تقارير

السودان: هل ستنجح التجربة السودانية للعدالة الانتقالية؟

تقرير- القسم السياسي
“يا قاضي الأرض عدالة، عدالة لكل الناس”، هكذا كان يهتف الثوار السودانيون في احتجاجاتهم المناهضة للانقلاب. ولعل مصطلح (عدالة)، واحد من أبرز شعارات الثورة السودانية التي ظلت تبحث عن رد الاعتبار ومعالجات لما ورثته البلاد من انتهاكات ومعاناة جسيمة لحقوق الإنسان، منذ انقلاب النظام البائد في العام 1989، وحتى انقلاب الجيش في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي.
يعتبر مصطلح (العدالة الانتقالية) من المصطلحات الحديثة في السودان التي وجدت استحقاقاً دستورياً من خلال الوثيقة الدستورية قبل الانقلاب، وعدلت بناءً على اتفاق سلام جوبا. كما أنه مصطلح يشير إلى كيفية استجابة المجتمعات لإرث الانتهاكات الجسيمة والصارخة لحقوق الإنسان، وتطرح بعضًا من أشد الأسئلة صعوبة: (هل هي في القانون، أم السياسة، أم العلوم الاجتماعيّة؟)، وتمهدُ لحسم عدد لا يُحصَى من الجدالات.
بعد أربعة أعوام مرت على الثورة السودانية، ما زالت لجان المقاومة تقاوم الاستبداد حتى اللحظة، وهي تقود حركة الاحتجاجات الرافضة للانقلاب الحالي في مشوار استعادة الانتقال لتحقيق شعارات ثورتهم المتمثلة في (الحرية، السلام، العدالة) التي ينظرون إليها من زوايا متعددة.
ينظر عضو لجان مقاومة ولاية الخرطوم، فضيل عمر، إلى أن تحقيق العدالة يتطلب مناصرة وتضافر أكبر عدد من المطالبين بها. قال لـ (الديمقراطي) إن معظم قضايا الشهداء بحاجة إلى بلاغات تحت (المادة 186) حتى تصبح المحاسبة شاملة. وربط حديثه بأن تحقيقها يتطلب بالضرورة إصلاح الجهاز القضائي والعدلي والأمني، إلى جانب استقلال القضاء، حتى يكون هنالك إنصاف للضحايا وتعويضهم مادياً ورمزياً عبر تخليد ذكرى المآسي التي حدثت لهم والاعتراف بها، مع ضمان عدم تكرارها.
“هي المدخل الأول لبناء الدولة، عندما تعترف مؤسساتها الموجودة بارتكابها للجرائم، ومن ثم الانتقال إلى مرحلة كشف الحقائق، وتعويض الضحايا”. هكذا يرى محمد طاهر، عضو لجان مقاومة أمبدة السبيل. ويقول لـ (الديمقراطي): “حتى تصبح العدالة الانتقالية مدخلاً للانتقال، يجب أن يكون هنالك اعتراف من الدولة بالانتهاكات المرتكبة في حق الضحايا أو التعامل معها، ما بين متهمين وضحايا يريدون الوصول إلى تسوية، وليس باتفاق يصبح مجرد تقسيم للسلطة”.
يقول القانوني، طارق كانديك، إن مسألة العدالة الانتقالية شابها الكثير من اللغط، خصوصاً لغير المدركين لماهيتها، ويعتقدون أنها تعني التخلي عن دماء الشهداء، موضحاً أن هذا خطأ كبيراً، فمن بين الحزم الإجرائية ينبغي أن تحتوي على رد الحقوق في المحاكمات العادلة والمحاكمات الجنائية، وكل من ثبتت عليه تهمة ارتكاب أي جريمة، ينال عقابه المباشر المنصوص عليه في القانون الجنائي، وعدم التنازل عن محاكمته، دون وجود محاولات -أياً كان شكلها- الإفلات من العقاب.

قادة الانقلاب-البرهان/ حميدتي

يضيف كانديك في حديثه لـ (الديمقراطي)، أن بعض الناس يعتقدون، مخطئين، أن العدالة الانتقالية هي المساومة على إفلات الرؤوس الكبيرة من العقاب، مشيراً إلى أن هذا ليس صحيحاً، وأوضح قائلاً: “العدالة الانتقالية مفهوم كبير ودولي معلوم، هنالك العديد من التجارب في بلدان العالم. لذلك إذا رفضناه تحت دعاوى الذين لا يفهمون مراميها، ولا يعلمون أنها تحتوي على كافة أشكال ملاحقة المنتهكين، واكتفينا بمنطقهم لإنفاذ العدالة الجنائية المباشرة، فسيكون هنالك تأثير واسع لكافة الجرائم الكبرى، من حيث التأثير النفسي والاقتصادي، والعديد من الإشكالات تطلب إنفاذ إجراءات أخرى خلاف العدالة التقليدية، من أجل إعادة بناء المجتمعات بشكل جديد، وهذا لا يتم إلا بالعدالة الانتقالية”.
يقول الصادق علي لـ (الديمقراطي)، إن فكرة العدالة تهدف لتحقيق نموذج يتماشى مع تحقيق العدالة بتكامل الأدوار مع أجهزة الدولة القضائية وليست بديلاً عنها، وإن العدالة الانتقالية ترتكز على الدور الرسمي في التأسيس لتحقيق العدالة الانتقالية بموافقة كافة الأطراف، والاتفاق سواء أكان مكتوباً أو غير مكتوب.

المخلوع البشير-مطلوب للجنائية

ويرى الصادق أن في واقع الحال اليوم، لا توجد بينة لتحقيق العدالة الانتقالية. فالثقة تكاد تكون معدومة بين الأطراف، كما أن المتأثرين ليسوا أطرافاً في الورش التي نظمتها الوساطة الدولية بالشراكة مع قوى الحرية والتغيير. وتساءل: “من الذي سيمثل أصحاب المصلحة الحقيقية في القبول بمخرجات هذه الورش الفوقية التي لا علاقة لها بالغاية المرتجاة؟”.

هنالك العديد من تجارب العدالة الانتقالية في بعض البلدان، أبرزها تجربة جنوب أفريقيا، والتجربة المغربية التي تعد من أوائل التجارب في الدول العربية، إلى جانب التجربة التونسية التي يمكن أن تكون من أحدث التجارب في العدالة الانتقالية. هنالك العديد من التجارب الناجحة في العالم، ولعل السودان أصبح بحاجة إلى معالجة لإرث تلك الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، سواء التي وقعت في ظل النظام المقبور، أو التي تلت سقوطه، بما فيها تلك التي وقعت خلال انقلاب 25 أكتوبر، ولا يتم ذلك إلا من خلال العدالة الانتقالية التي أصبحت مرتبطة بمسار استعادة الانتقال الديمقراطي واستقراره.
وفي إطار المرحلة النهائية للعملية السياسية الجارية حالياً، من المتوقع انعقاد ورشة العدالة خلال الأيام المقبلة من أجل التوصل إلى إنفاذ شامل للعدالة والعدالة الانتقالية للكشف عن الجرائم ومحاسبة المُنتهِكين، إلى جانب إنصاف الضحايا وتبرئة الجراح، بما يضمن عدم الإفلات من العقاب وعدم تكرار الجرائم مرةً أخرى وتسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية. وكانت قضية العدالة من بين أربع قضايا تم إرجاء مناقشتها عقب الاتفاق الذي كان قد وقع في ديسمبر العام الماضي بين المدنيين وقادة الانقلاب، بهدف حل الأزمة السياسية التي خلفها انقلاب 25 أكتوبر. ويبقى السؤال: هل ستنجح التجربة السودانية للعدالة الانتقالية؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى