تقارير

المفقودون .. العدالة الوطنية على المحك

الديمقراطي أم زين آدم

طوال ثلاث سنوات، تبحث أسرة الشاب المفقود، المكاشفي مهدي علي، عنه في كل مكان، وطرقت كل أبواب العدالة. اختفى المكاشفي في الرابع من يونيو 2019، في أعقاب العنف المطلق الذي صاحب مجزرة فض الاعتصام في محيط القيادة العامة. وقالت والدته: “منذ ذلك اليوم وحتى الآن عملنا كل شيء، ولا خبر عنه حياً أو ميتاً”، وأسكتتها غصة في الحلق عن الكلام.

إنكار تام

في ذلك اليوم المشؤوم، والأيام التالية، دوّن ناشطون ومدافعون عن حقوق الإنسان وقانونيون وأسر ضحايا بيانات عن (20) شاباً فقدوا خلال فض الاعتصام والعنف المتناسل منه بمطاردة المعتصمين والثوار. ومن بين المفقودين الطفل، عبادي عثمان مهدي. ولم يفق أهل الضحايا وأصدقاؤهم من هول صدمة اختفائهم الغامض، حتى لحق بهم آخرون في أعقاب انقلاب عبدالفتاح البرهان في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي. سجلت مضابط الشرطة بيانات (5) مفقودين، وأفاد حقوقيون خلال حديثهم لـ (الديمقراطي) بأن أرقام المفقودين أكثر بكثير من العدد المدون في السجلات الرسمية. وهناك مفقودون لم يتم الإبلاغ عنهم من قبل ذويهم، وأفادت أسر الضحايا أن الأجهزة الأمنية نفت بصورة قاطعة أن يكون هؤلاء المفقودون بطرفها أو أنها تعرف أي معلومات عن أماكن وجودهم أو مصيرهم.

حكاية محمد

محمد عبدالمنعم محمد صالح، (16) عاماً، هذا اليافع اختفى مع من اختفوا بعد انقلاب البرهان، غادر منطقة المايقوما بضاحية الحاج يوسف بالخرطوم بحري، منتصف نهار 30 نوفمبر الماضي للمشاركة في موكب المطالبة بالقصاص للشهداء. وروى شهود عيان أنه كان متواجداً في منطقة تقاطع محطة الصقعي، تحرك مع الموكب إلى الخرطوم ووصل صينية القندول بشارع السيد عبدالرحمن، ومن هناك اتجه شمالاً نحو جهة القصر الجمهوري. وقال والده عبدالمنعم لـ (الديمقراطي) إنه تم إبلاغه من شهود عيان بأن محمد، حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، كان متواجداً بشارع الجامعة، وفي تلك المنطقة قامت قوات الأمن بإطلاق الغاز المسيل للدموع بكثافة.

بعد أن نشرت أسرته صورته وأعلنت عن اختفائه، أبلغتهم إحدى الفتيات بأنها وقتها كانت متواجدة بكافتيريا زيورخ بشارع القصر، وأن محمد دخل إلى الكافتيريا وكان متأثراً بالغاز المسيل للدموع، وكانت تتواجد في المكان طبيبة قامت بإسعافه وغسل وجهه بالخل، وأعطي كوب عصير. بعدها غادر نحو الساعة الرابعة عصراً، على بعد أمتار من ذلك المكان، أحد أبناء المنطقة شاهد محمد وقرر مناداته ليترافقا سوياً ويعودا إلى منزليهما.

ذكر ذلك الشاب أنه في تلك اللحظة تمت مداهمة المكان من قبل قوات نظامية على متن عربات تاتشر اعتقل هو ونقل إلى القسم الشرقي بضاحية أركويت، وهناك تعرف عليه رجل شرطة كان يعرف والده فاتصل بأسرته وتم الإفراج عنه، بيد ألا أحد عرف معلومات مؤكدة عن مكان تواجد محمد. وتواترت روايات شهود العيان، تارة يقولون في سجن سوبا، وتارة أخرى يقولون نقل إلى سجن بورتسودان. وقال أحد شهود العيان لوالدة محمد، زينب عزالدين، إنه يحمل الرقم (562) ومتواجد بسجن سوبا وتم ترحيله إلى سجن بورتسودان، بيد أنها التقت أحد المعتقلين ممن أفرج عنهم من سجن بورتسودان، فأبلغها بأنه لم يكن معهم، ومنذ ذلك الحين تعيش أسرة محمد، وهو أكبر أولادها بين عسى ولعل.

وكان المفقود الزين عثمان محمد آخر المختفين، تم فتح بلاغ باختفائه في 30 يونيو الماضي، وروى شهود عيان أنه شوهد آخر مرة في حالة اشتباك مع القوات العسكرية أمام مسجد النيلين.

آخر النفق

في حديثه مع (الديمقراطي)، أفاد الخبير القانوني وعضو مجلس إدارة المركز الأفريقي للعدالة ودراسات السلام،

أن حكومة السودان في 10 أغسطس 2021 وقعت وصادقت على الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، ووصف الخطوة بالمهمة والإيجابية، ولكن تظل هناك ضرورة أن تتخذ الحكومة خطوات أخرى في اتجاه إجراء إصلاحات في القوانين السودانية والمؤسسات العدلية حتى تتواءم مع  متطلبات القانون الدولي. ولفت صالح إلى وجود السودان في البند العاشر في مجلس حقوق الإنسان، وهذا يتيح للسودان الاستفادة من المساعدات الفنية لإجراء هذه الإصلاحات.

وحسب ما ذهب إليه صالح أنه لا توجد إرادة سياسية والشاهد أن السودان قبل أعوام كان في البند العاشر، إلا أن النظام البائد وحكومتي حمدوك والحكومة الانقلابية الحالية ليست لديهم الرغبة في إلغاء القوانين التي ثار ضدها الشعب ولا تزال سارية المفعول، وبالتأكيد هذا الوضع يضعف الوصول إلى العدالة وتطبيقها، ومما يعيق العدالة قانون الإجراءات الجنائية والحصانات غير الضرورية لأعداد هائلة من الرسميين المنتمين لأجهزة الدولة، وغالبيتهم متورطون في الانتهاكات الشنيعة والجرائم ضد الإنسانية والاختفاء القسري، وكلها جرائم دولية.

فيما يتعلق بقرار النائب العام بدفن الجثث المتكدسة في المشارح والتى بلغت نحو (3000)، قال صالح: “يجب النظر إليه من عدة زوايا، إذ إنه من الطبيعي دفن المتوفين، لكن غالبية هذه الجثث تعود لأشخاص من المفقودين، وقد يكون تم قتلهم في محيط القيادة، لذا دفن الجثث دون اتخاذ الإجراءات الطبية القانونية المعروفة في هذه الحالة ومعرفة الأشخاص وهوية الجثث يثير المخاوف من أن يؤثر هذا على سير الإجراءات والعدالة، خاصة أنه في وقت سابق حضر إلى الخرطوم فريق تحقيق أرجنتيني لمساعدة الأجهزة ذات الصلة للوصول إلى هوية المتوفين بالمشارح والجثامين التي وجدت بالمقابر الجماعية، وتمت عرقلة ذلك مما يشير إلى أن الحكومة تسعى لطمس الجريمة بصورة متعمدة، ويجب أن ينتبه الإعلاميون والأطباء والمدافعون عن حقوق الإنسان إلى هذا الإجراء الذي من شأنه أن يؤثر على سير العدالة”. وأضاف صالح: “المطلوب- وبصورة عاجلة- الإسراع لمعرفة هوية هؤلاء الأشخاص ومعرفة سبب الوفاة وتحديد مكان الدفن. جريمة الاختفاء القسري لا تنتهي بالتقادم، وبالضرورة معرفة مصير الشخص المخفي، إما الوصول إليه أو الوصول إلى رفاته”.

شمعة دولية

خلال مشاركتها في ندوة عامة بدار المحامين عن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، أوضحت إسعاف بن خليفة، مسؤول مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان بالخرطوم، لأسر الضحايا والمهتمين بهذا الملف الخطوات المطلوبة، وكيف يمكن أن يتصرفوا للوصول إلى العدالة الدولية حال عجزت الأجهزة العدلية الوطنية في إنصافهم. وبينت إسعاف أن أولى الخطوات للوصول إلى العدالة الدولية تتم بإبلاغ السلطات وعلى نطاق واسع عن حالة الاختفاء، والتواصل مع لجان التحقيق. وقالت: “إذا كانت الدولة لا تجرم الاختفاء القسري، ولا ذكر له في قوانينها، هذا يعني تقديم الشكوى تحت غطاء قانون آخر لو توفرت معلومات وصور وشهود”.

أضافت: “على مستوى القانون الدولي، هناك آليتان كبيرتان: الإجراءات الخاصة، ولجنة الإخفاء القسري، وهذه اللجنة لها آليتان، تتلقى الشكاوى والبلاغات الفردية وتتحقق وتتصل بالدولة وقرارها شبه قضائي.

والآلية الثانية متاحة الآن (الإجراء العاجل بموجب المادة 30 من الاتفاقية). ويمكن لأسر الضحايا التواصل مع مكتب المفوض السامي بواسطة سكرتارية المكتب عبر البريد الإكتروني لمعرفة مزيد من التفاصيل والإجراءات”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى