السلطة الحديثة وإعادة تشكيل التقاليد الدينية -حوار طلال الاسد وصبا محمود
ترجمة الفاتح مبارك عثمان [email protected]
الحركات الدينية – السياسية المعاصرة، مثل الحركات الاسلامية، غالبا ما تفهم من قبل علماء الاجتماع علي أنها تعبيرات لتقليد يعيق تقدم الحداثة. لكن، هل تفتكر، وبمعطى التحديات الفكرية المطروحة اليوم ضد تصورات الحداثة/التقليد، الثنائية والساكنة، والنداءات الداعية الى تبعيض وأقلمة التجارب الغربية الاوربية للحداثة <إعتبارها تجارب ظرفية مشروطة بظروف مكانية وزمانية معينة >* أن مثل هذه الحركات الدينية – السياسية، كالحركة الاسلامية، ستجبرنا علي اعادة تفكير تصوراتنا حول الحداثة؟ ولو فعلت فعلي علي نحو ؟
– أفتكر أنها تنبغي إجبارنا علي إعادة تفكير اشياء كثيرة. هناك ثمة استجابة بقدر معين وسط بعض المهتمين بتحليل هذه الحركات في الجامعات الغربية. غير أن العديد منهم ما زال يصدر عن فرضيات تمنعهم من مساءلة الحداثة الغربية في وجوهها. فهم، علي سبيل المثال، يسمون هذه الحركات “رجعية” او “مخترعة”؛ مفترضين بالتالي أن الحداثة الغربية ليست فحسب المعيار الذي وفقا اليه يجب تحكيم كافة التطورات المعاصرة، بل هي كذلك، المسار الوحيد الاصيل authentic <غير الملفق، الحقيقي، الصحيح > لكل تقليد. التعارض القديم، الرائج ما يزال، بين الحداثة والتقليد هو من بين الاشياء التي ينبغي لوجود مثل هذه الحركات استدعائها الى المسائلة. علي سبيل المثال ، كتاب عديدون يصفون الحركات <الإسلامية> في مصر وايران بأنها حركات حديثة جزئيا فقط، ذاهبين الي أن مزجها التقليد والحداثة هو علة شخصيتها المريضه. هذا النوع من التوصيف يرسم الحركات الاسلامية كحركات تقليدية تفتقر الى الاصالة او الصدقية <كونها حركات مصطنعة او ملفقة> علي افتراض أن “التقليد الحق” هو <تعريفا > لامتغير، متكرر، ولاعقلاني. بهذه الطريقة هذه الحركات فهمها لن يتسني ضمن إصطلاحاتها الخاصة بها – كونها، في نفس الوقت، حديثة وتقليدية، في نفس الوقت، اصيلةً وخلاقةً معا. هذا النمو للحركات السياسية – الدينية ينبغي له حملنا علي إعادة تفكير النموذج الغربي المتفرد للحداثة العلمانية. ولعله من الافضل، إذا ما أردنا مواجهة هذه الحركات، أن نفعل ذلك انطلاقا من إرضيات معينة. اذ لا طائل من تقييس اي شئ تبعا لتصورات كبري لحداثة أصيلة . غير ان هذا هو، بالظبط، نوع التفكير القبلي <الأبرايوري> الذي ما يفتأ ينغمس فيه أناس عديدون ساعة تحليل الحركات الدينية المعاصرة.
فيما يبدو أنك تستخدم مصطلح التقليد علي نحو مغاير لفهمه الساري في الانسانيات والعلوم الاجتماعية. فحتي فكرة “هجنة “المجتمعات/الثقافات” والتي اكتسبت نفوذا في دوائر فكرية معينة، توحي بتعايش عناصر الحداثة والتقليد، دون أن تخلخل بالضرورة مركزية المعني المعياري <القيمي> لهذه المفاهيم.
– نعم، يذهب العديد من الكتاب، بالفعل، الى وصف مجتمعات معينة بأنها هجينة، جزء منها حديث والجزء الاخر تقليدي. مع ذلك لا أتفق معهم. حين نتكلم عن التقليد، نحن بحوجة، في نظري، الي ملاحظة أن الكلام عنه إنما ينبغي أن يكون بإعتباره بعدا من ابعاد الحياة الاجتماعية وليس مرحلة من مراحل التطور. التقليد والحداثة، وهذا هو الاعتبار الاهم، ليس حالتين اقصائيتن، بل هما، في الحقيقة، جانبان مختلفان للتاريخية. فالعديد من الاشياء المتصور أنها حديثة، إنما تنتمي الى تقاليد جذورها ضاربة في التاريخ الغربي. فالتقليد المتغير، رغم أنه غالبا يتطور بسرعة، يظل، مع ذلك، تقليدا. وحين يتحدث الناس عن الليبرالية بوصفها تقليدا، فهم إنما يرون فيها تقليدا ينطوي علي إمكانيات للمدافعة <للمحاججة، للمجادلة >، لاعادة الصياغة، وللمواجهة مع التقاليد الاخرى – اي بوصفها إمكانية لتناول القضايا المعاصرة من خلال التقليد الليبرالى. عليه، يمكن التفكير في الليبرالية بوصفها تقليدا مركزيا للحداثة. لكن كيف يتسني، اذن، لنا الجمع بين شئ هو تقليد، بقدر ما هو، في نفس الوقت، مركزي للحداثة ؟ إن الليبرالية، كما هو واضح، ليست خليطا من التقليدي والحداثي. إنما هي تقليد يعرَّف جانبا مركزيا للحداثة الغربية. والليبرالية ليست اقل حداثة عن ائ شئ اخر حديث بفضل كونها تقليداً.بل لعلها، رغم ما لها من نقاد داخل الغرب وخارجه معاً، هي التقليد المسيطر للفكر والممارسة السياسية والاخلاقية. مع ذلك، معظم علماء الاجتماع لا يتكلمون بهذه الطريقة عن ما يسمي، عموما، بالمجتمعات/الثقافات “التقليدية”، اوالإسلامية علي وجة الخصوص. هذا ما أعنيه ، جزئيا، حين اقول إن علينا اعادة تفكير مفهوم التقليد. بهذا المعني، يمكننا، في نظري، النظر الى الاحياء الاسلامي المعاصر باعتباره ينطوي علي محاولات لتنضديد <لتمفصل > التقاليد الاسلامية الملائمة للظروف الحديثة كما تعاش في العالم الاسلامي. وباعتباره، كذلك، ينطوي علي محاولات لصياغة المواجهات مع الغرب والتاريخ الاسلامي. لا يعني هذا أنهم < المسلمون> قد نجحوا وإنما يعني، علي الاقل ، أنهم يحاولون بطرق مختلفة.
في مناقشتك للتجارب التاريخية المختلفة للحداثة، هل تريد الاقتراح بأن هناك ايضا أنواعا متباينة للحداثات. ثمة مركزية معينة لمشروع الحداثة اضطلع بوصفها وتحليلها باحثون علي شاكلة فوكو. كيف لنا اذن، مصالحة النموذج الاوربي للحداثة، كما طرحه منظرو التحديث ونقاده علي حد سواء، مع التجارب التاريخية والثقافية المختلفة للحداثة.
– في المقام الاول، وبمعطى تموضعنا داخل المجتمع الغربي المعاصر، وبمعطى كوننا نعيش عالما يهمن فيه “الغرب”، فأن مصطلح الحداثة يمتلك سلفا قيمة ايجابية معينة. عدد من خصوم الحداثة (علي سبيل المثال، من يطلق عليهم ما بعد – الحداثين) لديهم، الى حد ما، استراتجية دفاعية ازاء ما يمثل في نظرهم قيماً مركزية للحداثة. قليل من النقاد ما بعد – الحداثيين سيكونوا رغبين في المجادلة ضد المساواة الاجتماعية، حرية الكلام، او الموضنة الذاتية للفرد <صياغة الذات وفقا لانماط فكرية وجسدية جديدة >. بل إن مابعد الحداثة تتضمن، في حقيقة الامر، “الحداثة” بوصفها مرحلة في مسار مميز. ربما كان من الافضل في بعض الحالات القول، تكتيكا، بوجود اشكال متعددة للحداثة، بدلا عن مقابلة الحداثة ذاتها مع شئ اخر ضدها . بعبارة اخرى، إن المساواة بين تاريخ غربي خاص (خاص، جزئي او متبعض بحكم التعريف) مع شئ يدعي، في نفس الوقت، أنه كلي كوني <ينوفيرسال: نظام للمبادي والمعتقدات والقيم الشاملة للجميع والقابلة للتطبيق علي الكل >؛ وأنه غدا متعولما، لهو أمر في تصوري لم يتم تفكيره بصورة جيدة وكافية. ثمة ثقل ايدلوجي يمنح للحداثة بوصفها نموذجا كليا – شاملا حتي عندما تكون مجرد شكل خاص من أشكال الغربنة.
في مستوي من المستويات هناك مشكلة، في نظري، تتعلق بمفهمة الحداثة باعتبارها مصطلحا يشير الى طاقم كلي من الميولات، المواقف، التقاليد، الأبنية والممارسات المتنوعة والمتباينة – بعضها ربما كان مترابطا او متعالق عضويا، وبعضها غير ذلك. الحداثة يفكرها الناس، تارة بوصفها نوعا معينا من البنية الاجتماعية (التصنيع، العلمنة، الديمقراطية، الخ)، وتارة بوصفها تجربة سايكولجية ( مثلا، سيمل في ” الحياة المتربولية والحديثة”)، او بوصفها وضعية جمالية ( مثلا، بودلير في ” رسام الحياة الحديثة”). احيانا، الحداثة يفكر فيها كنوع معين من المشاريع الفلسفية ( بالمعني الهبرماسي)، واحيانا بوصفها اخلاق كلية – شاملة مابعد كانطية. هل كل هذه الاشياء بالضرورة متعالقة بعضها البعض ؟ هناك افترض مضمر أنها كذلك – فلئن جوانبا معينة من “الحداثة” ( علم “حديث”، سياسة، اخلاق، الخ) حدث لها وأن تماشت مع بعضها تاريخيا في بعض اجزاء اوربا، فانه ينبغي بل يجب علي كل هذه الاشياء أن تتماشي بدورها في بقية أنحاء العالم. ثمة نوعا عجيبا من الوظيفية منخرط في العمل هنا داخل هذه الفرضية. وفي حين اصبح علماء الاجتماع، في سياقات اخرى، مرتابين من الوظيفية، فان موقفهم، في هذه الحالة، لا يبدو كذلك.
جزء من المشكلة يكمن في تحديد ما ازاء كانت “الحداثة” هي تقليد فردي ، بنية فردية او طاقم متكامل من المعارف العملية. واذا كانت الاشياء قد تتماشى مع بعضها فهل يعني هذا أن لدينا وازع اخلاقي او <نزعة> تواقف براغماتي. بكلمات اخرى: اي مقايسس نستعملها حينما نطلق علي شخص، او طريقة للحياة او مجتمع ما بأنه “حديث”. من اين تنحدر هذه المقاييس. هل هي ببساطة مقايسس وصفية ام هي مقاييس معاييرية <قيمية> ؟ واذا كانت وصفية فهل تنحدر من جوهر لامتغير ؟ واذا كانت معيارية فعلي اي سلطة تعتمد. مثل هذه الاسئلة تتطلب إستنفاد الاجابات عليها، قبل أن نقرر، علي نحو له معنى، ما إذا كانت هنالك أنواع متعددة من الحداثة. واذا كانت هنالك حداثة واحدة، هل هذه الحداثة منفصلة عن الغربنة ام لا. حتي الان لم اصادف اجابة مقنعة لهذا السؤال، لا من قبل علماء المجمتع او من الفلاسفة.
عندما يتحدث فوكو، الان، عن الحداثة، فإنه يتحدث بشكل محدد تماما عن تطور في التاريخ الغربي. فهو لم يكن مهتما حقيقة، بتاريخ الشعوب اللاغربية او في إلتقاء الغرب بذلك العالم المتنوع والمتابين. لم يكن مهتما بالتقاليد <اللاغربية> المغايرة. تشديده تركز، كما تعملين، علي القطائع <الانقطاعات> اكثر منه علي الاستمراريات. من الممكن طبعا تفكير هذه الانقطاعات بوصفها تحدث ضمن إستمراريات نوعية محددة. فوكو، الى حد ما استوعب ذلك. بخلاف ذلك، ما كان سيدفع بمبحثه في الحداثة ليشمل حتي المعتقدات والممارسات المسيحية والاغريقية المبكرة. فقد قاده هذا التحري الى تصور حول التقليد الغربي، بكل انفصاماته وقطائعه، علي الرغم من انه لم يفكر، منهجيا، التقليد بوصفه تقليدا.
في كتابك “جنولوجيات الدين” ذهبت الى أن الحداثة هي، تعريفا، مشروع غائي ( تلولوجي) لجهة رغبته في اعادة صناعة التاريخ، الامة، والمستقبل. قلتم إن “الافعال الساعية الى تثبيت الوضع القائم محليا هي بالنتيجة افعال تقاوم المستقبل”[1]. هل لك ان تتحدث عن ماذا ترمي اليه بهذاا ؟
– عنيت ذلك تهكما بالطبع. ما رميت اليه هو أن تلك الافعال التي تكتفي بتثبيت الوضع القائم (المحافظة علي الحياة اليومية وتأمينها) لا تعتبر افعالا صانعة للتاريخ مهما طال امد هذه الجهود. والحركات التي يمكن وسمها “رجعية” هي، تعريفا، حركات تسعي الى “مقاومة المستقبل” او “إرجاع عقارب الساعة الى الوراء”. النقطة الاساسية هي أن المنافحين والمدافعين عن الحداثة يلتزمون صراحة بنوع معين من التاريخية، بحركة زمن للحياة الاجتماعية “المستقبل” فيها يشدنا الى الامام. الفكرة هي أن المستقبل، الى حد ما ، يمثل شيئا يمكن توقعه، بل يبنغي التوق اليه، وأن وجهة هذا المستقبل المرغوب، هي، علي الاقل، وجهة معلومة. المستقبل صار نوعا من المغانطيس الاخلاقي في مكان ما هناك يشدنا الى نفسه. فمن جهة، البشر ينظر اليهم باعتبارهم لديهم الحرية لتشكيل قدرهم (الجماعي). من الجهة الاخرى، “التاريخ” له ذروته الخاصة باعتباره حركة مستقلة، والذين ينطلقون في افعالهم من من فرضيات مختلفة ينظر لهم إما علي أنهم يستحقون اللوم الاخلاقي او عمليا مهزومين ذاتيا، او معا. مفهوم صناعة التاريخ ينتمي الى هذه الفكرة الكبيرة والمتناقضة. وكل المجمتمعات – بما في ذلك المجتمعات الغربية – تحاكم تبعا لهذه الفقرات التي قمتي باقتباسها. كنت قد اشرت بإقتضاب الى تلك الاحالات الانتقاصية والمتكررة حول ما حدث ويحدث في ايران، حول عبادة الكارقو <Cargo Cult: وصف لتلك الطوائف التي يتمحور نشاطها الديني عادة حول الاعتقاد بان هناك وسائط روحية تعمل في الخفاء علي تامين اعضاء الطائفة الغالي والنفيس من الثروات او البضائع – كارقو > الخ.. لم اكن اقصد بهذا المطالبة كف النقد، او حتي شجب ما حدث ويحدث في ايران علي سبيل المثال. ما قصدته هو أن الناس حين يفعلون ذلك فإنهم إنما يوظفون فكرة خاصة وغريبة عن ” التاريخ” و ” صناعة التاريخ”.
اول ما يتبادر الى الذهن عند مناقشة العلاقة بين التجارب الغربية واللاغربية للحداثة هو بروز تقليدان مختلفان للمجادلة: مدرسة نظرية التبعية في 1970، ومؤخراً، نظرية ما بعدالكولونيالية، والتي يتبواء فيها مشروع دراسات المقصيين <او الدونيون Subaltern Studies> من جنوب اسيا مكانة هامة. فبينما كان،علي ما يبدو، منظرو (مدرسة) التبعية <من امثال اندرية غندر فرانك Andre Gunder Frank، سمير امين، جيوفاني اريغي Giovanni Arrighi ، ايمانويل وليرستين Immanuel Wallerstein، واخرون> قد شددوا علي كيف قامت الحداثة الغربية بالتاثير علي، واعتقال تنمية المجتمعات غير الغربية، يركز منظرو مابعد الكولونيالية ( من امثال جاترجي <Partha Chatterjee>، براكاش <Gyan Prakash>،جاكرابارتي <Dipesh Chakrabarty>) علي الخصوصية الثقافية والتاريحية لتجارب الحداثة غير الغربية. جاترجي مثلا يشير الى أن تفضيل التجربة الاوربية الغربية غالبا ما يسفر عنه اغلاق لتصورات عن الدولة والجماعي هي جزء لا يتجزاء من المجتمعات غير الغربية. لكنها، مع ذلك، تظل لا تحظي بالتنظير في التحليلات الراديكالية والليبرالية للحداثة علي حد سواء . كيف تري للعلاقة بين هذين التقليدين الفكريين و مضاعفاتها علي فهم التجارب الخاصة، ثقافياً وتاريخياً، للحداثة.
– بالطبع، الغرب، ولحد كبير، هو علي ماهو عليه الان نتيجة لعلاقته مع اللاغرب، والعكس بالعكس. وإذا كنا بالحداثة نعني ما يميز البلدان الاوربية من اقتصاديات وسياسة ومعارف فان قدرا كبيرا من هذا لن يتسني فهمه دون الاحالة الى صلات اوربا مع العالم اللاوربي. هذه النقطة سبق وأن اثارها علي طريقتهم ما يعرف بمنظري التبعية المعنيين بالتنمية في العالم الثالث. لكنها نقطة يجب عدم المبالغة فيها. اقصد أن هناك تجارب معينة لا علاقة لها بعلاقة الغرب/اللاغرب. فمصطلح “اللاغرب”، في نهاية الامر، هو ببساطة مصطلح سلبي. ومن المهم أن لا تغيب عن بالنا هذه العلاقة، لكنها في حد ذاتها لا تخبرنا سوي النزر اليسير جدا عن كل ما تغطيه من أشياء. فهناك من التجارب ما يرتبط بانواع اخرى من العلاقات مثل العلاقة بين شعب معين و ماضي متميز.
اري أن الطرح المعني بقدرة او عدم قدرة مجتمعات معينة علي النمو الاقتصادي، والذي باشره منظرو مدرسة التبعية، قد قام علي نماذج اقتصادية معينة لها مؤشرات محددة جعلت واضحا ما هو الهدف الذي يفترض فيه ان يكون. عليه، فقد ذهب كثيرون، ممن عارضوا منظري التحديث، إلى أن التنمية الاقتصادية ليست ممكنه في المجمتعات المحيطة بمعطى روابطها بمركز البلدان الراسمالية. الناس المنتمين إلى تقليد التبعية يميلون الى مناقشة جدوي ما إذا كان من الاسلم فك هذه الروابط ، تجاوز المرحلة الراسمالية، والتقدم مباشرة الى التنمية الاشتراكية؛ او إقامة تحالف استراتيجي مع الراسماليين الوطنيين باعتبارهم، بالضرورة، في صف التنمية الاقتصادية الشاملة. (وهذا بالطبع تكرار لخلاف البلاشفة/المناشفة). غير أن الطرح لم يكن، علي اي حال، حول الى “اين” ستنتهي هذه البلدان. لان الافتراض العام هو تعدد الطرق المؤدية الي روما. لكن، لم تكن هناك طبعا سوي روما واحدة. فمتي دلفنا إلى القضايا الاخلاقية والثقافية حتي تصبح المحافظة علي هذا الافتراض أكثر صعوبة.
واذا كان الحوار السياسي حول الدول الديمقراطية – الليبرالية في الغرب قد بات يدور، قليلا او كثيرا وكامر مسلم به، حول الاشياء كما هي عليه الان، فان النقاش حول العالم الثالث غالبا ما يدور حول إلى اين يجب أن تتجه السياسة والاخلاق هناك. بل وحتي حين يتم الاعتراف بوجود كافة انماط التغيير الكفيلة بتحسين الاوضاع (فقر المدن، العنصرية) في المجتمعات الغربية، فإنه من العادة الافتراض بأن النظام الليبرالي الديمقراطي هو الافضل من بين كل الانظمة السياسية الممكنة. الادعاء فيما يبدو هو: نعم، لدينا <في الغرب> عنصرية، ولكن اي مكان العنصرية لا توجد فيه. علي الاقل، نحن في الغرب لدينا نظاما تتوفر فيه امكانية لنوع ما من المعركة السياسية من اجل المساواة العرقية، بينما لا تسمح بذلك الانظمة الاخرى. الافتراض ، كما ترين، هو أنه حتي ولو تم تفعيل الاصلاحات الضرورية للتخلص من الفقر الهائل والعنصرية المتاسسة ولعبة القوي- الدولية، الخ..، فإن النظام السياسي <الليبرالي – الديمقراطي> سيظل علي ما هو عليه. واذا كانت هناك رغبة في مستقبل مختلف جذريا فإن الافتراض يكمن في أن بلوغه ممكن فقط عبر النظام الغربي “الحديث” القائم الان. الحداثة الغربية ينظر اليها، اذن، علي أنها حبلي بمستقبليات ايجابية علي نحو لا يتوفر عند اي شرط ثقافي اخر. هذا التصور لا يعبر عنه صراحة في الطرح القديم عن التبعية، لان بؤرة التركيز انذاك كانت حول متطلبات الاقتصاد الصناعي المنتج الذي سيفضي بالتالي إلى طفرة في ممكنات الثروة العامة والرفاه المادي. هذا ما كانت “الحداثة” تعنيه بالنسبة إلى منظري التبعية (او لهؤلاء الذين استخدموا عن قصد هذا المفهوم). أما اليوم فان الحداثة اقرب في معناها إلى نظام الحكم (الديقراطية النيابية، الانتخابية الدورية، جماعات الضغط البرلمانية، استفتاءات الراي، العروض الاعلامية الموجهة، الخ.. ) والفردية في الاخلاق والقانون والجمال ، الخ…. التشديد علي الفرد، بوصفه ناخبا، وشخصية اخلاقية، ومستهلك (سواء لمنتجات الدولة او السوق)، يعتبر بكل تاكيد مركزيا للحداثة في نسختها الليبرالية. لكن كذلك ايضا الايمان في مستقبل بلا حدود. ( بالمناسبة، هذه العبارة لا تعني، نفس الشئ حين نقول “الايمان في نمو بلا حدود “، والذي لم يعد اليوم يحظي بأي رواج)
جاترجي علي حق في الاشارة إلى أن الحداثة الليبرالية لا تعطي انتباها كافيا لفكرة الجماعة. وهذا ما يشكو منه، لا يزال، الاشتراكيون (والمحافظون بالطبع). بل إن بعض من تاثروا بهيغل من اللبراليين كانوا قد وقفوا ضد الفردية التعاقدية المنفلتة ( امثال غريين وبوسانكويت). نحتاج، فيما اري، لتأرخة فكرة الجماعة < قرائتها ضمن المسارات والاشكال التي اتخذتها عبر المراحل التاريخية المختلفة>. كما لا ينبغي السماح لانفسنا، باي حال، بالانغلاق داخل ثنائية ” الفردية في مقابل الجماعتية”. هذه المواجهة بين المبادئ <بين الفردية والجماعية> تبدو اساسية ولا مناص منها لا لشئ إلا لأن اللغة الليبرالية قد اكتسبت فعلا وضعية مهيمنة.
الخيارات المختلفة بهذا الشأن هل هي ممكنة حقا؟ ام أن الدول القوية في يومنا هذا سترغم بقية العالم علي تبني النموذج الوحيد “المقبول” و ” المحترم ” – اي نموذج الليبرالية السياسية، الاقتصادية والاخلاقية؟ لا اعلم. القول بأنه يجب علينا عدم القبول بتعريفهم للحداثة باعتباره ملزما لنا هو شئ. وشئ اخرالادعاء بامتلاكنا الموارد المادية والاخلاقية للمقاومة الفعالة ولخلق خياراتنا الخاصة بصرف النظر عن ما إذا كنا راغبين في تسمية هذا الخيارات”حديثة” ام لا.
في دراستك لثقافات بعينها قمت بالتشديد علي ضرورة استخدام مفاهميم ذات صلة بممارسات وافتراضات هذه الثقافات. في هذا الخصوص، فإن عملك حول الدين شبيه بعمل مؤرخ المقصيين <الدونيون subaltern> ديبش جاكرابارتي <Dipesh Chakrabarty> حول حركات الطبقة العاملة الهندية من جهة نقده لمفهموم الوعي الطبقي لعجزه احتساب التضامنات والتحالفات غير الليبرالية، تلك التي لا تلعب ايديولوجيا الانسانوية دورا هيمنيا في تشكيل بنياتها. إلى مدي تعتقد أن مهمة تحليل الحركات الدينية – الساسية (مثل الاسلاموية) تعيقها نفس المشكلة المتمثلة في توظيف مقولات مفهومية غير كافية؟
– من الاشياء القيمة التي فعلتها ما بعد الحداثة أنها جعلتنا نرتاب في “السرديات الكبري”. فمتي خرجنا من عادة النظر الي كل شئ علي ضوء صلته بمسار الكل الكوني المفترض أن الغرب اكتشفه ، حتي يتسني وصف الاشياء عبر مصطلحاتها الخاصة. وهذا ايضا مشروع انثربولوجي بامتياز. علي الانثربولجي وصف طريقة الحياة بمصطلحات مناسبة. بدءاً وعلي علي اقل تقدير، يعني هذا أنها مصطلحات في علاقة صميمية مع الممارسات الاجتماعية ، والحركات، والتقاليد المتعلقة بالناس المشار اليهم. لا في علاقة مع مستقبل ما يفترض تحرك الناس نحوه. هذه المصطلحات الصميمية <الخصوصية، الداخلية> ليست وحدها التي يمكن استخدامها – بالطبع لا. لكن مفاهيم الناس نفسها <ما يكونه الناس من مفاهيم عن انفسهم وعن الاخرين> يجب تناولها بوصفها مركزية في اي مسعي لفهم مرضي لحياتهم. لهذا فان جاكرابارتي علي حق حين انتقد استخدام المقولات عندما تكون بلا معني عند الناس انفسهم مثل الوعي الطبقي.
اكرر: لا يعني هذا أن لا نسعي ابدا إلى توظيف مصطلحات ليس لها معني مباشر عند الناس موضوع الدراسة. مشكلة استخدام افكار مثل “الطبقة – الوعي” لاغراض التفسير تكمن في أنها تجعلنا ناخذ، كامر مسلم به، نوعا معينا من التغيير التاريخي بمثابة قيمة معيارية. فالمعارضة السياسية او النشاط السياسي هي “اكثر تطورا” إذا ما نظمت وفقا لاصطلاحات الوعي الطبقي، و”اقل تطورا” بدون ذلك. الماركسية تنزع إلى رؤية السياسة الطبقية بوصفها أساسية للحداثة، و “الحداثة” الشكل الاكثر تطورا للمجتمع المتحضر.
متي طرحنا جابنا ذلك السرد الكبير، ذلك التاريخ المعياري، حتي نستطيع الشروع في التساؤل لا عن ” ماذا ينبغي لهؤلاء الناس أن يفعلوا؟”؛ وإنما عن ” ماذا يهدفون بفعلهم؟” و “ولماذا؟”. يمكننا تعلم تطوير هذا السؤال من خلال مصطلحات تاريخية محددة. هذا ما ينطبق بل تاكيد علي محاولاتنا فهم الحركات السياسية – الدينية، خاصة الاسلامية منها. من الحماقة، فيما اري، ان نتساءل: لماذا لا تتحرك هذه الحركات في الاتجاه الذي يقتضيه التاريخ منهم. ولكن هذا بالظبط ما يسأله الدارسون : ” ما الذي يسوق الناس داخل هذه الحركات للتصرف بهذه اللاعقلانية، بهذه الطريقة الرجعية؟
علي خلفية نقاشنا حول نظام الحكم والجماعة، علي اي نحو، في اعتقادك، صارت الحركات الاسلامية المعاصرة تمثل رؤية لنظام حكم <polity> متميز عن التصورات المسيطرة و الشائعة حول الامة، والحوار السياسي والاجماع؟
– رؤية مختلفة لنظام الحكم – هذا جانب من التفكير الاسلامي يتطلب عملا اكثر أصالة. اشعر بأن هناك حوجة لاعادة تفكير طبيعية السياسي علي نحو اكثر راديكالية عن الذي فعلته فيما يبدو الحركات الاسلامية. اذ يوجد قبول، إلى حد كبير، بقبول دولة التحديث ( والنموذج الغربي للدولة)، وترجمة مشاريعها بمفردات اسلامية. والاسلاميون، في الغالب الاعم، يؤيدون ببساطة مقومات الدولة القومية الحديثة ولا يضفون إلى هذا سوي أن تكون السيطرة عليها من نصيب جسم فاضل من الاسلامين. ثمة حوجة لفكرة أكثر راديكالية قبل أن نستطيع القول أن للاسلاميين رؤية لنوع مميز لنظام الحكم.
مع ذلك، لا اريد المبالغة في تجانس هذه الحركات. فهناك محاولات بخطوط عريضة في اعادة التفكير مثيرة للاهتمام. علي سبيل المثال، مؤخراً نادي الغنوشي، الزعيم التونسي الاسلامي المحظور عن تونس، بالتأسيس السياسي لتعددية التفاسير للنصوص الاصولية. وعلي نحو ما، فان مأسسة تباين التفاسير هي اصلا جزء من التقليد الاسلامي (السني والشيعي معا). لكن الغنوشي يسعي،اذا صح فهمي له، إلى تسيس التدابير التقليدية وجعلها اكثر انسيابية، اكثر انفتاحا للتفاوض. فقد طالب الغنوشي، بداءا من تمييزه الكلاسيكي بين الجسد الاساسي للنص من جهة، وبين تعقيباته ( “العواقب” – ما يعقب) من جهة اخرى، بجلب الاخيرة إلى الحلبة السياسية، مما يؤدي إلى اشراك الناخبين من خلال مطالبتهم بالتصويت مع او ضد تفاسير معينة؛ مع الاحتفاظ لهم دائما بخيار تبديل ارائهم حولها. بعبارة اخرى، تصبح المضاعفات السياسية لتفسير ما عرضة للقبول او الرفض، مثلها مثل اي مقترح تشريعي او مشروع. من الواضح أن مثل هذا التصور يحتاج إلى مزيد من التطوير المستفيض والتجلية لو اريد أن يكون له مغزي سياسي.
هل مكونات مثل هذا النمط من التفكير جزء من التقليد الخطابي الاسلامي ؟
– بالتاكيد اري أنها كذلك. فهذا ما يعنيه حقا الاجتهاد – مبدأ العقلنة المتاصلة داخل التقليد. هناك الكثير من الحديث هذه الايام حول الاجتهاد بين المسلمين، لكنه غالبا ما يستخدم كاداة لجعل التقليد الاسلامي يتماشى مع القيم الليبرالية الحديثة بلا مبررات جيدة. الاجتهاد ينبغي ان يستخدم، في نظري، للمحاورة مع مسلمين اخرين من داخل التقليد والسعي إلى صياغة معضلات يعترف بها من قبل مسلمين اخرين كمعضلات تواجة التقليد.
ناقشت في عملك مزاولة النصيحة < المناصحة> في السعودية بوصفها مثالا للنقد العام ضمن التقليد الاسلامي الذي يتمايز بوضح عن الفكرة الليبرالية للنقد العام [2]. هل لك أن تتحدث إلى ذلك علي خلفية تعليقاتكم حول الحدود والممكنات التي تنطوي عليها تقاليد فكرية معينة؟
– نعم، النصيحة <المناصحة> تختلف عن الافكار الليبرالية للنقد العام. علي سبيل المثال، نقد الملك او النظام السياسي، ليس في نظرها حقا، بل واجبا. كذلك، لايقتصر عمل النقد علي المؤهلين للخطابة من قلة المتعلمين والمستنيرين، بل واجب علي كل مسلم الاضلاع به. كما له نظرية من واجب العلماء اعادة النظر فيها ومناقشتها باستمرار وفقا لظروف الزمان والمكان. النصيحة، بالتالي، شكل من اشكال النقد الداخلي بالنسبة للتقليد <الاسلامي>. اي أن الذين تعلموا ضمن هذا التقليد، ودرسوا ما هي “الممارسات الاسلامية الصحيحة “، هم وحدهم القادرين علي الاضطلاع بها كما يجب. ليس هذا نقدا يمكن لاي شخص من الخارج القيام به. شخص، علي سبيل المثال، غريب تماما <علي التقليد الاسلامي>، و مسلح بحس راقي في الجدل المنطقي، وطاقم من المبادئ الاخلاقية الكلية – الكونية <اليونفرسالية>. النصيحة، اذا، تختلف إلى حد كبير عن فكرة النقد المجرد والعام الذي يظل متقصرا علي الاعضاء المتعملين والمستنيرين في نظام الحكم السياسي.
هل تريد بذلك الاقتراح بأن هناك تقاليد لها القدرة علي مواصلة مسار الحوار الخاص بها دون الدخول بالضرورة في نقاش مع تقاليد اخرى موازية – في هذه الحالة التقليد الليبرالي – الغربي للنقد السياسي والعام؟
– لا. ليس ذلك ما رميت إلية. ما قصدته أن النصيحة، علي نحو ما وصفتها في كتابي، هي في الاساس شكل نقدي تتسني مباشرته فقط متي كان الناقد معتادا علي التقليد المعني وما يوفره هذا التقليد من معايير محددة للممارسات الاسلامية، وبالشروط الاجتماعية الخاصة التي ضمنها تطبق هذه المعايير. لكن حين تغيير الشروط الاجتماعية فإن هذه المعايير تتعرض، في غالب الامر، للتمديد والتعديل. هذه العملية وثيقة الصلة، فيما يخص الحالة التي اناقشها، بتطور الدولة السعودية الحديثة. فالعديد من الممارسات في هذه الدولة تنمذجت علي نسق ممارسات الدولة القومية الحديثة. وهو امر ينطبق ايضا علي جوانب مختلفة من “الحياة الخاصة”. بكلمات اخرى، هذه الشروط الاجتماعية الجديدة قد بدأت تشمل جوانبا من التقاليد السياسية الغربية. الخطاب الوهابي، من ثم، منخرط في عملية معقدة من التوائم والرفض مع اجزاء من تلك التقاليد. ورغم أن مبادئ النصيحة، ما تزال متميزة ومختلفة للغاية عن مبادئ التنوير، فان مداها وهدفها قد تغير بشكل ملحوظ. مع ذلك ليس هذا ما اسميه تحديدا بالمناقشة مع تقليد اخر، بقدر ما هو، قطعا، انخراط معها. ليس بوسعي ان اتصور كيف يمكن اليوم لاي تقليد لاغربي التهرب من الانخراط مع الحداثة الغربية، لان جوانبا من الحداثة الغربية اصبحت الان متجسمة في حياة المجتمعات غير الاوربية.
المفهوم البروتستاني ما بعد- الاصلاحي للدين هو نظام اعتقاد جواني ضئيل الصلة بتدابير الحياة السياسية والاجتماعية. هل تعتقد انه أثر او حول طبيعة الحوارات الاسلامية في هذا القرن؟ ولو كان ذلك حقا فعلي اي نحو ؟
– إلى حد ما اري أنها تاثرت. يتجلي هذا حيث تتبني حركات الاصلاح الاسلامي مقاييس العقلانية من الخطابات الغربية او حتي حين يدعي الاعتذاريون من المسلمين بأن أداء الاسلام سيكون جيدا للغاية اذا ما جري قياسه بدقة وفقا للمقايس الغربية للعدالة والاداب. ويبرز هذا النفوذ ايضا بجلاء كلما جعلت الشريعة متوائمة مع القانون والممارسة الغربيين، وكلما اخضعت لمؤسسات الدولة الحديثة. الدولة الحديثة أسفرت عن نهوض حركتين متمايزتين تماما: من عندهم الاعتقاد الديني مكانه الانسب هو “الفضاء الخاص”( في المعني القانوني والنفسي)، ومن عندهم “الوظائف العامة” للدولة الحديثة يجب ان تكون من نصيب الرجال اصحاب الاعتقاد الديني.
عادة ما يتردد أن الليبرالية كتقليد تقوم علي مبادئ التعددية والتسامح علي نحو لا يتوفر لدي التقليدي الاسلامي وأن مفهوم التعددية يظل اجنبيا علي الاسلام. كيف يمكنك الرد علي هذا ا؟
– يمكنني القول إن التعددية، بكل تاكيد، ليست إختراعا ليبراليا حديثا. صحيح أن تعددية المصالح الفردية تعتبر افضل تنظيرات التقليد الليبرالي. غير أنه ،من الناحية الاخرى، ما تزال الليبرالية تجد مشقة في تنظير مساعي المجموعات الاثنية والاقليات في المجتمعات الغربية في الحصول علي نوع ما من التمثيل. وصحيح أن الليبرالية لها نظريات عن التسامح تؤمن خلق المساحات التي تكفل للافراد أن يفعلوا ما يريدوه، طالما لم يعيقوا قدرة الاخرين كي يفعلوا مثلهم. لكن هذه النظريات الليبرالية ليست نظريات حول التعددية كما بدأنا نفهم معانيها اليوم، إنما هي نظريات حول تعدد “المصالح” – مصالح يمكن تسويتها وإجمالها وتقديرها حسابيا من خلال العملية الانتخابية ، ثم التفاوض فيما بعد حولها في مجري الصياغة والتطبيق للسياسات الحكومية. و هذا نوع تعددية مختلف جدا عن <تعددية> انماط الحياة المختلفة من حيث كونها أ) بمثابة الشروط المسبقة والضروية وليست موضوعات للمصالح الفردية ؛ وعدا كونها ب) في التحليل الاخير انماطا متغايرة، غير قابلة للقياس والمقارنة.
وإذا ما نظرنا الان إلى التقليد الاسلامي، نجده، مثل العديد من التقاليد العديدة غير الليبرالية (خاصة التقاليد الابراهيمية او اهل الكتاب – لكن ليس حصرا عليها) يقوم علي فكرة تعددية الجماعات الاجتماعية، وتعددية التقاليد الدينية. التقليد الاسلامي، بالطبع، قد استوعب دائما تعددية التاويلات النصية، وهناك قول ماثور في الشريعة: اختلاف الامة رحمة. هنا تكمن افكار الجهاد والاجماع التي، بوصفهما انماطا لتطوير وتعزيز التقليد الاسلامي، تخول إنشاء اختلافات متماسكة لا فرض التجانس او التماثل.
بالطبع، هناك دائما حدودا للاختلاف اذا كان الهدف هو التماسك. واذا كان التسامح ليس مجرد تسمية اخرى لعدم الاكتراث <اللامبالاة ازاء من نختلف معهم> فإن هناك نقطة داخل اي تقليد الاختلاف بعدها لا يمكن التسامح معه. هذا يعني ببساطة ان هناك اختلافات لا يمكن استيعابها <التكيف والتسامح معها > ضمن التقليد دون تهديده من اساسه.. لكن هناك، بالطبع، لحظات وشروط مختلفة لمثل هذا الضرب من اللاتسامح. يجب عدم مساوة اللاتسامح مع العنف والقسوة.
اجمالا، المجتمعات الاسلامية في الماضي كانت اكثر استيعابا للتعددية، بالمعني الذي حاولت رسمه، من المجتمعات الاوربية. لا يستتبع ذلك أنها الافضل بالضرورة. كما اني، بالتاكيد، لا اريد الايحاء بأن المسلمين، حكاما وشعوبا، لم يعرف ابدا عنهم التحامل، وأنهم لم يضطهدوا ابدا غير المسلمين بينهم. نقطتي المحورية هي فقط أن “مفهوم التعددية”، علي النحو الذي طرحتيه، ليس اجنبيا علي الاسلام.
في معرض الكلام حول تعددية التاويلات داخل التقليد الاسلامي، يذهب بعض الباحثين الى التمييز بين التقليدين الصوفي والسلفي [الاصلاحي] في الاسلام. كنت قد انتقدت الطرق المالوفة لترسيم هذين التقليدين تبعا للتصنيفات الثنائية ريفي/حضري، شعبي/صفوي، شفوي/ نصي، علي التعاقب [3]. مع ذلك يصعب إنكار الفروق الملموسة بين الفكر الصوفي والفكر السلفي. كيف لنا التعامل المثمر مع هذه الاختلافات دون الوقوع في ثنائيات مبسطة؟
– لسوء الحظ، يواصل الناس اصدار مثل هذه التقابلات المبسطة. صحيح أن التصوف ينظر له من قبل بعض اقسام التقليد الاسلامي مثل التقليد الوهابي، المسيطر اليوم رسميا في السعودية، بوصفه مغاير تماما للتقليد الاسلامي المركزي كما جري تعريفه. غير ان تعريف التقليد الاسلامي المركزي من قبل الحنابلة السعودين ليس هو، بالمعني الدقيق للكلمة، تعريفا سلفيا هو الاخر. فقد كان للاسلام الوهابي علاقة خاصة مع دولة معينة – حتي عندما يشكل لغة معارضة معاصرة للنظام. هذه مسالة معقدة لا اريد الخوض فيها هنا بتفصيل. كل ما اريد قوله هنا إن الاسلام ليس كأنما يحتوي علي خيارين: الصوفية او السلفية. التصوف والسلفية عند اصلاحين مثل محمد عبده ليس مقولتين اقصائيتن. فقد كان عبده، احد مؤسسي الحركة السلفية [الاصلاحية]، يقبل علي الداوم بالتقليد الصوفي. بل إن بعض جوانب علاقته مع جمال الدين الافغاني، بما في ذلك لغة الحب الصوفية التي تواصلا من خلالاها، لا يمكن تفسيرها الا علي ضوء صلتهم الاليفة بالتصوف. عبده كان يري أن ثمة أنواعا معينة من الاصلاحات لابد منها للاسلام المعاصر. لكنه كان ايضا يعتبرها اصلاحات تتماشي مع فكر التصوف وقيمه. ليس هذا موقفا جديدا. فقد كان الامام الغزالي، الاصلاحي القروسطي العظيم ، في الوقت نفسه نصيا (صفويا اذا اردت) وصوفيا معا.
ينزع معظم الاصلاحيين السلفيين، في نظري، الى نقد الصوفية حينما تتخطي عقائد الاسلام الاساسية: الفصل بين اللة و الكائنات الانسانية. ولقد سمعت نقدا لممارسات صوفية بدأت كانها توحي بقابلية الاتحاد الكامل مع اللة مقابل قابلية الانفتاح الكامل إليه. اري أن هذه نقطة حاسمة بالنسبة للكثيرين من نقاد الصوفية.
وأشير هنا عرضا إلى ذلك الحوار المثير الذي وقع في القرن الثامن عشر بين محمد عبد الوهاب (مصلح الجزيرة العربية) وقاضي القضاة في تونس (الذي لا استحضر اسمه) حول ما يعرف بعبادة قبور الاولياء (إلتماس الشفاعة او الاستغاثة من دفناء القبور من الاولياء) والتي في نظر بعض الاصلاحين من سمات التقليد الصوفي. ودارت المناقشة حول ما إذا كان التردد علي مقابر الاولياء والتبرك والتوسل بها يعتبر عبادة ام زيارة. مثل هذه الزيارات في نظر القاضي لا تندرج تحت حالة العبادة، لنفس المنطق الذي لا يجعل زيارة قبر الرسول في مكة عبادة. وأن الرسول، في نهاية الامر، لايعبد (فالعبادة لله وحده)، لكن زيارة ضريحه هي من اعمال التقوي التي تجلب البركة. لا اري ان عبد الوهاب قد استمالته هذه الحجة لكنها حجة علي اي حال. إن ادانة بعض اقسام الحركة الاسلامية لغيرهم من المسلمين بأنهم كفار، هو، طبعا، بمثابة إنهاء للمجادلة، بل حتي اسوأ، لناحية أنها حكم شبه قانوني تصحبه عقوبات صارمة.
من الغريب أن المنضويين للحركات الاسلامية ممن يعلنون غيرهم من المسلمين كفارا، هم انفسهم من يزعمون ان الاجتهاد [بذل الجهد في تحصيل حكم مستقل في مسالة لاهوتية[ بابه مفتوح في الاسلام. <اللاهوت: “العلم” او النظر المكرس لقضايا الألوهية ومسائل الاعتقاد. علم الكلام في مصطلح الخطاب الاسلامي الكلاسيكي >. فكرة الاجتهاد برمتها، باعتباره ه تمرينا في الحوار واعادة النظر في الحجج المدرسية، تبدو متناقضة مع هذا الضرب من الاغلاقية المضمن في اعلان شخص ما كافرا.
– بالطبع، سوف لن يقبل مسلمون عديدون فتح الاجتهاد لاستقبال تاويلات جديدة. بالمناسبة، السنيون عندهم الاجتهاد يحظي في المذهب الحنفي التقليدي بدور مركزي اكبر بكثير من دوره في المدارس الاخري. بالبنسبة لهم بوابة الاجتهاد لم تغلق ابدا. لكن رغم هذا الانفتاح علي مبداء الاجتهاد، فانهم يناصبون العداء لما يعتبرونه استخداما اعتباطيا له. هم اشبه، في بعض النواحي، بالخوارج في القرن السابع الذين كانوا علي استعداد لتكفير غيرهم من المسلمين بل إعلان الحرب عليهم – فقد قرورا أن هناك اشياء باب الاجتهاد فيها مفتوح واشياء لا محل للاجتهاد فيها. بل كان الحديث عن بعض الاشياء علي ضوء الاجتهاد قمين بان يفتح، ببساطة، باب التكفير. اذن، فهو سؤال حول أين نرسم الحدود المفهومية واي فعل سيترتب علي هذه الطريقة في ترسيم الحدود.
في معاينتهم لتقاليد العالم، عادة ما يقيم منظرو الاديان تعارضا بين التدينية الايمانية والحساسية “التقليدية” التي تشدد علي الممارسات الجسمانية الصحيحة، و الفهم الحرفي للنصوص ، الخ.. من الجهة الاخري، تُربط الإيمانية بالفهم المجرد لفكرة الالوهية، والنصوص المقدسة، والمبادئ العامة للعقيدة الدينية. إما النماذج التطورية للنظرية الدينية فتربط الأيمانية بتصور ما بعد – تنويري للدين، وهو التصور الذي يظهر مسيحية مابعد الاصلاح برغماتية، بينما يربط الاسلام، والهندوسية، واشكال معينة لليهودية بالفهم الحرفي للدين .[4] وحتي لو رفضنا النموذج التطوري لنمو الدين في التاريخ، فان ثمة فروق جلية بين هذه الاديان فيما يتعلق بدرجة التركيز علي الممارسات الجسمانية الصحيحة. وبالنظر إلى تشديدك علي تأرخة مفهوم الدين، والعلاقة العدائية بين الخطاب الديني والممارسة الجسمانية (بالاخص لدي المسيحية القروسيطية) ما هي السبل التي تقترحها للتعامل مع هذا التشخيص للتقاليد الدينية من حيث إنها إيمانية او حرفية او معا.
– هذا تعارض زائف في نظري. لان المبادئ والافكار المجردة هي ايضا جزء لا يتجزاء من التقاليد الاسلامية، واليهودية، ومسيحية ما قبل الاصلاح. الافكار المجردة لها جدواها ليس فقط لللاهوت < “العلم” او النظر المكرس لقضاي االالهيات ومسائل الاعتقاد > ليست ، بل ايضا للبرامج الساعية الي تعليم الممارسات المجسدة. ولقد تناولت هذه البرامج في “جينولوجيات الدين”. بهذا المعني فإن الافكار المجردة ليست متعارضة مع الممارسات المجسدة. هذه النقطة تنطبق علي الطريقة التي تطورت بها الفضائل المسيحية في السياق الرهباني. كما تنطبق بدورها، و بنفس القدر علي الطريقة التي عبرها تشكلت النصيحة كممارسة متجسدة <ملموسة، معاشة من خلال ممارسات جسدية حسية >، علي نحو ما حاولت استعراضه في كتابي. تكمن النقطة الرئيسية هنا أن المسيحية البروتستانية المعاصرة (وغيرها من الاديان التي تمنذجت اليوم علي حذوها) باتت تري في امتلاك الاعتقادات السلمية <مبادئ الاعتقاد المجردة او الوجدانية> امرا أهم لها بكثير ر من مجرد القيام باداء ممارسات <جسمانية حركية > موصوفة. ليس ذلك لان الاعتقاد ، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معني، كان عديم الجدوي في الماضي المسيحي او عديم الجدوي لدي التقليد الاسلامي. إنما لان الاعتقاد صار اليوم امرا جوانيا محضا، حالة ذهنية خصوصية، حالة ذهنية معينة ومنفصلة عن الممارسات اليومية <العينية والمعاشة >. ورغم هذا الطابع الجواني المزعوم، اصبح الاعتقاد موضوعا للخطاب المنهجي <النظامي >، إلى الحد الذي صار فيه نظام الاقوال< العبارات، الافادات، الخطاب النظري حول الدين > الدائرة حول مسائل الاعتقاد معتمدا اليوم باعتباره يمثل ماهية الدين – باعتباره البناء الذي يجعل من الممكن مقارنة وتقييم الديانات المختلفة. هذه العبارات المتمنهجة و النصوص غدت اليوم بمثابة الشكل العام الفعلي للدين < شكل التصورات المتداولة عن الدين في الخطاب العام >.
في نظري، التقابل الاجدي هو الذي ينبغي إقامته بين تنمية القدرات الدينية – الاخلاقية الموصوفة <بواسطة الارشادات الاحكام العملية في العبادات والمعاملات > والتي تشمل، من ناحية، التحصيل لمواقف جسمانية محددة – التحصيل <العملي> المنضبط للعادات والتطلعات والرغبات (بما في ذلك العواطف). وبين ما هو، من ناحية اخري، مجموعة أقوال اعتقاد <الصياغات النصية للاحكام، الحجج، الادلة، البراهين التي تفيد وتسبب الاعتقاد > اكثر تجريدا، “النصوص” الحاوية للمعاني و تعرَّف لب الدين.
عليه، طالما بقيت اشكال التدين الحديثة تتحدد تبعا إلى مجموعات من أقوال الاعتقاد المجردة، والتي لا صلة لها إلا بالكاد بحياة الناس الفعلية، سنظل نشهد هذه الظاهرة العجيبة لمن يفترض فيهم إيمانهم بالدين او رفضهم له من المسيحين او غير مسيحيين او الملحدين، رغم أنهم يعيشون نوعية الحياة نفسها. وإذا كان الامر هكذا فإن أقوال الاعتقاد المجردة لتختلف بوضوح عن الممارسات المجسدة بانواعها المختلفة. التقابل او التعارض الهام الذي يجب وضعه في اعتبارنا إنما يكمن، في نظري، في الاختلاف بين هذه النوعية من التدين بوصفها نظاما فكريا مجردا من العقائد المذهبية، بلا اثر او صلة مباشرة له مع اشكال الممارسات المجسدة <الجسمانية المعاشة الملموسة >. وبين أشكال الحياة المنظمة حول التحصيل التدريجي للممارسات الاخلاقية الدينية الصحيحة وإتمامها. نوعية التدين السابقة < التدين بوصفه مجموعة من العقائد المجردة > هي سمة من سمات الدين الحديث في اوربا، بل صارت فعلا جزءا في تعريف ما هو الدين: مجموعة من أقوال إعتقاد تتيح المقارنة بين دين واخر، وتمكن الحكم علي هذه الأقوال المجردة لجهة صحتها بل وحتي معناها. غير أن هذا الوضعية إنما تتعارض جذريا مع وضعية أخرى فيها الممارسة الصحيحة ضرورية لتطور الفضائل الاخلاقية، عدا كونها فضيلة دينية ضرورية في حد ذاتها. في نهاية الامر، بوسعنا الحديث عن أقوال الاعتقاد بوصفها قابلة للتصديق أم لا، حقيقية او زائفة ، عقلانية او غير عقلانية. لكن، لا يمكننا الحديث بنفس الطريقة حينما يتعلق الامر بالممارسات المجسدة. فالممارسات <المؤداه عمليا > لا تندرج ضمن اطار الجمل التقريرية <الخبرية >، إنما تندرج ضمن اطار الصيغ الادائية علي نحو ما اشار اوستن في كتابه ” كيف تفعل الاشياء بالكلمات”. فنحن لا نقول عن الاداءات أنها قابلة للتصديق أم غير قابلة للتصديق. إنما نستفسر، عوضا عن ذلك، عماذا كان القيام بها قد تم <تأديته > بصورة جيدة ام غير جيدة ، بصورة فعالة ام غير فعالة. هاذين السياقين < سياق الاقوال الاعتقادية الخبرية، وسياق الممارسات المجسدة الانجازية الادائية >، يثيران، من ثم، انواعا مختلفة من الاسئلة. وهذا هو نوع التعارض الذي ينبغي وضعه في الاعتبار. وجزئيا، كان ذلك، موضوع فصلين تناولت فيهما (شعائر) الانطباط الرهباني. [5]
وفي الاسلام، هذا هو ما يهم. فاذا تجادل المسلمون ببساطة حول ما إذا كان مذهبا معينا هو “الإسلام الحقيقي” أم لا، وكانت الإجابة علي هذا التساؤل لا تؤثر شيئا في كيف يتعملون العيش، كيف ينمون فضائل اسلامية مميزة، فلا يغير من واقع الامر شئ كان هذا المذهب شبيها بالمسيحية أم لا. لأن طريقة حياتهم تبقي هي نفسها او هي نفسها الي حد كبير. وهذه هي النقطة التي يجب علينا مراعاتها. السؤال الحاسم، فيما يبدو لي، هو الاتي: هل هنالك أحكام ومبادئ عملية تستهدف تنمية مجموعة متميزة من الفضائل ( المصاغة بواسطة الدين)، وتتصل بالكيفية التي يهيكل <يرتب وينظم > المرء بها حياته ؟ هذا هو ما عنيته بالممارسات المجسدة.
لما كانت المسيحية القروسيطية هي موضوع تركيزك في كتابك < جينولوجيات الدين > ، اتساءل من قبيل الفضول إذا كنت تري ان ممارسات مجسدة بهذا المعني قد توجد ايضا في بعض اطراف العالم الإسلامي المعاصر ، حيث يفضي فعلا تحصيل الممارسات الجسمانية إلى تغيير في طريقة كيف يعيش الناس حياتهم يوميا؟
– نعم. أفتكر أنها تفعل في بعض المناطق. لقد حاولت وصف جوانبا من هذا الموضوع في سياق تناولي للمفهوم الوهابي والممارسة الاخلاقية في تعارضها مع التصورات المابعد – كانتية للاخلاق. اذ ما نزال نشهد، بدرجات متفاوتة، استمرار هذا النمط من الحس الاخلاقي في بعض اجزاء العالم الاسلامي رغم تعرضه للانهيار هناك ايضا كما هو الحال في اي مكان اخر. افتكر أن الحركات الاسلامية الراهنة تستشعر باهمية مسعي التحصيل للممارسات الجسمانية الصحيحة، وضرورة إعادة تنصيبها، بطريقة ما، أين ما انهارت وحمايتها أين ما وجدت. غير أن الاسلامين، للاسف، عادة ما يميلون إلى ربط صيانة هذه الممارسات بمتطلبات الدولة الاسلامية الحديثة. وهذا ما يبدو لي إشكاليا لاسباب شتي. وعلي اي حال، فإن تعلم المقدرات الاخلاقية لم يكن اصلا يعتمد علي وجود دولة حديثة. مع ذلك معظم الحركات الاسلامية تجدها منشغلة بالاستيلاء علي المركز الذي تمثله الدولة الحديثة بدلا عن الانفكاك عنها او تفكيكها.
في الختام، اود أن اتطرق لجوانب لعلها الاكثر خلافية في عملك، علي خلفية ما تحظي به اليوم موضوعات المقاومة والفاعلية <Agency > في اقسام الدراسات الاكاديمية من اهتمام. اكثر هذه الاشياء إثارة للخلاف علي سبيل المثال، النقد الذي وجهته في كتابك إلى النزعة السائدة وسط علماء الاجتماع لتحليل علاقات السيطرة من خلال ثنائية القمع والقبول[7]. وعلما بانك تجد مثل هذا الضرب من المعالجة إشكاليا، ما هي الخيارات المتوفرة لنا لتفكير علاقات السيطرة ان لم يكن من خلال مفاهيم القهر والقبول.
– ما يكمن وراء اعتراضي لهذه الثنائية هو أن نموذج القمع/السيطرة يقوم علي الفرضية التي تذهب الي أن شيئا يسمي الوعي هو أساسي لتفسير البنيات والتحولات الاجتماعية. أناقش هذه النقطة باقتضاب في مقدمة كتابي ” جينولجيات الدين”. هذا النموذح يطرح نوعان من الوعي (وعي المرغم/المقهور، والاخر وعي القبول)، ويفترض أن السيطرة إنما تفسر من خلال مصطلحات القوة او القبول. يتجاهل هذا الطرح ما سميته في مكان اخر، وعلي نحو ليس مرضيا تمام، “بنيات الاقصاء” – وهذه، بالمناسبة، واحدة من اضاءات ماركس الاساسية. في الحقيقة، ثمة اوضاع محددة لا تملكين فيها ببساطة اي خيارات سوي القيام بنوع معين من الافعال. لا اقصد بذلك انك مرغمة علي القيام بها، إنما أعني ببساطة أن هذه هي الخيارات المتوفرة. او أن “القوة”، علي اقل تقدير، ليست مسالة قهر، بقدر ما هي مسألة ظروف. اكثر شبها بذلك الوضع في لعبة الشطرنج حيث ينخرط المرء في تقدير الممكن من ضروب الحركات التي تلزم خصمك القيام بحركات معينة، و تمنعه او تمنعها من القيام بحركات اخرى. بكلمات اخرى، هناك ملابسات وشروط معينة ربما تتوفر مباشرة او لا تتوفر لدي وعي الشخص المنخرط في هذه الانشطة، لكنها مع ذلك تقييد و تهيكل قابليات أفعاله او أفعالها. وسواء أنجزت مثل هذه الافعال عي مضض أم عن رضا فتلك مسالة اخري. المسالة الاساسية هنا هي: ما الذي يجب علي المرء القيام به من افعال علي ضوء ما هو قائم ومتهكيل من شروط وممكنات، لا علي ضوء الوعي، او السعادة او الغضب او الاسيتاء التي بها يفعل هذه الافعال. لا يعني هذا، طبعا، أن الناس لا وعي لهم، بل يعني أننا ننظر الشئ الخطأ إذا تطلعنا إلى الوعي كي نفهم حياتنا وتواتر انماطها المتغيرة. لاجل ذلك ينبغي التطلع الي الظروف والملابسات التي تبعا لها القابليات <ممكنات الفعل> تتنمط و ويعاد ترسيمها.
ولكن يمكن الاعتراض باسم الذات أن هذا موقف بينوي لا يفسح حيزا للفاعلية الانسانية — رغم انك ترسم تمييزا بين الفاعل <Agency > والذات. كيف ترد علي النقد الذي يري في تحليلك حتمية مفرطة وبنيوية؟
– سارد علي هذا النقد بطريقتين. اولا، وقبل كل شئ، وعلي افتراض أن مثل قراءتي لا تترك حيزا للفاعلية <Agency >، فانه سيظل ضروريا معرفة إن كان ما قلته صحيحا أم لا. لأني لا اري أن “الفاعلية” يجب ان تعطي أولوية في تفكراتنا لمجرد أننا فقط نحب فكرة الفاعلية. وأنه واجب علينا رفض اي معالجة نظرية لا تمنح “الفاعلية” مجالا كافيا، لمجرد أننا ببساطة لا نقبل اخلاقيا اوضاعا الناس فيها غير قادرين علي تشكيل حياتهم . ما يجب فعله، في نظري، هو البرهنة علي أن مفهوم “الفاعلية” ضروري فعلا لوصف وتحليل جميع الحالات التجريبية. نقبل بكل سهولة جعل شرط قبولنا لنظرية ما ما يتوقف وحده علي افساحها المجال للفاعلية. غير أن النظرية توفر نطاقا للفاعلية علي نحو يختلف تماما عن نطاق الفاعلية الذي توفره الظروف الفعلية. فلا طائل اذن من القاء اللوم علي النظريات لو أن اوضاعا بعينها في العالم، كما هو الحال في اوضاع الاعتقال، لم توفر لشخص ما مجالا لتشكيل حياته او حياتها. إن ظرف الاعتقال هو الذي لا يوفر للسجين مجالا من هذا النوع. وطالما كان فعل الاعاقة مصدره، في حقيقة الامر، الوضع القائم، فإن الشكوي من النظرية لا معني لها. طبعا، مازق السجين في هذا السياق، هو حالة متطرفة. لكن ما يجب عمله دائما هو فحص وتحليل الشروط التي ضمنها تتشكل ممكنات الفعل الفعال <اوالفاعلية >.
برغم كل ما قلته، علينا أن نتذكر أن القول بوجود شروط معيقة لا يجب أن يعني القول ضمنا بأن البنية تحتم ما يستطيع الفرد فعله أم لا. إنما يعني فقط <شرط > االتحري في بنية الممكنات. اذا تأملتي مثلا استعارة الحرب، بوصفها اكثر وحشية وتعقيدا، علي غرار لعبة الشطرنج لجهة أن لها قواعدها، ستجدين ممكنات لفعل ربما تتباين تباينا هائلا مع الازمنة والمكان. فربما كانت لدي هذا الطرف مدي واسع من الخيارات المتاحة، بينما للطرف الاخر الضئيل جدا. في هذه الحالة ايضا لدينا اوضاع ذات عوائق مفرطة، فاعلية احد الاطرف فيها محدودة او منعدمة.
يفشل العديد من أنصار “الفاعلية” في الاقرار بأن هناك ظروف تتوفر فيها لبعض فاعلية اكثر من غيرهم. و في السنوات الاخيرة بات شائعا سماع طلاب ” الخطاب ما بعد الكلونيالي” مطالبين إعادة النظر في العلاقات التاريخية بين القوي الاوربية وبلدان العالم الثالث وفق إصطلاحات تتيح الفاعلية والمقاومة من قبل الاخيرة. كل هذا ربما كان جيدا جدا ولا غبار عليه، لكن من المهم أن نصف اي نوع من الخيارات متوفر فعلا.
يجب أن لا ننسي ابدا، أنه علي طول القرن التاسع عشر كان تاسيس وتوسيع المستعمرة والامبراطورية يعني فوزا لطرف وخسارة لطرف اخر . واذا كان لنا ان نتفق أن الطرفان < المُستعمِر و المُستعمَر > هما طرفان فاعلان، يجب علينا ان نتفق ايضا أن فاعلية احد الاطراف هي التي أكسبته، في نهاية الامر، امبراطورية بينما خسرتها فاعلية الطرف الاخرا. وأن المبادئ السياسية، والاقتصادية، والاخلاقية الرئيسية قد اخذها تدريجيا الفاعل المُستعمَر عن < الفاعل> المُستعمِر . هذا لايعني، طبعا، ان الثاني فرض افكاره الخالصة علي الاول. إنما يعني علينا ايجاد طرق مناسبة للتعامل مع العلاقات التاريخية غير السميترية < غير المتناظرة او غير المتوازنة > .
يجب أن أعترف بانني فعلا لا أتعاطف مع الاحتفاء المتواصل للفاعلية في العلوم الاجتماعية المعاصرة. الفاعلية صارت كلمة رائجة. هذا الولع لحد الثمالة “بالفاعلية” إنما هو، علي نحو ما، نتاج للفردية الليبرالية. فقدرة الافراد علي اعادة موضنة انفسهم <علي صياغتها وفقا لانماط فكرية وجسدية جديدة >، و تغيير حياتهم اصبحت تعطي اولوية ايدولوحية علي العلاقات التي ضمنها يتشكل، ويتموقع هؤلاء الافراد ويتأمن استمرارهم. المثل الشائع والمبتذل والمألوف عندنا جميعا، والذي يتجاهل هذه الحقيقة هو ” بوسعك تكوين او اعادة تكوين نفسك اذا ما كنت حقا راغبا في ذلك “. الارادة القوية الكافية هي كل ما تحتاجه.
لكن ما هو الفاعل؟ من السهولة للغاية افتراض أن الفاعلية لابد ملازمة ومتأصلة في “ذات” – في فرد متشخص بوعيه او بوعيها. وحتي حين يقال عن الفاعل أنه طبقة فإنه يبقي، مع ذلك، متمنذجا علي فكرة الذات، علي فكرة شبه – الفرد الممتلك لارادة متميزة عن بقية إرادات الافراد الاخرين. الفاعلية الحقة إنما يفترض أن توجد في صراع الارادات المعبر عنها في مجري السعي وراء ” مصالح” متناقضة. غير أن مثل هذا النظر يبدو لي مثيرا جدا للتساؤل. ولقد تحدثت مبكرا عن إشكالية فكرة “المصالح”. هنا تجدر الاشارة الي أن هناك فواعل جماعية مثل الشركات والحكومات والجيوش الخ.. فواعل ليس لها ذاتية قابلة للتموضع <التموقع في محل ما >، ليس لها ارادة مستمرة او متصلة. الفاعلية كمبداء للفعالية لا تحتاج اذن الي فكرة الذاتية. إن تخصيص المسؤولية القانونية او الاخلاقية او معا لا يعتمد علي فكرة الوعي، إنما يعتمد علي فكرة العواقب المعللة <عواقب يمكن تعليلها او ارجاعها إلى عوامل معينة>. فشركة الاعمال ربما تكون ملزمة قانونيا او أخلاقيا علي أن تكون فاعلا، لانها بكل بساطة تصرفت بطريقة معينة او فشلت في التصرف ( باعتبار عدم التصرف نوعا ما من التصرف) مما ترتب عليه بالفعل عواقب عملية. إن القول بان فعلا كان سببا لشئ ما إنما هو بمثابة القول إن فاعلا بعينه كان مسؤولا عنه. وفي السياسة “السبب” هو الشئ الذي يدعوك <باعتباره سببا، علة او قضية > للمدافعة عنه تاييدا او معارضة. فحين تدعو نفسك لصالح سبب او قضية فانك تساعد في تكوين الفاعلية. ليس هناك حوجة لإستدعاء اي نوع من انواع الافكارحول الوعي سواء المندرجة ضمن باقة افكار الوعي الصحيح او افكار الوعي الزائف. المهم هنا هو أن نوع ما من الجماعة الاجتماعية، او موقعا من نوع ما في الفضاء الاجتماعي يتولي دعم ممارسات اجتماعية معينة (محتملة)، وأن هذه الممارسات ليس لها عواقب اجتماعية واخلاقية (محتملة) فحسب، بل بامكانها تصير موضوعات للتدخل السياسي.
* النص الاصلي للحوار بالانجليزية : http://www.stanford.edu/group/SHR/5-1/text/asad.html
* الاقواس المثلثة < > تحتوي علي عبارات او شروح مضافة من المترجم وليست، تحديدا، في النص الاصلي.
مراجع
1. Talal Asad, Genealogies of Religion: Discipline and Reasons of Power in Christianity and Islam (Baltimore: Johns Hopkins UP, 1993) 19.
2. Asad, 200-238.
3. Talal Asad, The Idea of an Anthropology of Islam, Occasional papers (Washington D.C.: Ctr. for Contemporary Arab Studies, Georgetown, 1986).
4. See, e.g., Robert Bellah, Beyond Belief (New York: Harper, 1970).