم ذلك هو انتماؤهم إلى مرحلة تاريخية أصبحت فيها الحداثة سافرة وبدون مساحيق حسب تعبير الأستاذ : “محمد سبيلا”

2)    انتقادات نيتشه للحداثة
إذا كان فلاسفة الحداثة وخاصة منهم  المنتمون إلى القرنين الثامن  والتاسع عشر، مثل أولائك الهيجليين اليمينيين ، كـ”جواكيم رايتر” و”هانز فرايير” واليساريين  كـ” ماركس “، و”إنجلز“ قد اعترفوا بإنجازات العصور الحديثة والمتمثلة في ترسيخ الحرية الفردية اجتماعيا وسياسيا وأخلاقيا وفكريا، وكذا في إشاعة روح العقلنة على أكثر من مستوى، فإنهم التزموا في نقدهم للحداثة بالعبارة الهيجلية: ”إن نقد الحداثة لذاتها تستمده من ضماناتها الخاصة” ومعنى ذلك أنهم جعلوا من العقلانية الحداثية مصدرا لتعويض نقائص ومظاهر عجز وشروخ الحداثة. إذا كان الأمر كذالك بالنسبة لهؤلاء الهيجليين، فإن ”نيتشه” سينطلق من رفض هذه “الثقافة التعويضية” لأنها تحيل في نظره على وعي تقليدي للزمن والذي يتغذى من تلك الروح التاريخية القديمة، التي تحاكم الحاضر انطلاقا من الماضي، بدل العكس، أي محاكمة الماضي على ضوء ما هو عظيم في الحاضر.

وعندما نرجع إلى تاريخ العقل الحداثي، يلاحظ “نيتشه” أنه تم إدراكه في صور ثلاثة: كمعرفة بالذات، وبالتالي كتصالح معها، كقوة تحريرية، وأخيرا كذاكرة تعويضية (تعويض الفراغ الذي تركه الدين ، كقوة توحيدية أخلاقية) وهي صور تعكس الرغبة في نحت مفهوم للعقل على مقاس برنامج الحركة الجدلية للأنوار. لكنها رغبة عبرت عن فشل ذريع في إنقاد الحداثة. وهكذا وجد ”نيتشه” نفسه أمام خيارين: إما الخضوع مرة ثانية، لنقدالعقل الحداثي كعقل متمركز على الذات، انطلاقا من العقل نفسه كما فعل الهجليون، وإما العزوف عن هذا النوع من النقد. وإذاكان قد اختار الحل الثاني، فهو بذلك سيعلن عن نيته في مغادرة العقلانية الأنوارية، والتشكيك في المبدإ الهيجلي الداعي إلى ضرورة نقد الحداثة من داخل الحداثة، وتعويضه بمبدإ آخر يقول: ”إننا لانملك شيئا بواسطتنا نحن المحدثون الآخرون“. فالمطلوب إذن وفق هذا المبدإ النيتشوي التأسيس لنقد جذري للحداثة ولعقلانيتها وذلك من خلال شحد الوعي الحديث بالزمن، بحيث يجعل تدفقه في المستقبل، لايحول دون عودته إلى ما مضى، إلى تلك اللحظات الوهاجة التي كان فيها الفكر غير منفصل عن الحياة، والتي عبر عنها الفلاسفة ماقبل سقراط، أمثال هيرقليط وأنبا دوقليس … وهكذا يعتقد “نيتشه” أن مستقبل عصره يقتضي ابتداؤه من المرحلة التي تخلى فيها الفكر عن الحياة، والتي عبرت عنها الفلسفة السقراطية أحسن تعبير، عندما أعلنت عن ضرورة الفرار من الجسد والحياة، نحو اللاعقل والجوهر والموت. بحيث فقدت الفلسفة قيمتها، لأنها انتصرت لتلك القيم المعرفية والأخلاقية الثابتة التي يمليها العقل على الإنسان ضدا على حياته القائمة على منطق التغير والتنافر والتناقض. وإذاكانت الحداثة في نظر ”نيتشه” لاتمثل سوى تلك المرحلة المتأخرة في التاريخ الضخم لتلك العقلانية التي تبتدئ بالقضاء على الحياة  القديمة، وإسقاط الأسطورة، فإن هذا ما يؤكد في نظره أن هذه الحداثة قد فقدت  قيمتها لأن عقلانيتها جعلتها تختزل حياة الإنسان في أنساق معرفية وأخلاقية مطلقة ومتناقضة تماما مع “إرادة القوة“ التي تحكم الحياة باعتبارها عنوانا للتناقض والتغير اللانهائي، والحرية. وهذا ما يجعل هذه الحداثة تلتقي مع الديانات التوحيدية، التي كرست  استعباد الإنسان وفصله عن حياته، كما هو الحال مع المسيحية، والتي هي  في الأصل من إنتاج العقل، بل وهي أكثر عقلانية  من أن تعارض أي شيء في العقلانية المتطرفة  للحداثة. وهكذا يرى “نيتشه” بأن سقراط والمسيح  يؤسسان لذلك الطلاق التاريخي بين الفكر والحياة، والذي جسدته الحداثة في أنساقها الميتافيزيقية. ويكفي أن نشير هنا إلى كيفية تصور هذه الأ نساق  للذاتية  وما تحيل عليه من حرية، باعتبارهما مبدأين حداثيين، بل وشعارين لفلسفة الأنوار. فالفلسفة الديكارتية مثلا، قد أكدت من خلال الكوجيطو أن العقل يشكل ذلك الجوهر الذي بدونه لاتوجد الذات، لأنه هو الذي يمنحها القدرة على التفكيرالذي بموجبه تؤكد وجودها هذا. وهكذا فإن الذاتية منظور إليها على هذا النحو، أي كجوهر، هي ذاتية مجردة لاتربطها أية علاقة بجسدها  وبالحياة في قوتها الحيوية المتجددة بشكل لانهائي. إنها ذاتية واقعة تحت هيمنة العقل الذي لايعير أي اهتمام لذلك التوتر الكامن في كل ذات بين العنصر ”الديونيزي” الذي بموجبه تنزع هذه الذات للإنسلاخ عن ذاتها في اتجاه المستقبل، والعنصر “الأبولوني” كمنبع للحياة الفردية والوعي بهوية هذه الذات .

3)    بدائل الحداثة
ينتهي بنا “نيتشه” من خلال إنتقاداته الجذرية للحداثة إلى أن حل مشاكل هذه الأخيرة، موكول للاعقل ممثلا في أسطورة ”ديونوزيس” اليونانية، والتي ترتبط بهذا الأخير كإله للخمر والتغير والذي اختفى لكي ينتظر رجوعه في المستقبل، الشيئ الذي سيجعله رمزا لإله المستقبل والحياة من حيث هي ”إرادة للقوة”. إنها إذن أسطورة تجسد تصالح الفكر مع الحياة، والإنسان مع جسده، مثلها في ذلك مثل الفلسفة الماقبل ـــــــ السقراطية، والتي هي عنوان لتلك المرحلة العظيمة في تاريخ الإنسان. من هنا فتجاوز الحداثة، يقتضى العودة إلى هذه المرحلة، وهذه العودة، سوف لن تتحقق في إطار الفلسفة بل في إطار “الفن” فهو الذي يمكنه اَلإضطلاع بتحقيق ذلك ”العود الأبدي” الذي بموجبه سيتجاوز الإنسان تناهيه، نحو ما هو أبدي ولامتناهي في الحياة وينشد الخلاص من ما أدت إليه الحداثة من تحنيط للذاتية، وللقيم المعرفية والأخلاقية، نحو مستقبل لايمكن اللحاق به. وهكذا سيستبدل نيتشه الواجب العقلي الأخلاقي الحداثي (الكانطي) ”افعل بحيث يكون سلوكك قاعدة لتشريع عام” بواجب ديونوزيسي هو: “عش بحيث ترغب في الحياة ثانية” لكن الفن الذي يستطيع تحقيق هذه المهمة ليس هو “الفن الرومانسي” ممثلا في موسيقى ”فاغنر”، وذلك لأن هذا الفن لايختلف في العمق عن المسيحية، التي هي مظهر من مظاهر العقل الحداثي. وهذا ما يعبر عنه بالقول ((إن دوافعي ضد موسيقى فاغنر دوافع عضوية .. فما أشعر به  فعلا عند ما أستمع إلى تلك الموسيقى، هو العجز عن التنفس بسهولة. ولذا تثور أٌقدامي  وتغضب، إذ أنها في حاجة إلى الإيقاع والرقص والمشية المنتظمة)) ( مـأ خوذ عن كتاب : نيتشه. فؤاد زكريا ص: 32) بخلاف ذلك الفن الرمزي، الذي كان يمثله أحسن تمثيل، أحد معاصري نيتشه، وهو “ما لارميه” فهو الفن الذي يستطيع تحقيق مهمة “العود الأبدي” وذلك بالنظر إلى أصله “الديونيزي” القائم على التحررمن أسر العقل، والمنفتح على الحياة في صيرورتها اللانهائية. فالظاهرة الجمالية التي يجسدها هذا الفن، تحقق للذات نشوة روحانية  تعبر عن نفسها في ذلك التيهان الذي يضمن لها التصالح من جديد، مع جسدها ومع الطبيعة الخارجية. إن رمزية الفن تجعل منه قوة إبداعية تتمظهر في صور مختلفة، بل وتجعل منه إرادة للتمظهر والتقنع والتي تقوم عليها الحياة نفسها .

4)    إحراجات النقد النيتشوي للحداثة .

هكذا إذن يراهن “نيتشه” على الفن من أجل مواجهة عدمية العقل الحداثي، وتفكيك الميتافيزيقا الثاوية فيها. لكنه تفكيك سيسقطه، حسب “هابرماس” في مجموعة من الإحراجات. منها: ألا يعتبر الفن الرمزي، الذي استنجد به “نيتشه” للفرار من الحداثة، هو حصيلة للتطور الفني الذي أنجزته الحداثة نفسها؟ فكيف يمكن إذن الفرار من الحداثة بواسطة الحداثة نفسها؟ ولعل مايؤكد هذا الإحراج في نظر “هابرماس“ هو أن “نيتشه” كان على وعي به، بدليل لجوئه إلى تصفية حسابه مع كل مظاهر العقلنة الأخلاقية  والمعرفية، وكذا مظاهر النفعية  في هذا الفن، مؤكدا بذلك على مبدأ ”الفن للفن”. وإذا كان أيضا هذا التفكيك النيتشوي  للعقل الحداثي، قد انتهى إلى اعتبار هذا العقل، بأنه ليس سوى تحريفا لإرادة القوة، فهو لم يعمل سوى على الدفاع عن سلطة هذا العقل، لكي لاينحرف، ويصبح أداة للهيمنة وممارسة المازوشية على الذات. كما يدافع على مبدإ حداثي بامتياز هو:  عقلنة السلطة. وهكذا  فهو ينتهي  في الحالتين معا إلى نقد العقل بواسطة العقل نفسه .

من كل هذه الإحراجات يستشف هابرماس، بأن “نيتشه” و“هيدغر” و”ديريدا” و”فوكو” وغيرهم من فلاسفة ما يدعون خطأ بالمابعد ـــــــ الحداثيين، رغم نقدهم، الذي أرادوا له أن يكون جذريا للحداثة، فإنهم مع ذلك لم يبرحوا فلسفة الذات التي تقوم عليها هذه الحداثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى