الحل النهائي أو انتقام الخالدين…جان بودريار ترجمة : د. جلال بدلة
الفصل الثاني من كتاب التبادل المستحيل، تأليف جان بودريار، ترجمة: د. جلال بدلة، معابر للنشر، 2013.
هذا الحل النهائي هو في الحقيقة استيهامنا phantasme الدفين، واستيهام عِلمنا أيضًا. استيهام الخلود عبر الحفظ بالتبريد أو التجميد العميق، أو النسخ والاستنساخ بجميع أشكالهما.
المثل الأكثر تصويرًا لهذا هو طبعًا والت ديزني داخل نعشه المصنوع من النتروجين السائل. لكنه على الأقل وُعِدَ بالانبعاث بأكمله، كونه كان محفوظًا بالتبريد بشكل كامل. تظهر اليوم متغيرات أخرى وهي أيضًا أوهام تجريبية. هكذا في فونيكس Phoenix، أريزونا Arizona – مكان مخصص للانبعاث (من الرماد) – لم نعد نجمِّد إلا الرؤوس من دون الأبدان، على اعتبار أننا انطلاقًا من الدماغ – نواة الوجود الفردي – نأمل انبعاث هذا الكائن برمته. من جهة أخرى، وعلى طرفٍ نقيض من هذه الكائنات ذات الرأس، نستنسخ داخل مخابر ما وراء الأطلسي فئران وضفادع لا رأس لها، بانتظار استنساخ بشر بلا رؤوس ليقوموا بوظيفة مخزون من الأعضاء للتبديل. كونُ الرأس مكانًا محل الوعي، من الأفضل تصنيع مخلوقات بلا رأس بغاية استخدام أعضائهم بحرية من دون المزيد من المشكلات الأخلاقية والنفسية.
هذه هي بعض أشكال الاستنساخ التجريبي. لكن الاستنساخ ذاته، أي الخلود الآلي، هو أيضًا في الطبيعة، فهو قائم داخل خلايانا.
هذه الخلايا مهيأة طبيعيًا للانقسام لمرات محددة، ومن ثم الموت. إن حدث وتدخل تشويش ما في أثناء هذا الانقسام (تغيير في طبيعة المورثة السرطانية المضادة أو تغير في آلية موت الخلايا)، تصبح الخلية بالنتيجة سرطانية: تنسى الموت، تنسى كيف تموت. فتستنسخ ذاتها بمليارات من النسخ المطابقة لتشكل ورمًا سرطانيًا. عادةً ما يموت الحامل نتيجة لذلك، وتموت الخلايا المتسرطنة معه. لكن في حالة هنريتا لاكس Henrietta Lacks، أُخذت منها في حياتها خلايا سرطانية وزرعت في المختبر واستمرت بالتكاثر بلا نهاية. ولأن هذه الخلايا كانت تشكل عينة تكاثرية ومميزة، صُدِّرت إلى كافة أرجاء العالم، وحتى إلى الفضاء على متن الرحلة 17 للمكوك ديسكفري. هكذا يتابع الجسد المبعثر لـ هنريتا لاكس، المستنسخ على المستوى الجزيئي، دورته الأبدية بعد سنوات عديدة من موتها.
شيء ما يختبئ داخلنا: الموت. لكن شيئًا آخر يترصدنا داخل كل واحدة من خلايانا: نسيان الموت. ذاك هو الخلود الذي يترصدنا. نتحدث دومًا عن صراع الأحياء ضد الموت، وليس عن الخطر المعاكس. غير أننا علينا القتال ضد استحالة الموت. فأيُّ تقاعس من الكائنات الحية في صراعها من أجل الموت، ومن أجل الانقسام والجنس والتغاير، يجعلها غير قابلة للانقسام من جديد ومتطابقة مع ذاتها، وبالتالي خالدة.
خلافًا لما هو معروف، خَلقت الطبيعةُ أولاً كائنات خالدة، ولم نصبح كائنات حية إلا من أجل الظفر بالموت عنوةً. نحلم بتجاوز الموت بشكل أعمى في الخلود، غير أن الخلود هو مصيرنا الأكثر تهلكة، إنه مسجل في الحياة السابقة لخلايانا واليوم نعيد العلاقة معه من خلال الاستنساخ. (إنَّ دافع الموت، وفق فرويد، ليس إلا هذا الحنين إلى الحالة غير المتعينة جنسيًا وفرديًا حيث كنَّا قبل أن نصبح فانين وغير مستمرين – الموت الحقيقي، ليس هو الزوال الفيزيائي للموجود الفردي، بمقدار ما هو التراجع نحو حالة دنيا للكائن الحي غير المتمايز).
إن منحى التطور في المجال العضوي يتجه من الكائنات الخالدة إلى الكائنات الفانية. فمن الاستمرارية المطلقة إلى انقسام الذات – الكائنات وحيدة الخلايا – نقترب شيئًا فشيئًا من الولادة ومن الموت. ومن ثم تُخصَّب البيضة عبر بذرة، والخلايا البذرية تتخصص: الكائن الصادر عنها لن يكون لا هذا ولا ذاك ممن أنتجها، وإنما تركيب فريد. ننتقل من التكاثر البسيط إلى التوالد. سيموت الأولَيْن للمرة الأولى، وسيولد الثالث للمرة الأولى: نقف هنا أمام طور الكائنات الفانية، المتعينة جنسيًا والمتمايزة. والنظامُ السابق للفيروسات، للكائنات الخالدة، سيدوم، لكن من الآن فصاعدًا، سيندرج عالم الكائنات الأبدية هذا في داخل عالم الكائنات الفانية. وسيكون الفوز ضمن هذا التطور من مصلحة الكائنات الفانية اللامستمرة: الفوز لنا نحن.
لكن الأمر لم ينتهِ، وإمكان الارتداد مازال قائمًا، ليس من خلال التمرد الفيروسي للخلايا فحسب، ولكن من خلال مشروعنا الهائل الراهن، مشروعِ الكائنات الحية ذاتها، وذلك بأن تعيد بناء عالم متجانس ومتصل، اتصالية مصطنعة هذه المرة، نقوم فيها، من خلال أوساطنا التقنية والآلاتية ونظام تواصلنا ومعلوماتنا الواسع، ببناء نسخةٍ كاملة مطابقة لعالمنا، أي، مقابلٍ افتراضي للعالم يفتح الطريق نحو عملية تكرارية لا نهاية لها.
ما نقوم به هو إعادة إنتاج هذا الخلود المرضي الخاص بالخلية السرطانية، ونسخه على مستوى الفرد والنوع.
هذا هو انتقام الكائنات الخالدة وغير المتمايزة من الكائنات الفانية والمتعينة جنسيًا. هذا هو ما يمكننا تسميته الحل النهائي.
بعد هذه الثورة الكبيرة للتطور، المتمثلة بالجنس والموت، ها هو التقهقر الكبير آتٍ، ويهدف، عبر الاستنساخ وتقنيات متنوعة أخرى، إلى تحريرنا من الجنس والموت. ففي حين بَذل الكائن الحي قصارى جهده على طول ملايين السنين لاقتلاع الذات من ذاتها، للانفصال عن ما يشبه زنى المحارم هذا والوضع البدائي، نقوم الآن، من خلال الخطوات التقدمية للعلم ذاته، بإعادة خلق شروط ذاك الوضع من جديد، وبالعمل على التضليل المعلوماتي للنوع من خلال إلغاء الاختلافات.
هنا يُطرح السؤال عن مصير العلم. ألا تندرج خطواته التقدمية في منحنى (شاذ؟) للتطور قد يقودنا إلى تقهقر كلي؟ ألا يمكن هذا الحل النهائي الذي نعمل عليه بشكل غير واعٍ أن يكون الوجهة الخفية للطبيعة، وفي الوقت ذاته لكافة جهودنا؟ الأمر الذي يلقي ضوءًا غير منتظر هنا على كل ما نعتبره اليوم تطورًا إيجابيًا.
إن الثورة الجنسية الحقيقية والوحيدة هي ثورة حدوث الجنسانية داخل تطور الكائنات الحية. ثورةُ ثنائيةٍ أنهت اللاقسمة الأبدية، وأنهت أبدية الذات وانقسامها المستمر بلا نهاية. هي أيضًا بالتالي ثورة الموت. الحركة المعاكسة، حركتنا، هي حركة تقهقرية للنوع مقارنة بثورة الجنس والموت. حركة تراجعية ضخمة في تطور الكائن الحي.
الـ “التحرر الجنسي” وفق هذا المنظور مبهم تمامًا. فإن بدا وكأنه يندرج في المعنى ذاته للثورة الجنسية – أي تكريسًا لها – إلا أنه يتجلى في نتائجه مناقضًا تمامًا للثورة الجنسية ذاتها. الطور الأول هو طور الانفصال بين النشاط الجنسي والتوالد – الإجهاض، حبوب منع الحمل، الخ. الطور الثاني الأكثر وقعًا من حيث نتائجه هو الانفصال بين التكاثر والجنس. سابقًا، تحرر الجنس من التكاثر واليوم يتحرر التكاثر من الجنس. نحن أمام تكاثر تقني حيوي غير جنسي، من التلقيح الاصطناعي حتى الاستنساخ الكامل. هذا أيضًا شكل من أشكال التحرر، لكن وجهته تناقض وجهة التحرر الأولى. كنَّا محررين جنسيًا، ونحن الآن محررين من الجنس، أي إننا تخلصنا افتراضيًا من الوظيفة الجنسية. لدى المستنسخين، وقريبًا لدى البشر، ستصبح الجنسانية، بعد تحررها التام، وظيفة من دون فائدة. هكذا يسم التحرر الجنسي، القادم ليتوج تطور الكائنات الحية كما يقال، في نتائجه الأخيرة نهاية الثورة الجنسية. الإبهام ذاته بالنسبة للعلم، فالحسنات التي انتظرناها منه اختلطت بشكل مبهم مع نتائجه الضارة أو مع نتائجه المضادة.
والموت؟ لمَّا كان مرتبطًا بالجنس فيجب أن يلاقي المصير ذاته. هناك في الحقيقة تحرر من الموت يتزامن مع التحرر الجنسي. وبالطريقة نفسها، نحاول فصلَ الحياة عن الموت بغية الإبقاء على الحياة طبعًا، وجعلَ الموت وظيفة من دون فائدة بحيث نستغني عنها كما استغنينا عن الجنس في التكاثر. نعمل على نزع صفةِ الحدث المحتم عن الموت، صفةِ الحدث الرمزي، وعدم تضمينه إلا كواقع افتراضي، أي، كخيارٍ وتبدل في برنامج الكائن الحي. وذلك على غرار هذا الواقع الافتراضي للجنس، هذا الـجنس الافتراضي cybersexe الذي ينتظرنا مستقبلاً، بمثابة إغراء نوعًا ما. لأن جميع هذه الوظائف التي أصبحت من دون فائدة، الجنس والفكر والموت، لن تختفي ببساطة وبشكل كلي بل سيعاد إنتاجها كنشاطات للتسلية. والكائن الإنساني ذاته، الذي أصبح من دون فائدة منذ هذه اللحظة، سيكون بالإمكان الاحتفاظ به كإغراء أنطولوجي، عنصرٍ جديد لما سماه هيغل من قَبل “الحياة، المتحركة بذاتها، لما هو ميت”. وقد يصبح الموت، تلك الوظيفة الحيوية، ترفًا ولهوًا. ربما سيتمكن المستنسخون، في حضارة مستقبلية ألغت الموت، من دفع ثمن ترف الموت ليصبحوا من جديد فانين بالمحاكاة – موت افتراضي cyberdeath؟
اقترحت علينا الطبيعة شكلاً استباقيًا للاستنساخ على شكل التوأم والتوأمية – حالة مذهلة من مضاعفة الذات، من التناظر الأولي لا نستطيع الانفكاك منه إلا عبر شق، أي قطيعة مع التناظر. لكننا ربما لم نتخلص من التوأمية إطلاقًا، فمع الاستنساخ سيعود من جديد الذهول من حالة التوأم التي لم نستطع الانفصال عنها حقًا، كما سيعود الافتتان بشكلٍ من زنى المحارم القديم مع هذه النسخة الأصلية (فيما يخص النتائج المأساوية لهذا، شاهد فيلم Dead Ringers الذي أخرجه كرونينبرغ Kronenberg).
بقيت هذه التوأمية في أكثر الأحيان رمزية، لكنها عندما تتجسد تُصوِّر غموض هذا الانفصال المشترك القائم في سريرة كل واحد منا (حتى أن البعض زعم أنه اكتشف أثرها البيولوجي). هذا ما يفسر من دون شك الخاصية الإعجازية، البغيضة، للتوأمية في كافة الثقافات، وأيضًا على الجانب الآخر لهذه اللعنة، التأنيب الأبدي للفردية. ذلك أنه مع هذا الفصل “الأنطولوجي” للتوأم الصنو، يبدأ الكائن الفردي، وبالتالي أيضًا إمكانٌ لآخريةٍ ولعلاقةٍ ثنائية. نحن موجودات منفردة، وفخورون بذلك، لكن في مكان ما، داخل لاوعيٍ أكثر عمقًا حتى من اللاوعي النفسي، لم نتعاف من ذلك أبدًا.
ألا يوجد طيفٌ ما، حنينٌ لهذا الآخر، بل لكل هذه الكثرة من المتشابهين التي اقتُـلعنا منها في سياق التطور؟ ألا يوجد في ما يخص ذلك: تأنيب ضمير أبدي ناتج عن التفردية؟
في الحقيقة، يوجد ندمٌ مضاعف: ليس فقط ندم الانعتاق الفردي بالنسبة إلى النوع لكن، وبشكل أكثر عمقًا، ندم الكائنات الحية المتعينة جنسيًا بالنسبة إلى العالم اللاعضوي ولبيئته المحيطة. هكذا هو الأمر، يُعاش أي تحرر كشذوذ وخيانة، وبالتالي كمصدر لعُصاب لانهاية له يزداد خطورة بمقدار ابتعادنا عن الأصل. يصعب تحمل الحرية، ويصعب ربما تحمل الحياة ذاتها كقطيعة مع السلسلة اللاعضوية للمادة. إنه انتقام المادة، وانتقام النوع، وانتقام الكائنات الخالدة، كل ذلك الذي كنا نعتقد أننا انتصرنا عليه.
ألا يجب أن نرى في هذا الاستيهام الجماعي للعودة لوجود مشترك، لمصير الحي اللامتمايز، أن نرى في هذا الانسياق نحو خلود لامتمايز شكل الندامة ذاته للحي إزاء اللاحي – ندامة آتية من كنه العصور، لحالة انقضت، لكنها أصبحت من جديد، بفضل تقنياتنا وقدراتها، شكلاً قسريًا خفيًا؟
ألا يتعلق الأمر هنا بإنهاء المصادفة الوراثية للاختلافات، إنهاء تحولات الكائن الحي الطارئة؟ ألسنا متعبين من الجنس والاختلاف، ومن التحرر والثقافة؟ يقدِّم العالَم الاجتماعي وعالم الفرد أمثلة عن هذا العجز، هذه المقاومة والخلاص الحنيني من حالة معينة سابقة. نحن هنا أمام نوع من العودة إلى الوراء، عودةٍ صارخة عن تطور الحي والنوع الإنساني بشكل خاص – غير القادر على مجابهة تنوعه وتعقده، واختلافه الجذري، وغيريته.
لكن، هذا يمكن أيضًا أن يكون من قبيل المغامرة: الذهاب إلى أقصى ما يمكن نحو اصطناعية الحي من أجل رؤية من سينجو من هذا الاختبار الكبير. فإنْ تبين أنه لا يمكن استنساخ الكل، وبرمجته، والسيطرة عليه وراثيًا وعصبيًا، فإن ما سينجو يمكن القول عنه حقًا إنه “إنساني” – شكل للإنساني لا يمكن هدمه أو استلابه. بالطبع، يوجد في هذا الانحراف الاختباري خطر ألا يبقى أي شيء، خطرُ الانمحاء التام والكلي للمجال الإنساني.
هذه كانت تجربة المجال الحيوي 2 Biosphère II التي تقوم على التركيب الاصطناعي لجميع معطيات الكوكب عبر نَسْخٍ مثالي للنوع الإنساني ولبيئته المحيطة. بشكل مصغر، تُظهر تجربة المجال الحيوي 2 حقيقة أن النوع الإنساني، والكوكب بأكمله Biosphère I قد أصبحا واقعهما الافتراضي الخاص، وأنهما مسرح لقدر تجريبي لا رجعة منه تحت القبة الهائلة الفراغية للمعلومة. لكن هل مازلنا هنا أمام النوع الإنساني؟ هل يبقى النوع الذي يهدف إلى الخلود اصطناعيًا والتحول إلى معلومة محضة، إنسانيًا؟
لا يمتلك الإنسان أحكامًا مسبقة: ينظر إلى نفسه كحيوان مخبر، تمامًا كما ينظر إلى العالم من حوله، الحي أو الجامد. يلعب مرحًا بمصير نوعه الخاص، كما بمصير الآخرين كلهم. يبرمج، مدفوعًا بإرادته العمياء للمعرفة أكثر، هلاكه الخاص بالوقاحة والشراسة ذاتها التي لدى الآخرين. لا يمكننا اتهامه بالأنانية الفوقية. فهو يقوم بتكريس أنواعٍ أخرى لمصير تجريبي مجهول، أنواعٍ كانت حتى الآن منذورة لمصير طبيعي. وبينما يرتبط هذا المصير الطبيعي بشيء كغريزة البقاء، يُلغي هذا المصيرُ التجريبي الحديثُ كل فكرة من هذا القبيل. وهذه علامة على وجود نزوع آخر نحو التضحية بالنوع الإنساني في تجربة لا حدود لها، نزوعٍ كامنٍ وراء الهوس الايكولوجي بالحماية والبقاء الذي يعود بالأحرى إلى الحنين والندامة.
نحن هنا أمام صيرورة ثنائية ومتناقضة: الإنسان هو الوحيد من بين الأنواع الذي يهدف إلى بناء نسخة خالدة عنه، متمِّمًا بذلك الانتخاب الطبيعي عبر انتخاب اصطناعي يعهد إليه بأفضلية مطلقة. لكن في الوقت ذاته، يُنهي الانتخابَ الطبيعي الذي كان يتضمن موت كل نوع وفق قانون التطور – بما في ذلك موته الخاص. هو يعارض بالتالي القاعدة الرمزية، ومن خلال عجرفته في إنهاء التطور، يضع حجر الأساس في تقهقر نوعه الذي هو في طريقه لفقدان نوعيته ومناعته الطبيعية. إلا أن موت الأنواع الاصطناعية يحدث بسرعة أكبر من موت الأنواع الطبيعية، ولهذا فإن النوع الإنساني، عبر طرق الاصطناعي، يتجه ربما بسرعة أكبر نحو نهايته.
كل هذا يأتي من حقيقة غريبة جدًا: يبدو أن لدى النوع الإنساني صعوبة في التصالح مع ذاته. إذ بموازاة الأفعال العنفية التي يمارسها على الآخرين يرتكب في حق نفسه عنفًا خاصًا، وبعد ذلك يُعامل نفسه كأنه الناجي من كارثة آتية. كما لو أنه، رغم كونه مقتنعًا بتفوقه، يكفِّر عن ذنبه في تطورٍ قادهُ إلى أفضلية كهذه، ونوعًا ما، إلى ما وراء نهايته بما هو نوع. إنه الظرف نفسه الذي يتحدث عنه كانيتي في تجاوز عتبة التاريخ، لكن الأمر يتعلق هنا بتجاوز عتبة النوع – إذًا بشيء أكثر أساسية – تجاوز لنقطة لا يتبقى شيء بعدها إنساني أو لاإنساني (عند كانيتي، النقطة التي لا يتبقى بعدها شيء صحيحًا أو خاطئًا)، والرهان لم يعد ترنُّحَ التاريخ في مقولة “ما بعد التاريخ” فحسب، إنما ترنح النوع في الفراغ.
هل يمكن النوع الإنساني أن يلاقي، عبر انحراف غير منتظر، قانون الأنواع الحيوانية التي تتوجه آليًا عندما تصل إلى حدِّ الإشباع نحو شكل من الانتحار الجماعي؟
يمكن قراءة لاإنسانية هذا المشروع في إلغاء كل ما هو إنساني ومفرط في الإنسانية في داخلنا: رغباتنا وعيوبنا، حالاتنا العصابية وأحلامنا، إعاقاتنا وفيروساتنا، جنوننا ولاوعينا، وحتى جنسانيتنا – هناك تقادم في كل الصفات التي تجعل منا كائنات حية نوعية. إن هاجس كل معالجة وراثية هو الوصول إلى نموذج مثالي عبر إلغاء جميع الصفات السلبية. هكذا، في المجال الحيوي 2 – النموذج التجريبي المبدئي – لا وجود لفيروسات أو جراثيم، لعقارب أو لتكاثر جنسي. كل شيء مطهَّر، وذو مناعة، ومخلَّد بشفافية، ومتحرر من حاجات الجسد، ومطهَّر من الجراثيم، وحصينٌ صحيًا.
يجري ابتلاع الحي في الناجي survivant عبر الاختزال المتزايد إلى القاسم المشترك الأصغر، إلى الصيغة الوراثية ومجموعة الخصائص الوراثية حيث لا مكان إلا للحركة الأبدية للرمز، حيث تنمحي العلامات المميزة للإنساني أمام الأبدية المجازية للخلايا. الأسوأ من هذا هو أن الأحياء المتولدة وفق صيغتها الخاصة لن تنجوا بالتأكيد. ما يحيا عبر الصيغة يهلك عبر الصيغة.
وإذًا، الحدودُ بين الإنساني واللإنساني في طريقها إلى الانمحاء، لكنْ ليس باتجاه الإنسان الأعلى وتحول القيم، وإنما باتجاه الإنسان الأدنى إلى ما هو دون الإنسان، بل حتى نحو اختفاء الخصائص المميزة للنوع. وهذا ما قد يعطي في النهاية الحق لـ نيتشه الذي قال بأنه إذا ما تُرك مصير الإنسان لذاته، فلن يعمل إلا على تكرار ذاته أو تدميرها.
إن الإنسانوية الأصلية، أي إنسانوية عصر الأنوار، تقوم على مزايا الإنسان، وعلى فضائله ومواهبه الطبيعية، وعلى ماهيته المركَّبة من الحق في الحرية وفي ممارسة الحرية. الإنسانوية الراهنة، في اتساعها، ترتبط أكثر فأكثر ببقاء الموجود العضوي والنوع. لم يعد الوجود الأخلاقي والسامي هو الذي يبرر حقوق الإنسان، بمقدار ما يبررها امتيازات نوع ما مهدد. هكذا، تصبح حقوق الإنسان إشكالية، ذلك أنها تطرح مسألة حقوق الأنواع الأخرى، والأعراق الأخرى، والطبيعة، والتي يجب عليها أن تتحدد إزاءها. لكن، هل يوجد تحديد للإنساني بمصطلحات وراثية؟ وإن وِجِدَ، هل يمكن أن يوجد حق يمارسه النوع على صيغته الوراثية الخاصة، وعلى تحوله الوراثي المحتمل؟ نتقاسم نحن البشر 98% من مورثاتنا مع القردة، و90% مع الفئران. أي حق يعود إلى القردة والفئران بموجب مجموعة الخصائص الوراثية المشتركة هذه؟ من جهة أخرى، يبدو أن 90% من صيغتنا الوراثية غير مفيدة. أي حقٍ لهذه المورثات بالوجود؟ إنها مسألة عويصة. والمشكلة نفسها بالنسبة لأي جزء من الإنسانية ذاتها: منذ اللحظة التي لم يعد يتحدد فيها الإنسان انطلاقًا من الحرية ومن التعالي، وإنما انطلاقًا من مصطلحات الوظيفة والتوازن البيولوجي، تنمحي النوعية الخاصة بالإنسان، وبما هو إنساني. في ما مضى، رأت الإنسانوية الغربية أنها مهددة بانبثاق الثقافات الأخرى. لكن العقبة التي يجب تذليلها حاليًا لم تعد عقبة الثقافة، وإنما النوع: اختلال أنثروبولوجي متزامن مع اختلال جميع الضوابط الأخلاقية والقانونية والرمزية الخاصة بالإنسانوية. أما زال بإمكاننا الحديث عن النفس والوعي، أما زال بإمكاننا الحديث عن اللاوعي، ضمن منظور الإنسان الآلي والمستنسخين والكائنات الخرافية التي ستأخذ مكان النوع الإنساني؟ ليس الأصل الفردي فحسب، بل أيضًا الأصل الخاص بالشجرة الوراثية الخاصة بالنوع، مهددة عبر هذا التبخر لحدود الإنساني – تبخر ليس حتى ضمن المجال اللاإنساني، وإنما ضمن شيءٍ ما تحت الإنساني واللاإنساني، أي، ضمن المحاكاة الوراثية للكائن الحي.
انفسخت الثنائية المتبادلة بين الإنساني واللاإنساني، انفسخ توازنهما. لا شك في أن الزوال المحتمل للمجال الإنساني مسألة خطرة، لكن زوال المجال اللاإنساني له الخطورة ذاتها. إن الخاصية النوعية لكل ما ليس إنساني، ولكل ما هو غير إنساني في الإنسان، مُهددة لمصلحة تجانسٍ للإنساني ضمن تحديده الأكثر حداثة والأكثر عقلانية. ففي كل مكان نرى إرادة لإلحاق الطبيعة والحيوانات والأنواع والثقافات الأخرى بجهة اختصاصية عالمية، فالكل مدعو ليأخذ مكانه داخل أنثروبولوجيا تطورية وتجانسية – هذا هو الانتصار الحقيقي لفكرٍ واحد لإنسانية، في تحديدها الغربي طبعًا، متذرعة بمقولات العالمية والخير والديمقراطية.
تشكل حقوق الإنسان اليوم محركًا لهذا الفكر المتمركز حول الإنسان وسلطة الإنسان، فكرٍ يتكاثر خلفه الإنساني واللاإنساني في تناقض صوري تام. الأمر الذي يسبب، في الحركة ذاتها، انتكاسًا لحقوق الإنسان وتفاقمًا لانتهاك حقوق الإنسان.
لا تعرف الثقافات الأخرى هذا التمييز بين الإنساني واللاإنساني. نحن من اخترعه، ونسير في طريقنا لمحوه، ليس عبر تركيبٍ أعلى، وإنما عبر الانتقاص منه داخل تجريد تقني غير متمايز وفق المنظور ذاته لحلٍ نهائي يبعث على الغثيان.
قد يقول معترض إنه أيًا يكن المصير الوراثي للمستنسخ فلن يكون مطابقًا تمامًا للأصلي على الإطلاق (هذا مؤكد، على اعتبار أن الأصلي سيكون موجودًا قبله). لا شيء يدعو إذًا للخوف من الاستنساخ البيولوجي لأن الثقافة، على أية حال، هي التي تقيم الاختلاف بيننا. يكون الخلاص في المكتسَب والثقافة فهما وحدهما من ينقذنا من جحيم الذات. لكن الأمر هو العكس تمامًا. فالثقافة هي من يستنسخنا، والاستنساخ الذهني يسبق بأشواط الاستنساخ البيولوجي. والمكتسب اليوم هو الذي يستنسخنا ثقافيًا بذريعة الفكر الواحد. الاختلافات الفطرية تنمحي بشكل أكثر تأكيدًا عبر الأفكار، وطريقة العيش، والوسط والسياق الثقافي. تصبح الموجودات نُسخًا مطابقة لبعضها بعضًا عبر نظام المدارس، ووسائل الإعلام، والثقافة، والكم الهائل من المعلومات. وهذا الاستنساخ الفعلي، أي، الاستنساخ الاجتماعي والاستنساخ الصناعي للبشر وللأشياء، هو الذي يخلق الفكر البيولوجي للصيغة الوراثية وللاستنساخ الوراثي الذي لا يقوم إلا بمعاقبة الاستنساخ الذهني والسلوكي.
هذا الأمر يغير كافة الاعتبارات حول الحدود الواجبة وحقوق الفرد أمام التجريب العلمي والتقني. كل ما يشكل اليوم حديث اللجان الأخلاقية ولجان الضمير الجمعي، كل هذا التأمل لا معنى له (أو معناه شبه أخلاقي وشبه فلسفي)، على اعتبار أن ثقافة الاختلاف خاصتنا هي ذاتها التي تعمل بشكل أكثر فاعلية في اتجاه اللاتمايز، باتجاه الإنسان المستنسخ Human Xerox والفكر ذي البعد الواحد.
بالمقابل، يمكن قضية المستنسخين هذه أن تنعطف بشكل مفاجئ. المستنسخ يمكن أن يبدو كنسخة هزلية للأصلي، نسخته التهكمية والمضحكة. نستطيع انطلاقًا من هنا تخيل جميع أنواع الحالات التي قد تقلب تكويننا النفسي “الأوديبي” رأسًا على عقب. هكذا هو المستنسخ المقبل الذي سيلغي والده لا لينام مع أمه – فهذا مستحيل من الآن فصاعدًا، باعتبار أنه لم يعد هناك إلا خلية أم واحدة، وأن الأب يمكن كثيرًا أن يكون امرأة – بل لكي يجد وضعًا قانونيًا كأصل. أو على العكس، الأصلي الذي فقد قيمته من خلال نسخته ينتقم من مستنسخه. لن تكون كافة أشكال الصراع التي بين الأولاد والأهل بل بين الأصلي ونسخته، حتى أننا نستطيع تخيل وظيفة للمستنسخ (بالتعارض مع كل الوظائف التي عهدناها إليه اليوم، والتي تتجه نحو معنى أزلية الحياة): وظيفة إرضاء غريزة الموت والتدمير الذاتي. نستطيع هكذا أن نلغي مستنسخنا الخاص ونهدم ذاتنا من دون خطرِ موت حقيقي: أن ننتحر بالوكالة. لكن العلماء البيولوجيين والأخلاقيين لا يهتمون بذلك. لا يهتمون بالوصول إلى تصور دافعِ الموت كمعطى أساس بمقدار دافع الخلود، فكلاهما مهمان بشكل متزامن في الاستنساخ، الأمر الذي لا يجعل الموضوع بسيطًا.
إحدى فوائد هذا المشروع، بصفة أعم، هي أنها كشفت لنا ما كان كل فيلسوف جذري قليلاً يعرفه: أي، لا وجود لأخلاق تتناقض مع هذه الرغبة اللاأخلاقية، مع رغبة الخلود اللاأخلاقية هذه. لا وجود لقوانين طبيعية ولا لقانون أخلاقي يمكن أن ينبثق عنها. كل ذلك هو رؤية مثالية سيطرت على العلم ذاته. ولا وجود بالتالي لحقوق طبيعية ولا لممنوعات يمكنها أن تتأسس على حد فاصل بين الخير والشر. ذلك لأن الرهان ليس أخلاقيًا بل هو رهانٌ رمزي. يوجد قاعدة للعبة الحي شكلها خفي وغايتها مجهولة. الحياة لا “تساوي” شيئًا، حتى لو كانت الحياة الإنسانية التي تبدو ثمينة، ليس لكونها ذات قيمة، وإنما كشكل – شكل مفرط وغير أخلاقي غير قابل للمبادلة بحياة أخرى أو قيمة ما أيًا كانت. النوع الإنساني ذاته لا يمكن مبادلته بنوع آخر اصطناعي، حتى وإن كان هذا الأخير يفوقه قيمة وأداءً.
إذًا، ليس المهم إقامة تناقض بين لاأخلاقية الاستنساخ المزعومة من ناحية، وبين “أخلاق للاختلاف” وأخلاق عملية إنسانوية للقيمة من ناحية أخرى، بل المهم إقامة لاأخلاقية عالية للأشكال – ليس مجرد تصور مجرد للحق، وإنما مطلب حيوي يكون أيضًا مطلب الفكر، لأن الفكر، هو أيضًا، شكل لا يمكن مبادلته بغائية موضوعية معينة أيًا كانت، أو بنسخته الاصطناعية. ولهذا السبب وحده يمكن أن يحمينا الفكر.
هكذا، نحن أولاً أمام مملكة الموجودات الخالدة، ومن ثم مملكة الموجودات الفانية والمتعينة جنسيًا المتطورة نسبةً إلى الخالدين – لكن الخالدين ينتقمون اليوم بصمت عبر كافة التقنيات الاستنساخية، والخلود الاصطناعي، وتهميش الجنس والموت.
لكن الأمر لم ينقض بعد، ونستطيع الاعتماد على مقاومة الموجودات الفانية المثابرة التي نمثلها نحن – مقاومة ناتجة من أساس النوع الإنساني الذي يرفض أي حلٍ نهائي أيًا كان شكله.