بَلّة البَكري (*)
“أحْلَمُ بأفريقيا تَعيشُ في سلامٍ مع نَفْسِها !”
نِلسون مانديلا
مُقدمة
وصلتني العديد من تعليقات القراء على الموضوعات التي تناولتها في حلقات هذا المقال التسع. هذا أمر حَسُن، يؤكد انشغال النّاس والعديد من كتاب الرأي بأمر التغيير الحقيقي والناجع الذي يغوصُ إلى عمق المشكل السوداني المزمن ويستأصله. وقد أشرنا إليه، كما ذكرنا قبل قيام ثورة ديسمبر ب (التغيير السياسي الجذري) راجع الحلقة الرابعة والخامسة من هذا المقال. فواضح أن الجميع قد سئموا المسكنات الوقتية التي لا تعدو أن تكون سوى مضيعة للوقت وملهاة مُملة أبطالها دوماً الذين يغيرون جلودهم كالأفاعي في كلّ عهد، وبعض ماسحي الجُّوخ. وأدناه ملخص الحلقات العشر التي يمكن مراجعتها في الإسفير:
(1) الاستقلال وغياب الحريّة
(2) شعبٌ عملاق يقوده أقزام
(3) إرادة الأمّة أساس السُّلطة
(4) الحل السياسي الجذري
(5) تحالف قوى التغيير الجذري
(6) التعليم وضرورة العودة للمربع الأوّل
(7) البناء المؤسسي للدولة
(8) معضلة الإطاري وتحكيم العقل
(9) القانون الأساسي وصناعة الدستور
(10) الدولة العصرية الحديثة
مقومات الدّولة العصرية
الدولة العصريّة الحديثة دولة مَدَنيّة وليست ثُيوقراطية دِينية أو عِرقية، بأي حال من الأحوال. فقد مرَّ المجتمع البشري بتجربة الدولة الدينية، في أوربا، وخرج منها بدروس حية يمكن الاستفادة منها لكل ذِي عقل. فقد انتهى الاعتقاد بأن الأرض ليست كروية ولم يبق من يقول إنها مركز الكُون كله؛ تمّ ذلك قبل قرابة الخمسة قرون زمنية منذ عهد كوبرنيكس وجاليلو، في القرن السادس عشر الميلادي. الدولة العصريّة الحديثة دولة يتساوي فيها الجميع في الحقوق والواجبات؛ ولها (قانون أساسي) ثابت يُشكِّل العمود الفقري لنظامها الإداري والسياسي والقضائي. إنها دولة مؤسسات حديثة، بُنيت وِفق هيكل إداري صحيح وملائم لإدارة الشأن العام في بلد مترامي الأطراف كبلدنا، وبها من البِنية التحتية ما يكفي لانطلاقة تنموية معتبرة في مجالات الزراعة والبيئة وتربية الحيوان والصناعة والتعدين والسياحة والخدمات بمختلف ضُروبها. ولكي تكون الدّولة عصريّة فلابد لها أن تحترم العِلم والتعليم وتستثمر فيه بسخاء؛ وأن تقوم على التدريب المهني والفني المُكثّف للشباب، وقود المستقبل لأي أمّة. الدولة العصرية تعرف قدر العلماء وتحتفي بهم وترفع من مقامهم. فكثير ممن فازوا بجائزة نوبل من الأمريكيين هم من أصول مهاجرة لأمريكا استثمرت فيهم بلادهم وجنت ثمار غرسها الطيّب. بل أن بعض رؤساء وكبار مسئولي أمريكا، أكبر قوة اقتصادية في العالم، هم من جيل المهاجرين حديثاً أو من أبنائهم (كمالا هاريس، باراك أوباما،كولن باوِل، مادلين أولبرايت؛ هنري كيسنجر وآخرين مثالا).
السلام والدولة العصرية
الدولة العصرية دولة يعرف قادتُها قيمة الأمن المجتمعي والسِلم والسلام؛ لأنهم نظروا من حولهم قريباً لدول الجوار وبعيداً لتجارب العالم في التاريخ ودرسوها وفهموها واعتبروا منها وبها. لقد مات حوالي ستين (60) مليون شخص في الحرب العالمية الثانية، في الأربعينات من القرن الماضي وتمّ تدمير دول مثل ألمانيا، بصورة شبه كاملة وتقسيمها الى دولتين. وبعد خمسين عاماً من ذلك التاريخ في التسعينات من القرن الماضي أيضاُ، مات وتشرد مليون آخرون في أوربا الشرقية في حروب البلقان بدعاوى عرقية ودينية وتمّ تقسيم يوغسلافيا الى سبع دويلات. وفي ذات التاريخ مات قرابة مليون آخرون في رُواندا بالجوار الأفريقي بدعاوى عرقية صِرفة. ومات مثل ذلمك العدد أو يزيد في حُروب الشمال العبثية في جنوب السودان بدعاوى دينية وعرقية أيضاً، أجَّج نيرانَها مُروِّجُون عُنصِريون في قلب الخرطوم، لا زال بعضهم بين ظهرانينا. هذا بخلاف انشطار السودان الى قطرين ونزوح الملايين في الجنوب والشرق والغرب أيضاً، نزوحاً داخلياً وخارحياً. إلا يكفي كل هذا كرادع لمن يجيشون الجيوش الآن ويعدُّون الدُّروع هنا وهناك مهددين للأمن المجتمعي وناشرين لأجواء من الفوضى والقلق والشعور بعدم الأمان. أما آن لهؤلاء أن يَرعَووا ويعوا إنهم يلعبون بالنار وبمصير كل الأمّة السودانية. ففعلهم هذا خرقٌ بيّن ل (القانون الأساسي) للدولة لما فيه من نيّة مبيتة للتخريب وزعزعة الأمن المجتمعي؛ وسيلاحقهم (القانون الأساسي) ولو بعد حين. فلا دولة بدون سلام مُستدام يَحرص عليه الجميع ويحرسونه بالغالي والنفيس.
أدب الخِلاف السياسي
الخلاف في الشأن السياسي ليس بدعة، بل هو من طبيعته، وظاهرة صحية لكونها تضع صاحب الرأي الفائز تحت المجهر؛ طالما أن المعارضة تراقبه وتقيّم أداءه بل وتحاسبه سياسياً وقانونياً إذا لزم الأمر. ولكي يكون الخلاف السياسي منتجاُ يلزمه التقيد بأدب الخلاف الذي يشمل الاستقامة والصدق وحُسن النيّة واحترام الأسس الديمقراطية. وما نراه الآن ونسمع عنه من عنتريات وتهديدات هنا وهناك للأمن المجتمعي كلها دليل جهلٍ فاضح بأدب الخلاف، يسوق أصحابه الى التعدي على (القانون الأساسي) وتلك جريرة كُبرى لمن يعقلون .ختاماً الشكر لكل من وجد وقتاً للقراءة أو التعليق. فقد جاءت تعليقاتكم بالكثير المفيد وربما عدت إليها في مقال منفصل عن هذه الحلقات التي لا أريدُ لها أن تتعدى العّشْر. وقديما قالوا: “خَيرُ الكلامِ ما قَلّ ودَلَّ.
-النهاية_
‐————————————————–