الرأي

المرائي

يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ! (متى 7: 5)

وَالـنَّـجْـمُ تَـسْـتَـصْـغِـرُ الْأَبْـصَـارُ صُـورَتَـهُ….وَالـذَّنْـبُ لِـلـطَّـرْفِ لَا لِـلـنَّـجْمِ فِي الصِّغَرِ. بيت الشعر هذا من قصيدة لـ أبو العلاء المَعَرِّي (973- 1057) تبدأ بقول: “يَا سَاهِرَ الْبَرْقِ أَيْقِظْ رَاقِدَ السَّمُرِ”، جعل البعض من أول هذه القصيدة عنوانا لها، يعتبر المعري شاعرٌ وفيلسوفٌ وأديبٌ وكاتب مِنَ العصرِ العبَّاسي، اشتُهِرَ بآرائِه وفلسفتِه المثيرةِ للجدلِ، أحبه عميد اللغة العربية في القرن الماضي الدكتور طه حسين يمكن لتشابه حياتهم معا في فقدان البصر والنبوغ الفكري. يقصد الشاعر في بيت الشعر الذي يدور ما بين قدرة العين المتواضعة وكبر الحجم الحقيقي للنجم. بحسب الشارح جهل الذين لا يفطنون حقيقة الأخرين، إذ يكتفون بظواهر الأجسام، فيتوهمون بنظرتهم المجردة، ولم يروا بالبصيرة الباطنة. تحدث قبله المتنبي ( 915 – 965) عن موقف الناس تجاه بعضهم ويفتخرون إن كان بالسلبي أو عكسه في ثلاث جوانب: مستعظم، حاسد أو جاهل، هو الآخر لم يخرج من هذه الدائرة من طبائع الناس، المُتنبّي رجلاً يتّصف بالشّجاعة والكبرياء، إضافةً إلى أنّه كان طموحًا ومحبًّا للمغامرات، له الحق في التفاخر بما يمتلكه من حكمة وفلسفة الحياة، فقد تمرس في معترك الحياة بحسب مجالات عصره، في الفروسية بارتياد الصحاري، بالاستعداد لمجابهة المشقات أو الدفاع عن النفس، في تعلم المبارزة بأدوات القتال بالسيوف والرماح والسهر حيث مصدر إلهامه في كتابة الشعر، يعكس بعض من أبيات شعره جزء من حياته في قوله: الخيل والليل والبيداء تعرفني… والسيف والرمح والقرطاس والقلم. من أشهر أشعاره التي تحولت احدى أبياته من الأقوال المأثورة: يا إِفخَر فَإِنَّ النّاسِ فيكَ ثَلاثَةٌ… مُستَعظِمٌ أَو حاسِدٌ أَو جاهِلُ. وَلَقَد عَلَوتَ فَما تُبالي بَعدَما… عرَفوا أَيَحمَدُ أَم يَذُمُّ القائِلُ. أُثني عَلَيكَ وَلَو تَشاءُ لَقُلتَ لي… قَصَّرتَ فَالإِمساكُ عَنّي نائِلُ. لا تَجسُرُ الفُصَحاءُ تُنشِدُ هَهُنا بَيتاً وَلَكِنّي الهِزَبرُ الباسِلُ. ما نالَ أَهلُ الجاهِلِيَّةِ كُلُّهُم… شعري وَلا سَمِعَت بِسِحرِيَ بابِلُ. َإِذا أَتَتكَ مَذَمَّتي مِن ناقِصٍ…فَهِيَ الشَّهادَةُ لي بِأَنِّيَ كامِلُ. يقول المعري في شرحه لمعنى بيت المتنبي: يا إِفخَر فَإِنَّ النّاسِ فيكَ ثَلاثَةٌ … مُستَعظِمٌ أَو حاسِدٌ أَو جاهِلُ قال: ” إن الناس فيك ثلاثة أقسام: إما مستعظم لقدرك، وإما حاسد لفضلك، وإما جاهل بك لا يعرف حقيقة حالك، إلا أن المرائي لا يعرف تعظيم الآخرين لأنه هو مستعظم بنفسه، أي يضع نفسه في المقدمة أمام الأخرين، بحسب معاجم اللغة العربية، من استعظم تكبَّر، سما بنفسه وافتخر ”لن ينال باستعظامه محبَّة الناس”.. لذا فهو ناقص وقد يكون نمام كما شرح البيت أحمد سعيد البغدادي.

المرائي في قاموس أصل اللغة اليونانية القديمة من الفعل krino) κρινω ) يعني الفصل بمعنى التمييز؛ أن يكون لديك القدرة على رؤية الاختلافات واستخدام تلك القدرة والتعبير عنها كرأي وحكم أو تقييم: للتمييز أو التبيين، سواء بالمعنى الخارجي (لتمييز شيء عن شيء آخر) على أنه داخلي (للتمييز والتعرف أجزاء مختلفة لنفس الشيء)، يؤكد الفعل اليوناني (krino) على الطريقة التي تؤدي إلى تقييم كامل نهائي ومدروس بعناية للشيء الذي تم فحصه بمنهجية فائقة الدقة وبشق الأنفس من قبل شخص على دراية وثيقة بالقيضة المطروحة. إلا أن هذا الفعل في موقف “المرائي” استخدم بكلمة مرادفة تعنى تظاهر- ومن هنا جاءت الكلمة “منافق مرائي”، “الشخص الذي يدعي زوراً أنه يميل إلى الفضيلة والتدين أو أن لديه مشاعر ومعتقدات أعلى مما هو عليه؛ شخص يعطى للنفاق” من هنا يأتي تحذير السيد المسيح يَامُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!: “يا صاح، طالما أنك لست صادقًا مع نفسك، فلن تصل إلى أي هدف”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى