العلمانية والدِّين في القول الفلسفي
العلمانية والدِّين في القول الفلسفي
بحث في جدلية الواقعية والميتافيزيقا
“العلمانية والدِّين نموذجًا”
منار قصاص
عندما حاز ذاك الكائن المنتصب، الإنسان، على تلك الطفرة الدماغية ذات القدرة التجريدية الخلاقة، بدأ رحلته المعرفية، فكوَّن أحكامه عن الوجود والواقع في مفاهيم معرفية هي بمثابة انعكاس نظري ذي طبيعة مفهومية للواقع، ومن ثم ما لبث أن مارس فعالية التجريد ذاتها على انفعالاته وأفعاله ليقيم أحكام وجوب على كل ما يخص علاقته بالوجود مكوِّنًا بذلك مفاهيمه القيمية ذات الطبيعة المعيارية، ومن ثمَّ خطا خطوة كبرى على طريق التجريد ليوحد بين المفاهيم المعرفية والمفاهيم القيمية في منظومة مفهومية إيديولوجية تضم كلا البعدين المعرفي والقيمي وتتجاوزهما معًا في وحدة بنائية معرفية قيمية ووظيفية مركبة، تبرر ما هو معرفي وما هو قيمي في آن واحد وتبرر التفاعل المتبادل فيما بينهما، ومن ثمَّ تتجاوزهما لوضع أهداف سلوكية. إن نزعة الوعي الإنساني في التوحيد بين ما هو معرفي وما هو قيمي لتبرير أهداف سلوكية هو الأسُّ الأبيستمولوجي[1] لنشوء الإيديولوجيات كافة، إذ إن مردَّ كلُّ إيديولوجية – باعتبارها نسقًا رمزيًا ونظامًا مفهوميًا – هو نزعة الوعي الإنساني في الانتقال مما هو معرفي إلى ما هو قيمي والتوحيد بينهما لتحقيق هدف ما أو مصلحة ما أو قيمة ما، ومن هنا يكمن التعارض القائم بين الإيديولوجيات عمومًا والدين والعلمانية خصوصًا في البنية الداخلية لمفهوم الإيديولوجية ذاتها، إذ تنطوي الإيديولوجية والحال كذلك على مستويين من المفاهيم /الواقعية والمعيارية/ التي تعتقد بها جماعة ما، وتعمل هذه المفاهيم على تفسير الواقع “بمفاهيم واقعية”، ومن ثم تبريره وتسويغه وإسقاط غائية ما عليه، وذلك “بمفاهيمها المعيارية” التي تعكِس رؤية تلك الجماعة واهتماماتها ومصالحها الاجتماعية أو الأخلاقية أو الدينية أو السياسية أو الاقتصادية.
إذ تتراوح الأيديولوجيات وفق هذا المنظور، بين إيديولوجيات واقعية وإيديولوجيات ميتافيزيقية، إيديولوجيات تفسر ما هو واقع، وتنطلق من تفسيرها لما هو واقعي إلى ما هو قيمي وغائي. فالعلمانية تُعد من أهم الإيديولوجيات اللاميتافيزيقية، التي تنطلق في تفسير العالم الواقعي من داخل العالم وفق مسلَّمات العلم ونظرياته، ومن ثم إنشاء مفاهيم قيمية تبريرية ذات صبغة غائية تحدد المعنى النهائي لوجود الإنسان وحقيقته. هذه الإيديولوجية الواقعية “أي العلمانية” تشكل منظومة مفهومية صارمة ترتكز على حقائق العلم الكبرى ويقينياته الأساسية على مستوى مفاهيمها الواقعية للوجود والإنسان والحياة، ولكنها تطيح على المستوى الغائي ومفاهيمها المعيارية بأيِّ غائية مفترضة للوجود الإنساني خارج هذا الوجود ذاته، فعملت والحال كذلك على حصر معنى الوجود الإنساني في هذا العالم، وألغت البعد الميتافيزيقي المفارق للإنسان.
إن هذه الإيديولوجية الواقعية المتطرفة العلمانية جاءت أصلاً كردِّ فعل على إيديولوجية ميتافيزيقية متطرفة، تتمثل في الدين المسيحي بنسخته الأرسطية في العهد القروسطي، الذي كان يفسر الواقعَ ويقدم مفاهيم واقعية عن الوجود والإنسان والحياة انطلاقًا من مفاهيم وتحديدات ميتافيزيقية وأسطورية مفارقة للواقع ومناقضة له، فقد جعل الواقع والوجود الإنساني واقعًا وهميًا وشريرًا وناقصًا، في حين أن العالم الآخر الذي هو غاية العالم الواقعي، حيث الكمال والخير والواقعية الحقَّة.
وفق هذا المنظور، تقع العلمانية في الطرف الإيديولوجي النقيض للدين من الوجهة النظرية الفكرية البحتة.
إلا أن الوجود الإنساني غالبًا ما ينفلت من أسر التحديدات النظرية، إنه واقع جدلي ثري وغني، يخلق من التناقضات مفاعيل ورؤى جديدة وفق آلية جدلية تعبِّر عن عمق التجربة الإنسانية عمومًا وغناها اللامحدود.
إذ إن ميكانزم تطور الإيديولوجيات والأفكار عمومًا يخضع لآلية جدلية واحدة تعمل انطلاقًا من مقولات تأسيسية ذاتها، تمثل هذه المقولات شعار كل مرحلة حضارية، وخلاصة التجربة الإنسانية في عصر من العصور، فكانت العقلانية ومصلحة الإنسان – بوصفه إنسانًا – والحرية الفردية ثلاث مقولات تسم العصر الحديث وتحدد مسار تطور الأفكار والإيديولوجيات فيه. وهذه الآلية الجدلية تتمثل في:
– الدينامية الذاتية لكل إيديولوجيا.
– التفاعل مع الواقع الاجتماعي والحضاري، الجديد والمتغير.
– التأثير المتبادل بين الإيديولوجيات.
لقد كرَّس الرجوع إلى العقلانية “الحداثية” كمحددة أساسية للإيديولوجيات ونموها وتموضعها الاجتماعي ضرورة نظرية هي ثمرة دينامية التطور الديني الحاصل في الوعي الجمعي للمجتمعات المدنية، والتي تتجسد في الأهداف القصوى لحركة الإصلاح الديني ومبرراتها وفحواها، إذ تتمثل هذه الضرورة في تفكيك بنية النص الديني والحفر الأركيولوجي في تراثه من خلال توظيف الأدوات النقدية والقراءات المتعددة التي أفرزتها العلوم اللغوية والاجتماعية، وذلك لإيجاد الرؤية العقلانية للوعي الإيماني من خلال إعادة هيكلة مقاصده القصوى بإعادة تأهيل نصوصه وإعادة مركزتها وفق مقولتي مصلحة الإنسان والحرية الفردية بالاعتقاد من دون إحداث قطيعة نهائية مع البعد الروحي للإنسان وإنما أنسنة هذا البعد وفردنته وجعله أكثر مواءمة مع العقل والقيم الحداثية المتمثلة في حقوق الإنسان والقوانين المدنية والديمقراطية السياسية.
فالدينامية الخاصة التي تطور بها الدين المسيحي أثرت بدورها في العلمانية، ففي حين تخلَّصت المسيحية من الدوغمائية الاعتقادية، وذلك استجابة للواقع الحضاري والاجتماعي في العصر الحديث، فأصبحت أكثر انفتاحًا على الأديان الأخرى وأكثر قبولاً للآخر وتخلصت نهائيًا من التفسير الأرسطي اللاعلمي للكون، وبدت أكثر مرونة فيما يخص المستجدات الاجتماعية الهائلة المواكبة للنهضة الصناعية والعلمية التقنية، فأعادت تموضعها فيما يخص دور الكنيسة وصلاحياتها، لتعود ظاهرة التديُّن إلى موقعها الطبيعي.
أقصد هنا البعد الروحي الذاتي للإنسان باعتبار التديُّن موقفًا شخصيًا منبثقًا من مبدأ الحرية الفردية التي نصَّ عليها العقد الاجتماعي في العهد الجديد للمدنية الإنسانية، وينأى تمامًا عن كونه سلطة اجتماعية قاهرة للإرادات الفردية الحرة، وابتعاده النهائي عن تقديم تفسيرات تناقض العقل والعلم لكونه خارج اختصاصه أصلاً على اعتبار أن الدين يهتم ويعالج الجانب الغائي من الوجود، وجود الإنسان، إنه يقدم الجواب عن التساؤل المركزي: ما غاية وجود الإنسان في هذا العالم؟ في حين يختص العلم الوضعي بالتفسير السببي للظواهر والعالم وما ينتج عن هذا التفسير من معارف وتقنيات.
بدورها بدأت الإيديولوجية العلمانية بتقبل الظاهرة الدينية كظاهرة إنسانية لها مشروعيتها انطلاقًا من مقولة الحرية الفردية في الاعتقاد على ألا يشكل الاعتقاد الديني عائقًا أمام قيام مجتمع مدني يتساوى أفراده على اختلاف أديانهم ومشاربهم المذهبية أمام القانون لتكون فيه الدولة المدنية العلمانية ضمانة لكل أفراد المجتمع بممارسة اعتقاداتهم بحرية، وذلك بالفصل الكامل بين الدين والسلطة السياسية.
الإسلام إغلاقية بنية وتعثُّر تاريخي
يتعذر على التنظير السابق فيما يخص ميكانزم تطور الأيديولوجيات والآلية الجدلية السالفة الإحاطة بالظاهرة الإسلامية، فما كتب من سطور لا يكاد يمس الواقع الإسلامي نصًا وتطبيقًا إلا بمقاربات ضئيلة، وسنمعن فيما يأتي في محاولة تشخيص أكثر ظاهرة دينية إثارة للجدل في التاريخ الحديث والمعاصر ألا وهو الإسلام عقيدة وفقهًا وتطبيقًا.
ربما تغدو المحاولة النقدية للظاهرة الإسلامية متعذِّرة من دون المحافظة على ثنائية منهجية تتمثل في ثنائية الذات والموضوع، ثنائية الداخل والخارج، إذ لا بد من الانطلاق في إحداث رؤية أكثر شمولاً من خارج الإسلام لما هو خاص بظاهرة التدين عمومًا والإسلام خصوصًا ومن ثم الإمعان من منظور إسلامي لما هو إسلامي لتشخيص الحالة الإسلامية، ومن بعد ذلك إحداث مواءمة بين ما هو داخل البنية الإسلامية وذاتي فيها وما هو خارج هذه البنية وموضوعي بالنسبة إليها. فبقدر تحقيق هذه المواءمة وهذا التماثل بين المعايير الخاصة في تطور الأديان التي أفرزته ميكانزم تطور الإيديولوجيات والعلوم الإنسانية عمومًا وبين مفاهيم الإسلام ومرتكزاته البنيوية التأسيسية، بقدر هذه المواءمة تتحول الفتوحات الكبرى الفكرية والحضارية التي حققتها حركة الإصلاح الديني إلى واقع في البنية الإسلامية، فالمحاولات النقدية السابقة التي عمدت إلى دراسة الدين الإسلامي بدت غريبة، غربية بامتياز، ومن ثم إن نجحت في فتح ثغرات في بنية ما كانت هذه البنية الإسلام كما يراه الآخر ليست البنية الإسلامية ذاتها بما هي عليه، وبالتالي كُرِّست إغلاقية البنية الإسلامية، وكُرِّست القطيعة الحاصلة بينها وبين التطور والنماء الفكري الحاصل في بنية الوعي الإنساني، ولعل هذا ما يبرر ظهور حالاتٍ تبدو غريبة وشاذة صدمت الإنسانية المعاصرة خصوصًا في ما يجري في الحرب السورية والعراقية من قطع رؤوس ورجم وصلب واستعباد النساء وسبيها. لقد أخرجت البنية الإسلامية للواقع المعاصر ما فيها من معتقدات ومفاهيم لا تعود بشكل من الأشكال إلى هذا العصر، إنها بامتياز خارجة عن الزمان وعن آليته الجدلية في التطور.
وفق هذا المنظور إن ما أنتجته ميكانزم تطور الإيديولوجيات بمقولاتها وآليتها الجدلية فيما يخص الإيديولوجية الدينية يتمثل في ظهور التدين بلبوس إصلاحي ينطلق من العقلانية كأساس نظري ومثال يُخضِع مفاهيمه بشكل دوري لأدواتها المعرفية، فيراعي مصلحة الإنسان الفرد وحريته العقائدية وفق منظومة اعتقادية إيمانية منفتحة على الواقع المتغير ومتفاعلة ديالكتيكيًا مع الأيديولوجيات المناقضة والمختلفة، هو بمثابة محددات موضوعية ذات بعد معياري لمشروعية أي إصلاح ديني إسلامي من داخل الإسلام، إذ لا بد لأي إصلاح من أن يتأسس على عقلانية حداثية تتخذ من مصلحة الإنسان الفرد وحريته مبررات عقلانيتها ذاتها، وذلك وفق منظومة مفهومية منفتحة وقابلة للتفاعل مع المنجزات الإنسانية الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وبذلك يمكن أن نحدد ثلاثة منطلقات منهجية للإصلاح الديني الإسلامي هي بمثابة محددات موضوعية لمشروعية أي إيديولوجية وإمكانية استمرارها ونمائها وتطورها، وهي:
- العقل [العقلانية].
- ـمصلحة الإنسان بما هو إنسان [مصلحة الإنسانية].
- حرية الاعتقاد [الحرية الفردية].
إن الفصل بين تلك المحددات هو فصل نظري إذ يتعذر واقعيًا التمييز فيما بينها، فالفكرة العقلانية هي فكرة مطابقة للواقع، وما هو مطابق للواقع الإنساني لا بد من أن يحقق القبول الإنساني ومصلحة الإنسان، وما يحقق مصلحة الإنسان يتأسس على الحرية، الحرية المسؤولة.
إذ ينطوي مشروع الإصلاح الديني بنيويًا على مقولة العقلانية، فالعقلانية تعني مطابقة الحكم للواقع، فالعقل حين يمارس فعالية التجريد يكِّون معرفته عن الواقع ويصوغها بأحكام سواء أحكام وجود “مفاهيم معرفية” أو أحكام وجوب “مفاهيم قيمية” تخص الإنسان والسلوك الإنساني، ولا تكون تلك المعرفة موضوعية أي عقلانية إلا في حال مطابقة الحكم للواقع، ففي حال أحكام الوجود تتحقق المطابقة بين الحكم والواقع بالبرهنة التجريبية أو الرياضية أو النظرية عمومًا، وفي حين تكون المعرفة عقلانية على مستوى أحكام الوجوب المفاهيم القيمية عندما يتحقق القبول الإنساني الذي يتأسس على مقولة المصلحة بمعناها الأوسع مصلحة النوع الإنساني، إذ لا تخلو أي إيديولوجية سياسية أو أخلاقية أو دينية من غائية مرتكزة على مقولة المصلحة، فعندما يفقد الحكم مشروعيته بفقدان القبول الإنساني له، وذلك لعدم تحقيقه مصلحة إنسانية في تطبيقه، بعد أن كان في مرحلة ما مجسدًا لهذه المصلحة ذاتها تستدعي العقلانية في هذه الحالة تغيير الحكم بتغيِّر إحداثيات الوقائع الإنسانية، لضمان استمرار تحقيق هذه المصلحة والصالح العام، ومن هنا كان نبيُّ الإسلام محمد “ص” يغير أحكامه بتغيِّر الزمان والمكان لما يوافق الخير العام، سواء قرآنيًا بمبدأ الناسخ والمنسوخ في النص القرآني أو في أقواله ومواقفه حيال المتغيرات الطارئة، وبذلك يُعدُّ محمد “ص” الإصلاحي الأول في الدين الإسلامي.
لقد اقتضت العقلانية محمديًا – كما تدَّعي لنفسها – الإيمان كضرورة لتحقيق العدل النهائي وخير الإنسانية جمعاء من خلال فكرة العدل والقسط وإحقاق الحق في الدنيا وفكرة الخلاص والنعيم الأبدي في الآخرة، مؤنبًا الكثير ممن لم يؤمنوا بعد بآيات من مثيل “أفلا تعقلون” وهذا الإيمان بدوره مقترن بنيويًا بفكرة حرية الاعتقاد[2] على الرغم من التشويه الذي لحق بهذه الحرية في سلوكيات المسلمين على مستوى الحياة الاجتماعية والسياسية.
ومن هنا تكمن الرهانات الكبرى للإصلاح الديني الإسلامي في تحقيق تلك المنطلقات – العقلانية والمصلحة بمفهومها الأوسع والحرية – بإعادة تأهيل النصوص وفق منظومة اعتقادية منفتحة ومتفاعلة ديالكتيكيًا مع مكتسبات الحضارة المعاصرة.
[1] الأس الأبيستمولوجي: هو مبدأ جذري فلسفي نظري يُعد الأساس المعرفي الأولي لنشوء فكرة ما.
[2] تتأسَّس حرية الاعتقاد نصيًا على الآية القرآنية /لا إكراه في الدِّين قد تبين الرشد من الغيِّ/ التي تمتلك كل مقومات الآية المحكمة على الرغم من اختلاف الفقهاء في فهمها وتأويلها من حيث اعتبارها محكمة أو منسوخة بوجود آيات أخرى وأحاديث نبوية تتناقض معها في المعنى من قبيل آيات القتال، كما في سورة التوبة على سبيل المثال لا الحصر، الآية 29 /قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر/ وحديث قتل المرتد، ولعل من الأهمية بمكان في أي إصلاح ديني أن يُزال اللغط نهائيًا فيما يخص عدم الإكراه في الدين، وذلك بالاشتغال على المقاصد القصوى للدين ومبدأ الناسخ والمنسوخ.
(منقول).