الرأي

الطامعون في جيوبنا الفارغة

قبل ثلاثين عاماً درسنا في الجامعة (القاعدة المالية الذهبية لعلم القانون التجاري) في باب الضريبة، والتي تقول: “كلما ارتفعت قيمة الضريبة وكانت باهظة، كلما ارتفعت مستويات التهرُّب الضريبي”، وفي صياغةٍ عكسية لذات القاعدة: “كلما كانت الضريبة منخفضة، كلما قل التهرُّب الضريبي”. وبذلك يكون من الواضح حتى لغير المُتخصِّصين أن ارتفاع الضرائب والمبالغة في قيمتها يؤدي إلى (انكماش) الوعاء الضريبي، ونتيجةً لذلك (تنخفض) الإيرادات التي تستهدفها وزارة المالية، والعكس صحيح. فكلما انخفضت قيمة الضريبة وتيَّسرت إجراءات سدادها كلما (اتسع) الوعاء الضريبي وفاقت الإيرادات ما كانت تستهدفهُ الدولة.
أما جبريل إبراهيم المغلوب على أمرهِ، ومن باب “مُجبرٌ أخاك لا بطل”، فهو يرى أنه لا حل ولا فُرصة للخروج من ورطة (انهيار) منظومة الإنتاج العام في البلاد، إلا بالمزيد من (الاتكال) على رفع مستويات الضرائب المتعدِّدة والجبايات (المُبتكرة والمُبتدعة)، حتى تتوفَّر أقل الإمكانيات المالية لتتمكَّن الدولة الانقلابية من إدارة حركة التسيير اليومي للبلاد، أي (حق اليوم باليوم). فحتى الفصل الأول الذي يمثِّل مُرتَّبات الخدمة المدنية أصبح معضلة تواجه الميزانية نهاية كل شهر، وعلى ما يبدو فإن إحصائيات العجز الشهري التي توضع أمام مكتب سعادة الوزير (المُحتار) لا حل لها ولا علاج عندهُ سوى المزيد من قرارات رفع الضريبة المباشرة أو غير المباشرة، أو حتى باللجوء إلى رفع قيمة الدولار الجمركي كما حدث قبل أسبوعين.
ومن باب (حُسن الظن) لا نتوقع أن السيد الوزير يفوتُ عليه أن رفع الضرائب على التجار والمستوردين هو في الحقيقة (تحميل مباشر) لأعباء الدولة والتزاماتها على كاهل المواطن المغلوب على أمره، مما سيؤدي في نهاية الأمر إلى مثول كارثة (الكساد العظيم) الذي بدأت مؤشراته تظهر بصورةٍ واضحة في ضعف القوة الشرائية التي تشتكي منها كل الأسواق، بما فيها سوق الضروريات الذي يشمل الأغذية والدواء والتعليم. لكن يبقى السؤال المطروح إن سلَّمنا باستحالة عدم إلمام جبريل إبراهيم بالتداعيات الكارثية لمبدأ رفع إيرادات الدولة عن طريق رفع قيمة الجمارك والضرائب وباقي الجبايات الرسمية: لماذا يفعل ذلك؟! هل كما يقول البعض إنه يسعى بالفعل شأنه شأن بقية الانقلابيين لكسب الوقت حتى فناء الدولة السودانية وتشريد شعبها، بعد أن يؤمِّن موقفه المالي ومعهُ بقية الحركات المسلحة الموقِّعة على سلام جوبا (مُتستِّرين) تحت بند (سداد مُستحقات سلام جوبا)؟! أم أن الأمر مُجرَّد تصرفات تصدر من (مُضطر) لا يرى حلولاً في الأفق القريب، مثلهُ مثل الغريق الذي يتمسَّك بقشة في محاولة للتشبُث بالبقاء؟!
قلناها أكثر من مرة: لا مجال لأي حركة ولو ضئيلة في مجال تطوير واستتباب أمر دوران عجلة الإنتاج الوطني، وتنمية حركة إيرادات الدولة والناتج الإجمالي العام، دون توفُّر علاقات دولية ممتازة وداعمة عبر مصالح مشتركة وعادلة، فضلاً عن حرية وديموقراطية تعمل عبر الشفافية وحرية الرأي والتعبير على مُطاردة غول الفساد الإداري والمالي والقانوني في مؤسسات الدولة المختلفة وفي مقدمتها الخدمة المدنية. التنمية والنمو الاقتصادي ليست شعارات ولا هُتافات فارغة كما يعتقد الفلول وأذيالهم، فشعار (الاعتماد على الذات والموارد المحلية دون مُساندة تكنولوجية وخبروية وتمويلية عالمية) ليست له نتائج سوى ما نشهدهُ الآن من (خبل) تخطيطي، كانت محصلتهُ النهائية تبديل جبريل لمبدأ (الاعتماد على الموارد الذاتية) إلى مؤامرة (الاعتماد على جيب المواطن) حتى يفنى، وحتى تُغلق الأسواق كما حدث أمس القريب في تمبول وسنار وعطبرة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى