الرأي

الداخل الحي – الخارج الميت

((الله أكبر))
بذلك الخوف الأبي تجاه الموت، ترتجف الأصوات مرددة التكبيرة الأولى في صلاة الجنازة. مساء حزين، ريح متكاسلة تلامس شواهد القبور، مكثفة ذلك الخوف الأبدي الميتافيزيقي، قلوب واجفة، نباح كلاب بعيد، نجوم تحاول أن تخترق شبكة الغبار التي تحاصر الأفق، فتبدو النجوم شفيفة وشاحبة شحوب هذه اللحظة التي تحول فيها ذلك الضحوك الساخر إلى معنى غريب للغياب.
صوت الثاكلات لا يملك إلا الاستمرار، متخذاً مختلف النبرات رغم هذا الاختلاف المتباين في الأصوات، إلا إن أنين (بثينة) شقيقة بابكر الصغرى كان أنيناً متواصلاً ومتأهلاً بذلك الحزن الفاضح، وتلك الحسرة التي يبدو أنها لا تنتهي. لم تستطع والدته حاجة (التاية) أن تحتمل هذا الغياب المفاجئ لابنها، فنفت وعيها بعيداً وفقدت حتى تلك القدرة التي يتميز بها الهذيان. غابت الحاجة (تاية) عن وعيها في اللحظة التي عرفت أن ابنها (بابكر) قد ذهب هناك، إلى حيث اللاعودة.
((الله اكبر))
وقف (عصمت) خارج ذهنه تماماً، وقف من ضمن المصلين في الصف الثالث. كان يتجول بعيداً، هناك حيث تحتفظ الذاكرة بتفاصيل صديقه (بابكر)، لا يملك حتى إمكانية أن يردد مع المرددين، يتصبب منه العرق، وتصب في دواخله أنهار من اللوعة والحزن، وتتبعثر حيويته أمام غموض التساؤلات والحيرة تجاه تلك الحقائق المطلقة التي يقذف بها الموت في وجه الحياة وعنفوانها.
تشرخ أصوات الثاكلات خواطره المتعبة، يحدق هناك في فراغ لا نهائي، ينسى تماماً أن يشارك بصوته الذي انسحب إلى الداخل. شواهد القبور أمام عينيه، يهرب منها متعلقاً بغبار الأفق، ينظر بلا معنى نحو أضواء المدينة البعيدة. يحتل جسده ارتجاف غامض ومخيف، تضيع منه حروف الكلمات فيتحرك في منطقة ذهنية خالية من التفكير المرتب، يهذي هناك حيث تختفي قيود المنطق، حيث لا يمكن أن يتصور أحد، لا أحد يملك حق أن تكون هناك تفسيرات، عذاب مثقل يجثم على العقل ويخربش بأنياب حادة في الأنسجة التي تحرض على الحياة.
تخلت تلك الريح عن كسلها، واختفت النجوم خلف مظلة كثيفة من الغبار الهائج، أكياس النايلون تتطاير وتلوذ بتلك الأشجار الشوكية المتناثرة بين القبور، الطيور التي ألفت المكان استلفت أصواتها ذلك النواح المحتج على ما يحدث. نباح الكلاب البعيد يتزايد، الريح تحكمت في تلوين أصوات الثاكلات، وكأن الريح قد حرضتها على الصراخ المؤلم، ضجة تلك الأصوات المتباينة كانت لا تعني شيئاً أمام صراخ الدواخل العنيفة. من بين دموعه كان (عصمت) يحاول أن يلجأ إلى ذاكرته منزوياً في الأقاصي البعيدة للخواطر. نقاء الدموع تلوث بغبار حرقته الرافضة تماماً لفكرة غياب (بابكر) الأزلي، يراه هناك متجولاً بحيويته الأليفة في كافتيريا الجامعة، يملأ المكان بضحكاته وصرخاته ذات الألفة الحميمة، يرى بابكر وقد اقترب منه هامساً: ((عصمت تعال تابع معاي المشهد)).
دائماً ما كان (بابكر) يحاول أن يحول التفاصيل إلى مغزى عميق، كان صاحب لسان لاذع، عقلية نقدية حادة تجاه كل الأمور، صريحاً وفاضحاً، يدخل مباشرة إلى حيث يكمن جوهر الموضوع.
((في شنو يا بابكر؟))
((بقول ليك تعال معاي))
((جداً، بس أوعى يكون مقلب))
((مقلب شنو؟ بقول لك تعال))
تحركا نحو تلك المنضدة التي اختارها كموقع للمراقبة، أشار لـ (عصمت) بطرف خفي نحو المنضدة المقابلة لهما، انتبه (عصمت) لطالب وطالبة كانا يتناجيان
(بابكر) في أذن (عصمت):
((عصمت، تابع حركة عيونها))
وأضاف بعربية رصينة، قائلاً: ((إنها تنطق بالهوى))
كانت الفتاة تتحدث وكأنها تغني، يكفي أن تنظر في عينيها لتعرف ماذا تقول، تتحرك فيها العيون بالمعني الواضح والخفي من خلال غلاله شفافة من الإيحاء الأنثوي الذي قرر أن يجتذب بتعقيدية انفعالات الذكر التي لا تجيد فن الإخفاء.
((لاحظ لون اليد وقارنه بلون الوش، من فوق مصرية ومن تحت زنجية))
العيون استسلام كان يوافق على كل شيء، لا يعترض أبداً. تثرثر الفتاة ويضحك (بابكر) بحشرجة خفيفة، ويقول:
((بلاهي شوف الأنتيكة ده مستحمل البراية دي كيف؟)).
نهض الشاب، تلك الفتاة لم تتوقف، التفتت خلفها وواصلت ثرثرتها مع شاب آخر كان يقف هناك. عاد الشاب يحمل معه قرطاسين من التسالي، جلس في مكانه وتدفقت تلك الثرثرة نحوه، أعطى الشاب قرطاسي التسالي للفتاة. (بابكر) يهمس: ((لاحظت يا عصمت بعد الأناقة دي كلها اشترى ليها تسالي، تسالي يا غالي)) استلمت الفتاة التسالي، وسرعان ما بدأت فرقعة خفيفة تتخلل حديثها المتصل والشاب يسمع فقط، ويوافق على كل شيء. أخرج الشاب منديلاً من جيبه، مسح به على جبينه، أرجع المنديل ومد يده نحو الفتاة كي تعطيه ما تيسر من التسالي، وهنا دخل (بابكر) في جوهر الموضوع، ودون أي مقدمات صرخ في وجه الشاب قائلاً:
((ليه ياخي؟ ليه؟ ما أنت اشتريت قرطاسين ما تشيل واحد وتديها واحد، ليه تديها الاثنين؟ وبعد داك تمد يدك وتقول ليها أديني؟ ما معقول. أسمح لي أقول ليك: يا شاب إنت من النوع البعدين هيسلم ماهيتو كلها))
ضحك (عصمت) من خلال دموعه التي هربت من العيون، واختارت أن تتقاطر في الدواخل. كاد أن يضحك بصوت عال، لكنه انتبه إلى الأصوات الجماعية التي هدرت بالتكبير.
((الله أكبر))
يهرب سريعاً من كل ما يوقظ هذا الواقع، يرى بين تجاويف الذاكرة مدرج الفلسفة حين جاء ذلك الأستاذ. كان الأستاذ مولعاً بمناهج التفكيك، بكل الطموح الفلسفي، كان يحاول دائماً إثارة الأسئلة، الأسئلة الغريبة، مداخله إلى المحاضرة كانت دائماً تتسم بالغرابة التي تثير من النقاشات ما يكفي لتأكيد مبدأ الغموض الذي يقود إلى الكشف. دخل ذلك الأستاذ إلى المدرج حمل قطعة طباشير واتجه نحو السبورة، وضع نقطة بيضاء في الوسط تماماً من السبورة، التفت نحو الطلبة قائلاً: ((شايفين النقطة دي؟ عايز واحد يتكلم عنها من وجهة نظره بس. النقطة دي بتعني ليهو شنو؟))
ترتعد أوصال (عصمت) وترتجف لهدير الأصوات التي تعيده قسراً إلى واقع اللحظة الميتة، يصر على ذاكرته. يرى فيما يرى الأستاذ يبحث بتلك النقطة البيضاء على سواد السبورة عن متحدث جريء. تداخلت أصوات الطلاب في شكل همهمات مبهمة، يأتي صوت الأستاذ مصراً على أمر النقطة: ((يا شباب النقطة دي بتعني ليكم شنو؟ بدون تعقيدات أنا عايز الانطباع الأول، ما في زول عايز يتكلم؟))
بابكر يفرقع أصابعه.
((ايوة أتفضل))
((ضروري يا أستاذ نتكلم عن النقطة دي؟))
((بالضرورة))
((ممكن طلب بسيط؟))
((جداً أتفضل))
((لو سمحت يا أستاذ النقطة دي ممكن تقلبا لينا بالجهة التانية؟))
انفجر المدرج بالضحك، وضحك (عصمت) ضحكة معلنة تنتمي إلى الداخل الحي، لوثت ضحكته هذا الخارج الميت. ضحك بصوت عال، اهتز الصف الثالث في صلاة الجنازة، امتد الضحك، انكسر وقار الموت المهيب، ابتذلت صفات الموت النبيلة. امتدت ضحكة (عصمت) مجلجلة، طغت على صوت الريح والثاكلات، توقفت تفاصيل صلاة الجنازة، فقدت صفوف المصلين ذلك الانتظام المهيب، تبعثر المصلون، أمسك بعضهم بتلابيب (عصمت)، لكنهم لم يمسكوا ضحكته التي أخذت تعلو وتعلو.
انفلت (عصمت)، هرول نحو جنازة (بابكر)، تسبقه ضحكته الناشرة والمعلنة رفضها للأمر. هرول (عصمت) نحو عنقريب الجنازة، وبغتة وبدون أن يتوقع أحد أمسك (عصمت) بالعنقريب وقلبه لتسقط جنازة (بابكر) على الأرض. تدحرجت الجنازة على الأرض، وبكل ضحكته وقع (عصمت) عليها، كان يضحك ويبحث عن (بابكر) من خلال كتلة البياض التي تحيطه وتكفنه. هز (عصمت) جسد (بابكر) الميت، يبحث فيه عن تلك الحياة ويضحك ويضحك ويضحك، كانت ضحكته قد اختلطت بأصوات نحيب رجالية عميقة. خلص بعض الحاضرين (عصمت) وضحكته المستمرة من جنازة (بابكر) بمشقة عظيمة، حمل (عصمت) إلى البيت بعد أن امتدت ضحكته إلى كل البيوت والدروب والشوارع، ولوثت أثير الليل بالحسرة والحزن والمعنى العميق الذي يكمن في تضادها المعلن.
وفي ظهيرة ذلك اليوم، عاد (بابكر) من الجامعة مرهقاً، تغدى ونام، لم يستيقظ بعدها أبداً. هكذا ببساطة انسحب ذلك الضاحك الساخر من الحياة دون أي مقدمات، تاركاً ذلك الغياب القاسي يعذب الجميع.
تم الاعتناء بحالة (عصمت) التي رفضت موت (بابكر) بتلك الضحكة المجلجلة بين القبور، تم حقنه بحقنة مهدئة في تلك الليلة المغبرة بالموت.
في الأيام التالية لذلك الحادث، لاذ (عصمت) بصمت مطلق، كانت نظراته فارغة، كانت لا ترى ملامح الخارج، لا تهتم مطلقاً بذلك. كانت عيونه ترى هناك، تتجول في الدواخل العميقة وتجتر حياة (بابكر) رافضة نفيه في الموت. كان (عصمت) في صمته يتحدث مع (بابكر)، يتجادلان في الفلسفة والجماليات ويلونان أحلام اليقظة بالضحكات، وتمادت هذه الذاكرة حتى تجسدت فيها الحياة بعمق، وتحولت إلى صور حية لا يراها أو يعايشها سوى (عصمت). لذلك صمت (عصمت) لتضج منه الدواخل، ارتاحت الأسرة والأصدقاء لهذا الصمت واطمأنوا أن حالته تسير إلى الأحسن، وكان الخوف من أن تعاوده تلك الضحكة قد زال تماماً.
صباح جمعة، خرج (عصمت) من المنزل، وصل سوق الرواكيب، اشترى طماطم وبصلاً ودكوة وجرجيراً وعجوراً وشطة، وكميات من الخبز، وربع رطل زيت سمسم. حمل كل ذلك في كيس واتجه إلى منزل ( بابكر)، حيث إنهما يسكنان في حي واحد. وصل منزل (بابكر)، طرق الباب، جاءته (بثينة) شقيقة (بابكر) شاحبة وحزينة. دخل المنزل لم يلاحظ الكآبة التي تسيطر على جميع من في المنزل، بل إن قدومه قد كثف من الحزن ما يكفي. جلس على بنبر بحميمة عالية ومألوفة أمام حاجة (التاية) التي كانت تحدق في فراغ لا نهائي، ناول عصمت كيس الخضار إلى حاجة (التاية) قائلاً:
((ظبطي لينا السلطة دي يمة، بابكر وين؟ في الحمام ولا شنو؟!))..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى