الثورة المضادة .. ووهم الدولة “الإسلامية”..بقلم : صبري حافظ
صبري حافظ..
يسمع القراء كثيرا عن الثورة المضادة، وعن المؤامرات التي تحاك ضد ثورات الربيع العربي لإجهاضها، وعن المكائد الجهنمية لإبقاء المنطقة العربية ضعيفة وتابعة. ولكن نادرا ما يقدم أحد لهم بعض وثائق هذه الثورة ومخططاتها. كي لا يظل الحديث نوعا من نظرية المؤامرة التي نجحت الثورة المضادة في تشويه سمعتها، ونبذها كمفهوم مضطرب لا اساس له من الصحة، يتبناه أناس معادون للعقل ومولعون بالخرافات. ذلك لأن الثورة المضادة في حقيقة الأمر قد أصبحت في العقود الأخيرة علما من أرقى العلوم الإنسانية والاجتماعية، بل هي في حقيقة الأمر المسؤولة تاريخيا عن توجه تلك العلوم جميعا بعيدا عن الغرق في التخصص الدقيق لكل منها، وإلى الانخراط فيما يعرف الآن بدراسات الفروع المعرفية المتعددة Multidisciplinary Studies أو المقتربات المنهجية المتداخلة Interdisciplinary Approaches والتي تستخدم أكثر من فرع فروع المعرفة وأكثر من منهج من مناهج البحث لبحث ظاهرة محددة، بغية معرفة كل مكوناتها والعوامل الفاعلة فيها. ليس فقط من أجل الفهم، وإنما من أجل السيطرة والتأثير على مسار الأحداث ومآلاتها.
فهناك تصوران مختلفان للعلم، أولهما هو التصور المعرفي الذي يروده البحث عن الحقيقة من أجل الحقيقة، وهو أمر يقترب من التصوف والتبتل في محراب العلم من أجل العلم. والثاني هو التصور البرجماتي العملي الذي يريد الاستفادة من نتائج العلم واختراعاته ومعارفه ماديا وبسرعة. ويحوّل كل اكتشاف من كشوفه إلى سلعة أو ذريعة إضافية لكسب المزيد من المال. وكان تسويغ تلك المقتربات المتداخلة والتركيز عليها بحيث أصبحت الآن هي النموذج المعتمد في كل الدراسات الجامعية ومعاهد الأبحاث، بحجة أنها تسخر المعرفة التي يتلقاها الطالب في الجامعة للاستخدام في حياته العملية بعد التخرج، وليس بحجة أنها تمكن السياسيين من استخدامها ببراعة في الثورة المضادة، مع أن الدوافع السياسية الكبيرة تلعب دورا مهما وبارزا فيما يبدو أنه أكثر الأمور بعدا عنها. هذا فضلا عن أننا نعرف ومن دراسات إيمانيويل واليرشتاين المعروفة عن نظام العالم، والتي كتبت عنها في مكان آخر، حرص المركز على استخدام كل المعارف الإنسانية للبقاء مركزيا، وإبقاء الهوامش مهمشة كي تتعزز مركزيته وتتنامى أرباحه. ونعرف أيضا أن ثورات الربيع العربي، وخاصة التونسية والمصرية بعدها، قد فاجأت هذا المركز، وسعى بسرعة لاحتوائها وإجهاضها. فقد اجتمع مجلس الدفاع القومي الأميركي 21 مرة في الأيام الثمانية عشر للثورة المصرية.
فيلدمان وطبيعة المشروع الصهيوأمريكي:
بعد هذا الاستهلال أعرض على القارئ هنا أحد الكتب التي تقدم خريطة طريق يبدو أن الإدارة الأمريكية، ومعها بقية بلدان المركز، قررت اعتمادها لبلدان الربيع العربي. وقبل أن نقدم الكتاب علينا التعرف على مؤلفه. وهو نوح فيلدمان Noah Feldman أحد أبرز تلاميذ برنارد لويس النجباء وأحدثهم وفودا إلى ساحة التأثير. إلى الحد الذي انتخبته إحدى المجلات الأمريكية ضمن أكثر 70 شخصية مؤثرة في السياسة الأمريكية. والواقع أن الكثيرين قد كتبوا عن برنارد لويس وعروا مشروعه الذي تعرض في ثمانينيات القرن الماضي لضربات فكرية مُصمِية على أيدي إدوار سعيد وتفكيكه البارع لخطاب الاستشراق الاستعماري. لكن هذا المشروع سرعان ما تلقى قبلة الحياة من جديد بعد أحداث 11 سبتمبر الشهيرة، وصعود سمت الكثير من تلاميذه من المحافظين الجدد. وأبرزهم الآن هذا اليهودي الصهيوني الطموح المولود عام 1970 نوح فيلدمان الذي حمل راية لويس من جديد، وتخصص في القانون الدستوري والدراسات الإسلامية، وعمل في جامعة نيويورك عام 2001، ثم عين عام 2008 أستاذا في مدرسة الحقوق بجامعة هارفارد وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، وهو أمر نادر، ولكنه ممكن إذا ما كان وراءه اللوبي الصهيوني العتيد.
وقد رشحه ريتشارد بيرل، تلميذ لويس النجيب وصديق ولفوفيتز الحميم، لاكتساب خبرة سياسية على أرض الواقع العربي تعزز من مصداقيته حينما ألحقه عام 2003 مستشارا قانونيا لبريمر عقب احتلال العراق. ويقال أنه لعب دورا أساسيا في كتابة دستور المحاصصات الطائفية العراقي. وله عدة كتب أبرزها (ما بعد الجهاد: أميركا والصراع من أجل ديموقراطية إسلاميةAfter Jihad: America and the Struggle for Islamic Democracy) عام 2003 و(ما ندين به للعراق: الحرب وأخلاقيات بناء الدولة What We Owe Iraq: War and the Ethics of Nation Building) عام 2004 و(انهيار الدولة الإسلامية وصعودها The Fall and Rise of the Islamic State) عام 2009. هذا فضلا عن أنه يكتب مقالات دورية في الصحف والدوريات السياسية الأمريكية المؤثرة.
ويوشك المشروع الفكري/ السياسي لفيلدمان أن يكون تحويل مشروع برنارد لويس الخبيث إلى أجندة جيوسياسية مرغوبة يتبناها اللوبي الصهيوني المتحالف مع لوبي السلاح الأميركي، بدعوى أنها أفضل ما يحقق مصالح أميركا في المنطقة. ويتبلور المشروع باختصار في أن من مصلحة أميركا إحياء الدولة الإسلامية التي انهارت، كما يقول عنوان كتابه. وتمكين الإسلاميين الذي يدعوهم بالمعتدلين وأصدقاء أميركا (كما هو الحال مع الإخوان في مصر والنهضة في تونس) من الحكم وتنفيذ مشروعاتهم في أسلمة المجتمع والتحكم فيه بسطوة الدين. فصعود الدولة الإسلامية عنده لا يكفل انشغال أهل هذه المنطقة بأمور دينهم، بدلا من أمور دنياهم التي قد تقودهم إلى معاداة السياسات الأمريكية والصهيونية في المنطقة فحسب، بل إن إحكام قبضة الشريعة على حياة البشر فيها ستحول قطعا بينهم وبين أي تنمية حقيقية، أو تقدم يجعل أي من بلدان المنطقة تشكل خطرا على الغرب. ناهيك عن أن استبدال السياسات الدينية، بالسياسات القومية أو الوطنية في المنطقة بميلها الطبيعي للاستقلال، سيجذر الأساس الديني للشرعية، مما يجعل دولة الاستيطان الصهيوني والتي تنحو أكثر وبالتناغم مع تلك المخططات إلى تأكيد يهوديتها أكثر من أي شيء آخر، تبدو وكأنها أمر طبيعي ومتسق مع كل ما يدور في المنطقة، بدلا من أن تكون معادية له.
فأخشى ما يخشاه المشروع الصهيوني، والمشروع الأميركي من ورائه، هو قيام تنمية حقيقية في تلك المنطقة توجهها إلى الوعي بإمكانياتها الجبارة، وإلى تحقيق هذه الإمكانيات بصورة تفرض استقلالها ورؤيتها على الآخرين. هذا فضلا عن أن الانشغال بتطبيق أحكام شرع الله في سفاسف الأمور، كزواج الصغيرة، ورضاعة الكبير، والجهاد بالمناكحة، والشفاء من مس الجن، وتهديم القبور وغيرها سيتكفل بإلغاء كل منجزات التحديث العقلية ومكاسبها من تعليم أو تحرير للمرأة، وإعادة المنطقة إلى العصر الحجري، حسب تعبير عزيز على شوارتزكوف إبان حرب الخليج الأولى. هذا فضلا عن أن تحكيم الدين وتشجيع قواه المتحالفة مع الغرب، سيؤدي حتما إلى إعادة توجيه العنف الذي كان موجها للغرب، ولأميركا بصورة خاصة كما برهنت أحداث سبتمبر، إلى الداخل، وسيستنفذه في الصراعات بين الفرقاء المتحاربين. حيث يصبح عنفا بين الطوائف المختلفة، كما هو الحال في العراق واستعار النزاع بين السنة والشيعة، أو بين أيهما وبين مسيحي العراق، أو بين الأكراد والبقية. ناهيك عن تبشيره باستعار العنف بين المسلمين والأقباط في مصر، وتفكيك منطقة الشام الكبرى إلى فسيفسائها الدينية القديمة.
لكن أهم ما سيحققه هذا الأمر عنده، هو تأجيج الصراع الديني بين السنة والشيعة بوجه خاص، وهو الأمر الذي ستستغل فيه أميركا إيران لاستنزاف ثروات المنطقة العربية الغنية المجاورة لها في التسليح. ألم نقرأ عن شراء السعودية ودول الخليج لمنظومات الدفاع الصاروخي الباهظة الثمن مؤخرا؟! وعن صفقات التسليح المختلفة، التي توجه فيها الأسلحة إلى تدمير العرب لبعضهم البعض، كما هو الحال مثلا في سوريا. وبالتالي يزول أي خطر عسكري محتمل على المشروع الصهيوني من ناحية، ويتم تسويق كل الخردة التسليحية الغربية بأسعار باهظة من ناحية أخرى. كل هذا التخطيط الجهنمي يدور بحجة أن المشروع الإسلامي هو الأكثر ملاءمة لهذه المنطقة من الديموقراطية الغربية التي لا تناسبها على الإطلاق، لأنها غريبة عنها وعن ثقافتها السلطوية. ولكن الأهم من هذا كله، أنها قد تسفر عن اعتلاء أعداء الغرب وأنصار الاستقلال السياسي للسلطة.
لهذا تجد نوح فيلدمان يدافع بضراوة في المنابر الأمريكية المرموقة، وفي دوائر صناع القرار عن حكومة الإخوان في مصر وعن رئيسها محمد مرسي. فقد كتب عشية إعلان مرسي الدستوري البغيض مقالا طويلا (مجلة بلومبرج في 27 نوفمبر 2012) يدافع فيه، بفصاحة وعقلانية يفتقر إليها الكثير من الإخوان أنفسهم عن الإعلان غير الدستوري، بحجة أنه كان في رأيه الوسيلة الوحيدة الباقية أمام محمد مرسي للحفاظ على الديموقراطية، بمنع المحكمة الدستورية من حل مجلس الشورى، كما حلت مجلس الشعب من قبله، والذي كان سيعد انقلابا كاملا، يمنع إصدار الدستور، ويلغي شرعية مرسي نفسه، ويعيد الكرة إلى ملعب المجلس العسكري، الذي يخبر قارئه الأمريكي بأنه لم يقبل نتائج الانتخابات التي جاءت بمرسي للحكم. فإعلان مرسي غير الدستوري في رأيه ليس إلا ضربة استباقية، تتطلبها المعركة من أجل الديموقراطية.
ثم يكتب مقالا آخر بعد حصار المحكمة الدستورية يكمل فيه دفاعه عن مرسي، بأن شل المحكمة الدستورية كان ضروريا لإكمال الضربة الاستباقية التي وجها مرسي للمؤسسة العسكرية، لأنها كانت أداة في يد المجلس العسكري كما يقول. صحيح أنه يعترف بأن الوسائل التي استخدمها مرسي وانصاره من المتأسلمين كانت تتسم بالسذاجة والفجاجة مما جعلها تأتي برد فعل عكسي. فما كان عليه أن يفعله بدلا من الإعلان الدستوري وحصار المحكمة الدستورية هو أن يلجأ إلى مجلس الشوري المنتخب لتحصين اللجنة التأسيسية من ناحية، وتعليق عمل المحكمة الدستورية، بحجة أنه ليس ثمة دستور تحكم بمقتضاه بعد من ناحية أخرى. وأن من حق اللجنة التأسيسية التي تضع الدستور أن تفعل أي شيء، بما في ذلك إلغاء المحكمة الدستورية نفسها في الدستور الجديد. موزعا بذلك دم الغضب الشعبي بين القبائل بدلا من أن يتلقاه وحده. أليست هذه المشورة أبلغ من كل ما أشار به مكتب الإرشاد عليه؟ وأشد من مؤامرات الإخوان وخطابات المتأسلفين الفجة حنكة ودهاءً؟!
فيلدمان والتنظير الجديد المشروع والدفاع عنه:
ولم يكتف فيلدمان بالدفاع عن إعلان مرسي غير الدستوري، وتبرير أفعاله الاستبدادية في مقالات متعددة، ولكنه تجاوز ذلك إلى نقد معارضيه في جبهة الإنقاذ بضراوة. ففي مقال أخير (نشره يوم 30 يناير 2013 في بلومبرج) يعلق فيه على أحداث التحرير ومدن القناة الأخيرة، يصف فيلدمان معارضي مرسي بأنهم ممثلو الثورة المضادة، الذين ينقضون على الشرعية التي منحتها الانتخابات لمحمد مرسي. ويدافع باستماتة عما يسميه بشرعية الإخوان الديموقراطية والتي منحها الشعب لهم ثلاث مرات، في انتخابات مجلس الشعب المنحل، ثم في انتخاب مرسي، ثم في التصويت على الدستور. وأن تحدي المتظاهرين لمحمد مرسي والإخوان هو تحد للديموقراطية نفسها، وفرض لما يدعوه بمطالب الرعاع الذين أخفقوا في اختبار الصندوق. بل وأسوأ من ذلك في نظره، لأن استمرار الاضطرابات ينطوي على خطر دعوة العسكر للعودة للحكم تحت غطاء انقاذ البلاد والديموقراطية معا، وهذه هي الثورة المضادة بعينها. ويختتم مقاله هذا بدعوة المتظاهرين للعودة لبيوتهم، وإتاحة الفرصة للإخوان للحكم، وإن لم يعجبهم حكمهم فلديهم صندوق الانتخابات الذي سيتيح لهم تغييرهم بعد أقل من أربع سنوات.
والسؤال الذي يجب أن يسأله الإخوان والثوار لأنفسهم معا: هو لماذا يدافع هذا الصهيوني المتعصب فيلدمان عن محمد مرسي بهذا الإخلاص والقدرة على الإقناع التي لا تتوفر للكثيرين من الإخوان أنفسهم؟ ولماذا يدافع بشراسة عن سياسات محمد مرسي الحمقاء وقراراته التي قسمت الشعب المصري، وأثارت ما أثارت من اضطرابات؟ وقد جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي الجديد، جون كيري، الأخيرة لمصر وتدخله السافر في الشأن الداخلي المصري بغية إكساب مهزلة الانتخابات القادمة شرعية مفقودة، لتؤكد ما سبق أن كتبته، وهو أن دعم الإدارة الأمريكية القوي لإدارة مرسي وحكم الإخوان جزء من سياسة أمريكية ممنهجة أرسى فيلدمان دعائمها النظرية كما سنرى، وساهمت في ترويجها أبواق المحافظين الجدد، لأن هذا الحكم يحقق مصالحها، خاصة وقد تحول وبسرعة يحسد عليها إلى الذخر الاستراتيجي لها ولربيبتها في المنطقة، أعني دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.
قد نجد الإجابة على هذا السؤال في كتابه (انهيار وصعود الدولة الإسلامية The Fall and Rise of the Islamic State)، وهو كتاب أقرب ما يكون إلى البحث الأكاديمي في طبيعة شرعية السلطة والقانون الدستوري، ولذلك فإن عرضه على القراء ثم مناقشة ما جاء فيه، وما تنطوي عليه مضمراته من مشروعات أمر مفيد لعدة أسباب: أولها أنه يكشف لنا عن أهمية القانون ودستورية أي حكم وشرعيته كي يستمر هذا الحكم ويحظى بالقبول من شعبه. وثانيها أنه يؤكد لنا ضرورة توفر الأساس العلمي والمعرفي لأي قرار سياسي يسعى لأن تكون له مصداقية. كما يتيح لنا معرفة سر دعم المحافظين الجدد الصهاينة في أميركا لحكم الإخوان في مصر، والأساس المعرفي والأيديولوجي لهذا الدعم. وثالثا لأنه يكشف لنا عن طبيعة العمل العقلي والمنهجي الدؤوب للثورة المضادة، وتبريرها القوي لذرائعها بطريقة تخفي بها كل ما تنطوي عليه من سموم.
وقد صدر هذا الكتاب عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وهو مؤسسة استشارات أمريكية من النوع المسمى Think-Tankتأسست عام 1921 وتسعى لأن تكون مصدر معرفة أعضائها من صناع القرار، والمسؤولين الرسميين، ورجال الأعمال والصحفيين، وحتى الباحثين المتخصصين بالقضايا الحيوية، كي يفهموا ما يدور في العالم من حولهم، ويساهموا في تحديد اختيارات السياسة الخارجية التي تواجه الولايات المتحدة، والتي تحقق مصالحها في العالم. إذن فنحن لسنا بإزاء كتاب عادي، صدر عن دار نشر عادية، أو بحث أكاديمي يبتغي وجه المعرفة المجردة والمحايدة صدر عن مؤسسة نشر جامعية، وإن كان ينطوي على الكثير من سمات هذا النوع من البحوث. ولكنه كتاب يتذرع بالغطاء العلمي والبحث الموضوعي أو بالأحرى يستخدمهما بمهارة كي يحقق أهدافا سياسية واضحة. صدر عن مؤسسة تهتم بالتأثير على اختيارات صناع القرار الأمريكي على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم، وتسخر البحث العلمي لخدمة القرار السياسي والأهداف التي تحقق، كما تقول أهدافها المطبوعة في صفحة معلومات الناشر وسياسته في الكتاب، المصالح الأمريكية في العالم.
ولهذا السبب يكتسب الكتاب أهمية خاصة أو مضاعفة كوثيقة من وثائق البحث الضرورية التي تستند عليها القرارات السياسية، وخيارات الإدارة الأمريكية، في تحقيق أهدافها في العالم، ومن أبرزها إبقاء المنطقة العربية برمتها في حظيرة التبعية الأمريكية. في مجتمع يعي أن أول متطلبات الديموقراطية الحقيقية في المجتمع الحديث، ليس الاستناد الأعمى إلى نتائج الصناديق، كما يتشدق المتأسلمون بعد أن برعوا في تزوير الانتخابات، حتى لو كانت صناديق محايدة ونزيهة، وفي مجتمع لا يعاني من الأمية والفقر والجهل، وإنما تأسيس كل القرارات والخيارات السياسية على المعرفة والتحليل الدقيق وليس صدورها عفو الخاطر، أو وفق أهواء سياسية لا تصمد للتمحيص من رجل الشارع العادي، ناهيك عن المعارضة التي لابد أن تستند هي الأخرى في معارضتها وتقويضها لسياسات الحكم على أسس معرفية.
ويتكون الكتاب من مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة. وتموضع المقدمة البحث من البداية في سياق الاستثناء من القاعدة. فالقاعدة تقول أن الدول والإمبراطوريات تتكون وتزدهر ثم تتدهور وتنهار. وهو الأمر الذي برهن عليه بول كينيدي Paul Kennedy في كتابه اللامع (صعود وانهيار القوى الكبرى: التغير الاقتصادي والصراع السياسي من 1500 – 2000The Rise and Fall of the Great Powers: Economic Change and Military Conflict From 1500 to 2000) وهو الكتاب الذي أصبح من كلاسيكيات الدراسات الجيوسياسية، ودفع الكثير من مؤسسات الاستشارات Think-Tankإلى الانطلاق منه لبلورة توصيات حول كيف تتجنب القوة الأمريكية العظمي خطر الهبوط عن مكانتها والانهيار. خاصة وأنه أثبت في دراسته الضافية تلك، وبشكل مقنع، أن مكانة القوى الكبرى عبر خمس قرون من التاريخ كانت دوما نسبية ومحكومة بأدوار القوى الأخرى في المرحلة، وأن استمرار أي قوة كبرى في الحفاظ على مكانتها على القمة مرتبط بمتانة اقتصادها ومواردها المتاحة، وقدرتها على توظيف الاقتصادات الأخرى في تعزيز دوره ومكانته. كما أن تجاوز مصالحها وحاجاتها الأمنية لمواردها الاقتصادية، وبداية الخلل في التوازن بين حاجات الاقتصاد والاستثمار وحاجات الجيش وآلته العسكرية، وإسرافها في الحرب واستخدام أساطيلها وإمكانياتها العسكرية يعجل بانهيارها.
وقد حرصت الولايات المتحدة الأمريكية، التي وظفت كينيدي، وهو بريطاني، في واحدة من أكبر جامعاتها وهي جامعة ييل، على توظيف المعرفة في العمل على منع، أو على الأقل تعويق وتأجيل، عملية الانهيار الحتمية لأي قوة عظمى، والإبقاء علي وضعها الذي توفر لها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. لأن ما أثبته كتاب كينيدي هو أن القاعدة هي أن القوى الكبرى تصعد وتتحكم، ثم تذوي وتنهار. ولكن كتاب نوح فيلدمان يرى، وهو الأمر الذي يبهج أميركا الساعية لأن تكون الاستثناء من القاعدة، أن لهذه القاعدة استثناءين: أولهما هو الديموقراطية التي ولدت في اليونان قبل الميلاد ثم انهارت، وعادت للظهور من جديد في عصرنا الحديث، كقوة كبيرة بسبب سلامة الأسس التي تنهض عليها أيديولوجيتها. والثانية هي الدولة الإسلامية التي يتوق المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها إلى إحيائها من جديد، بعدما انهارت آخر قلاعها قبل قرون. وأن هذا الأمر يحتاج منا إلى تفسير جديد للتاريخ الدستوري الإسلامي. لأن الدعوة المنتشرة في كثير من البلاد الإسلامية لعودة الشريعة لا تنطوي فحسب على حنين لعالم تحكمه قوانين صارمة وواضحة تشكل قاعدة دستورية شاملة، يتفق عليها الجميع ويؤمنون بمرجعيتها. ولكنها تنهض أيضا على ميراث تاريخي استطاع أن يبلور نظام حكم حقق التوازن المرتجى بين سلطة القانون، والتي يجب أن تبقى فوق سلطة كل حاكم، وسلطة الحكم.
وتكرر المقدمة في هذا المجال ما هو معروف عن دور العلماء في الدولة الإسلامية القديمة، واستقلالهم النسبي كحراس للشريعة ومفسرين لقوانينها. وأن فقدان هؤلاء العلماء التدريجي لاستقلالهم، وتحولهم منذ الإصلاحات العثمانية إلى مجرد موظفين لدى السلطان يمكن السيطرة عليهم والتحكم في أرزاقهم فتح الباب أمام الاستبداد وغربة الشعب عن الحكم. ويعزو قسما كبيرا من المشكلة إلى التحول الذي نجم منذ اضمحلال الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة، حيث رافق انتهاء سلطة العلماء غياب أساس إسلامي دستوري للدولة، وحلول نظام غربي حديث منذ حركة الإصلاح التركية المعروفة باسم «التنظيمات» أثناء فترة حكم السلطان عبدالحميد (1876 – 1918). ثم إلغاء الخلافة عام 1924 بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الثانية.
فمنذ أن فقد العلماء ما يدعوها بسلطة التشريع الدستورية الإسلامية، وفقدوا معها استقلالهم، انفتح الباب أمام غياب العدالة السياسية وازدياد عزلة الشعوب الإسلامية عن حكامها في العصر الحديث. وهو الأمر الذي تفاقم مع إخفاق طبقة القضاة والمحامين الجديدة التي تولت مؤسسة التشريع بدلا منهم في التحول إلى طبقة سياسية قادرة على التأثير في الأحداث في بلدانهم. وساهم هذا بدوره في فشل الدولة الحديثة في أغلب البلدان الإسلامية. فبدلا من الشريعة الإسلامية التي كانت تتغلغل في حياة الناس، وتتحكم في معاملاتهم، وتحافظ على كرامتها واستقلالها من خلال طبقة العلماء، أخفقت طبقة القضاء الجديدة في أن تجعل سيادة القانون قيمة تتخلل كل مؤسسات المجتمع، من مؤسسة الأسرة حتى مؤسسة التعليم وصولا إلى المؤسسة السياسية نفسها والتي بدونها لا تستقر المؤسستين التشريعية أو القضائية ولا تمارسان دورهما في الحفاظ على سلامة المجتمع.
البحث عن جذور الفكر الدستوري الإسلامي:
ويكرس الكتاب القسم الأول منه، والمعنون «ما هو الصواب الذي تحقق» أو بالأحرى كيف استطاع حكم الدولة الإسلامية القديمة أن يحقق سلطة القانون وسيادة الدستور. بادئا بأن التنامي المستمر للحركات السياسية الداعية لتأسيس دولة إسلامية في بلاد المسلمين التي تحتاج بشكل حاد إلى الإصلاح لم يلفت انتباه الغرب فحسب، بل أيضا النخب العلمانية المثقفة في تلك البلدان. وخاصة في منطقة الشرق الأوسط التي أخفقت فيها الدكتاتوريات الجمهورية منها والملكية في تحقيق الرخاء لشعوبها، أو بناء قوة عسكرية لبلدانها، أو حتى تأسيس شرعية مقبولة لحكمها. لأن هذا التنامي يطرح سؤلا أساسيا وهو لماذا لا تسعى الحركات السياسية في تلك البلدان إلى تأسيس ديموقراطيات ليبرالية كما كان الحال في أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. خاصة وأن هناك اتفاق على إخفاق الدولة الإسلامية مع انهيار الدولة العثمانية تحت وطأة تخلفها؛ وعلى أن دولة الاستقلال التي أعقبت الحقبة العثمانية لم تنجح هي الأخرى في تحقيق ذلك. مغفلا في هذا المجال الإرث الاستعماري الفادح ودوره الكبير في هذا المجال. لكنه وقد قفز إلى دولة الاستقلال يوصف مشكلة إخفاقها لا في محاربة قوى الهيمنة الاستعمارية القديمة والجديدة لها، ومؤامراتها ضد طموحاتها الوطنية المشروعة، وإنما في ربطها بين القومية والاشتراكية وإخفاق المشروع القومي ذي التوجهات الاشتراكية.
ويعزو نجاح الاتجاه إلى الدعوة لتأسيس دولة إسلامية إلى ربط العلمانية بإخفاقات الدولة القومية ذات التوجه الاشتراكي من ناحية، وإلى إخفاق الدولة الحديثة في تأسيس حكم القانون بما ينطوي عليه من عدل وأسس للشرعية والمشروعية من ناحية أخرى. وهنا يأتي سحر الدعوة للدولة الإسلامية حيث ترتبط فيها العودة للإسلام ولتحكيم الشريعة بالعودة لدولة القانون والعدل المفقود. فما تفتقده الدولة الحديثة في معظم البلدان الإسلامية، بلدان العالم العربي خاصة، هو أن ما ينظم المجتمع فيها ليس القانون أو العدل، وإنما القوة الغاشمة التي تنظم السياسة والاقتصاد وحتى المجتمع نفسه. ولذلك فإنه يربط الدعوة إلى الدولة الإسلامية برغم شعاراتها الغامضة من نوع «الإسلام هو الحل» أو «الإسلام دستورنا» بالعودة لدولة القانون والعدل، وهو ما تفتقر إليه كل الدول الإسلامية. هنا يواجه الكاتب مشكلة تبرير الربط بين الدولة الإسلامية ودولة القانون، خاصة وأن ميراث الدراسات الغربية الطويل يربط بين الحكم الإسلامي والاستبداد، منذ أن جعل مونتسكيو الدولة الإسلامية التجسيد المطلق لغياب القانون، وحتى سخرية ماكس فيبر من القاضي الإسلامي الجالس في البيداء تحت نخلة، يحكم وفق ما يراه، ودون أي نص قانوني. خاصة وأن تجليات هذا الحكم في مراحلة الأخيرة في الدولة العثمانية تجعل ربطه بدولة القانون أمرا مضحكا.
هنا يعود الكتاب إلى تسويد صفحات كثيرة في حكاية ما جرى في صدر الإسلام ومعنى الخلافة، وكيف أسس السلف الصالح مجموعة القواعد القانونية وأصول الحكم بالاعتماد على الذاكرة، وهي بطبعها خؤون. وكيف تم الاستقرار على مصادر التشريع من القرآن والسنة والقياس والإجماع والمصالح المرسلة وما تنطوي عليه من إشكاليات. ولكنه يبرر ذلك بأن تأسيس القواعد القانونية والدستورية منها خاصة في كثير من القوانين بما في ذلك القانون الانجليزي نفسه تتسم بإشكاليات مماثلة. ويواصل بعدها تناول عمليات تأسيس شرعية السلطة الحاكمة في أزمنة الخلافة المتعاقبة، ومسألة الشورى أو الوراثة التي بدأت مع الدولة الأموية، والتي كانت إلى حد كبير مقيدة أو بالأحرى مدعمة بالبيعة ورضا ذوي الأمر أو أهل الحل والعقد، ودورهم جميعا في إضفاء الشرعية على الحكم، وتعزيز القناعة بإسلاميته، أي بأنه حكم يطبق شرع الله. وقد تطور الأمر إلى نوع من العهد، أو الميثاق أو الصفقة التي بمقتضاها يعلن الحاكم تطبيقه للشريعة، في مقابل إضفاء الفقهاء والعلماء الشرعية على حكمه. وقد استمر هذا الوضع حتى تتابعت التهديدات على الخلافة الإسلامية من المغول والبويهيين والسلاجقة وغيرهم.
ويتعقب بداية التلاعب بالشرعية والشريعة معا إلى الدولة العباسية وإلى كتابات أبو الحسن الماوردي (972 – 1058) وخاصة كتابه (الأحكام السلطانية) الذي يعتبره أول وأهم أطروحة إسلامية في القانون الدستوري. لأنه يعلي فيها من شأن تطبيق الشريعة على سلطة الخليفة، أي بالمصطلح الحديث إعلاء سلطة الدستور على كل السلطات، بما فيها السلطة التنفيذية. حتى ولو خضع صاحبها أي السلطان لسلطة يفرضها عليه المغول أو البويهيين أو السلاجقة. المهم هو تطبيق السلطان للشريعة كي تكون له شرعيته التي يستمدها من تطبيقه لها. وهو الأمر الذي دعمه أبو حامد الغزالي (1058 – 1111) من بعده. فقد عاش في بغداد تحت حكم السلاجقة. ولا يرى فيلدمان أن في الأمر أي تناقض أو مساومة. لأن حكم الإخوان عنده، وفي كتابته اللاحقة على هذا الكتاب، له شرعيته التي يستمدها من الصندوق والدستور، حتى لو وقع الحاكم نفسه تحت سطوة مخططات مغول العصر أو سلاجقته المعاصرين، أي الأمريكيين أو الصهاينة. إنها ليست مساومة بل مناورة ذكية من العلماء لفرض سلطة القانون فوق أي سلطة أخرى، حتى ولو كانت خاضعة لمستعمر أجنبي. خاصة وأن السلاجقة أو المغول من قبلهم قد وصلوا السلطة دون أي خضوع، أو حتى إعلان بالخضوع للشريعة، أو التزام بها. وأن الماوردي هو الذي أسس لمسألة التوازن بين السلطات التي سادت في الدولة الإسلامية لسبعمئة سنة من بعده. وكان همّ العلماء هو الحفاظ على دورهم في تكريس الشريعة وتفسيرها، كي يتمكنوا من تحجيم السلطة السياسية، وتأكيد العدل لدي العامة، وحماية ممتلكاتهم من جور أي سلطان عليها.
وينتقل بعد ذلك إلى دور ابن خلدون (1332 – 1406) بعد الماوردي بأربعة قرون في تأكيد أهمية القانون والعدالة بالتالي على ازدهار كل وجوه العمران/ الحضارة المختلفة. فبدون العدل وحرية الملكية وحمايتها ينتفي الدافع للعمل، والدافع للملكية، ويتدهور العمران. لأن الحكم المستبد ينتج بتجلياته المحسوسة نفسها سلسلة من الإجراءات الظالمة التي تؤدي بدورها إلى الأزمات الاقتصادية والانهيارات الحضارية. بل ذهب ابن خلدون إلى أن تحريم النبي للظلم، ينطوي على وعي مبكر بأن الظلم يدفع للانهيار وتدمير العمران. وأن القانون العادل هو الأساس المتين لأي عمران حقيقي يشعر فيه الناس بالأمن على حاضرهم فيسعون لبناء مستقبلهم. وقد ربط ابن خلدون بين الظلم المدمر للعمران، وبين السلطة الغاشمة والقوة المستبدة، لأن هذا النوع من الحكم هو الذي يخلق آليات التدمير من خلال تدميره لدوافع الناس للتعمير، والتي تزدهر مع العدل والأمن والاستقرار، وتتقلص في غيابها.
وقد كان دور طبقة الفقهاء والعلماء وأهميتها مرتبطا بقدرتها على فرض تطبيق الشريعة والعدل على الحكام، لأن هذا التطبيق يضع الأساس لشرعيته في نظر المجتمع. كما كانت هي أيضا الطبقة التي حالت دون تفشي الظلم، بتطويرها لأنظمة حماية مختلفة لأملاك الناس من جشع الحكام للاستيلاء عليها، من خلال الإصرار على حرمتها وحق أصحابها فيها، من تنظيم تطبيق نظام المواريث الشرعي، إلى بلورة نظام الوقف الذي يحمي ما لا تتوفر له ورثه من الأموال والممتلكات من استيلاء الحكام عليها. كما امتدت سلطتهم التشريعية من المواريث والأملاك إلى القانون الجنائي الذي يرجع الباحث صرامته في الإسلام إلى غياب مؤسسة كبيرة وقوية لفرض القانون، توازي مؤسستي الشرطة والقضاء في أيامنا هذه. لأن غياب تلك المؤسسة في المجتمعات الإسلامية لم يعظم من العقوبة فحسب، وإنما صعب من إثبات الجرم أيضا وجعله يتناسب مع فداحة العقوبة، واستلزم توافر الكثير من الشروط لإثبات قيام الجاني به.
لكن هذا النظام المتوازن الدقيق من فرض القانون وتطبيقه وربط هذا كله بشرعية الحاكم ومشروعية الحكم أخذ في الانحسار والتآكل التدريجي مع نمو البيروقراطية في مؤسسة السلطة الإسلامية. وتعاظم دور الكتبة ومنظمي أمور البلاط على حساب دور الفقهاء والعلماء، الذين تضاءل دورهم وتقلصت أهميتهم، بينما كانت بيروقراطية الدولة، حتى قبل ازدهار الدولة العثمانية، تتنامى. ومع تنامي بيروقراطية الدولة أزداد التحكم في دور الفقهاء، والاتجاه نحو مركزية مؤسسة العلم والفتوى، بدلا من ديموقراطيتها السابقة حينما كانت مفتوحة لكل من يجد في نفسه الأهلية لها. ومع تعاظم نفوذ الدولة العثمانية ازداد تنظيم عمليتي الإفتاء والتشريع، وأصبح كل من المفتي الأكبر وشيخ الإسلام جزءا من بلاط السلطان لا يتجزأ عن شرعية ومكتب حكمه. ويتوقف الكتاب عند دور أبو السعود أفندي، المفتي الأكبر، الذي أصدر مئات الفتوى في خدمة حكم السلطان سليمان القانوني.
وكان احتواء الفقهاء والعلماء في مؤسسة البلاط العثمانية هو الذي وفر لها الغطاء التشريعي الإسلامي بإعلان الشريعة مصدرا لدستورية الدولة من ناحية، ومكن السلطان بالتالي من توسيع شرعيته وسلطته لتشمل كل المسلمين المؤمنين بتلك الشريعة، من ناحية أخرى. وهذا ما ممكنه من إعلان نفسه، بسلطة تلك المؤسسة، خليفة للمسلمين مع أنه يفتقر إلى النسب العربي، ناهيك عن القرشي، الذي كان من ضرورات الخلافة من قبل. وقد استطاع الفقهاء والعلماء تحقيق تلك المساومة الدقيقة بين سلطة السلطان التي وسعوها لتشمل كل المسلمين، وسيادة القانون أو شرع الله الذي يقر السلطان بأنه فوق كل سلطاته، ومنه يستمدها. وهذا في حد ذاته في رأي فيلدمان كان أكثر تقدما من قانون جوستنيان المسيحي الذي كان يضع الأمير فوق القانون. لكن هذا التوازن الدقيق الذي جعل دستورية الدولة الإسلامية أرقى من نظيرتها المسيحية لم يستمر طويلا، إذ سرعان ما عصفت به الإصلاحات العثمانية الجديدة والتي هي موضوع القسم الثاني من الكتاب.
تدهور وانهيار بنية الدولة الإسلامية الدستورية:
يبدأ القسم الثاني والمعنون «التدهور والانهيار»، من كتاب فيلدمان (انهيار وصعود الدولة الإسلامية)، بفصل عن الإصلاحات العثمانية المعروفة باسم «التنظيمات» يربط فيه بين موت الدستور الإسلامي بمعناه التقليدي الذي بلوره الماوردي والغزالي وانهيار الدولة العثمانية، وبالتحديد بينه وبين سعي هذه الدولة لإيقاف انهياراتها، بعدما بدا للجميع أنها آيلة للسقوط. خاصة بعد فقدانها لليونان، وهزيمة أسطولها البحري في معركة نافارينو عام 1827 على أيدي تحالف انجلترا وروسيا وفرنسا. ثم فقدانها للجزائر باحتلال فرنسا لها عم 1830، ثم جاءتها الطامة الكبرى حينما اضطر السلطان عبدالمجيد الأول فور تنصيبه عام 1839 إلى الاستعانة بالقوى الغربية الخمس لهزيمة إبراهيم باشا في حرب المورة، ومنع جيش أحد ولاته السابقين، محمد علي، من استقطاع جزء كبير من إمبراطوريته. فقد أدرك أن ضعف الإمبراطورية الخارجية قد أغرى ولاتها بها، وستعقبه فوضى داخلية كان عليه أن يواجهها بخيارات صعبة أحلاها مرّ. وقد كان دعم القوى الغربية الكبرى وقتها للدولة العثمانية، وقد بدأت تدعوها بالفعل بـ«رجل أوروبا المريض»، لا يخلو من حنكة استراتيجية تحكمها توازنات القوى الأوروبية من ناحية؛ وحرص على استثماراتها الكبيرة في الدولة العثمانية التي أقرضتها أوروبا بسخاء من ناحية أخرى، وأخذت تخطط بدهاء للحلول محلها في كثير من ولاياتها. وكان لابد لها من تأييد الإصلاح فيها لاسترداد تلك الديون من الدولة المركزية، ومن ولاياتها المختلفة على السواء.
لذلك شهدت فترة حكم عبدالمجيد الأول (1839 – 1861) وخلفه عبدالعزيز الأول (1861 – 1876) عددا من الفرمانات الإصلاحية المعروفة باسم التنظيمات. وقد تضمنت إلى جانب الإصلاحات العسكرية إصلاحات إدارية شملت نظام الحكم والضرائب، وأهم من ذلك كله إصلاحات تشريعية غيرت من طبيعة نظام الحكم والدولة الإسلامية من خلال ما يسميه الكتاب بعمليات التقنين Codification أو التشفير التي تحولت فيها أحكام الشريعة إلى فرمانات محددة وقوانين، ومؤسسات لتنظيم عملها وتطبيقها لم يكن لها وجود من قبل. وقد أدت تلك الإصلاحات التشريعية إلى تهميش طبقة الفقهاء والعلماء وتآكل دورها وأهميتها، بما أدى في نهاية المطاف إلى تشتتها وتدميرها. لأن سلطة أحكام الشريعة، كما يقول الكتاب في الفصل الثاني من هذا القسم «الإصلاح القانوني وإشكالية التقنين» في نظام الدولة الإسلامية الدستوري التقليدي، كانت ترافقها مجموعة من الإجراءات الإدارية التي تنظم مصاريف الزكاة وجبي الضرائب والقانون الجنائي. كما أن كلمة القانون نفسها والمأخوذة عن الكلمة اللاتينية Canon بدلالاتها المحددة والصارمة، تعود إلى أصل مغاير لكلمة الشريعة المفتوحة على التأويلات. لكن الأمر لم يقتصر على أصل الكلمة، ولكن على عملية التقنين أو التشفير ذاتها. لأن القوانين الإدارية والقانون الجنائي للدولة العثمانية الصادر عام 1858 اعتمدا كلية على القانون الجنائي الفرنسي. وما أن امتد الأمر إلى القوانين المدنية التي تبلورت في الفترة بين 1869 – 1876 حتى أخذ الأمر يهدد سلطة العلماء والفقهاء في تفسير أحكام الشريعة وتأويلها ويجهز عليها كلية، أو بالأحرى يستوعبها داخل بينة مغايرة، سرعان ما أفقدتها استقلالها، وبالتالي فاعليتها.
ويعتبر الكتاب أن النقلة من الشريعة إلى القانون الوضعي المكتوب ذاك شكلت تحولا جذريا، أو انقلابا على وضع الفقهاء والعلماء ومكانتهم، وبالتالي على الأساس الدستوري التقليدي للدولة الإسلامية، لم يشعروا به وقتها، وإن بدأت آثاره المزلزلة في الكشف عن وجهها بعد سنوات. لأن هذا التحول لم ينقل السلطة إلى القانون ويفرض سيادته، فحينما كانت السلطة للقانون كان الفقهاء والعلماء هم سدنته وشراحه، ولكنه نقلها للحاكم الذي يصدر القوانين والفرمانات واجبة التنفيذ، دون الرجوع إلى من يؤولها، أو بالأحرى دون الحاجة إليه. ويتساءل الكتاب لماذا لم يدرك الفقهاء والعلماء خطورة هذا التحول الجذري الذي سيقوض مكانتهم ويعارضونه؟ ويقدم ثلاثة اقتراحات شيقة في هذا المجال: أولها أن التاريخ يترك لنا الكثير من مبررات ما تم تحقيقه ودوافعه، بينما من النادر أن يترك لنا تبريرا بما تم تجاهله أو التغاضي عنه، أو حتى الغفلة به. وثانيها أن عملية التحول من الشريعة إلى التقنين نجحت في استدراج العلماء للمشاركة فيها، وإضفاء مباركتهم عليها على أساس أن القانون الناجم عنها لا يخالف أحكام الشريعة، ولا يتعارض بشكل ظاهر معها.
وبلغ الاستدراج ذروته في اقتناع العلماء في اقتناع العلماء بأنهم لعبوا دورا إيجابيا فيه لصالح الشريعة، وأنهم قد أدرجوا في صياغتهم للكثير من قوانين هذه المدونة الجديدة أهم قواعد المذهب الحنفي، والذي كان أغلب فقهاء الدولة العثمانية وعلمائها ينتمون له. وثالثها وهي الأخطر في عملية الاحتواء تلك، أن الفقهاء والعلماء كانوا قد أصبحوا في هذه المرحلة جزءا من آلة الدولة البيروقراطية التي كانت تتنامى باستمرار، وليسوا قوة مستقلة عنها. وبذلك فقدوا موقفهم النقدي أو الشكي إزاءها، واستقلالهم الذي يتيح لهم تكوين سلطة موازية لسلطتها. لأنهم كانوا حريصين كجزء من الدولة ومن آلتها الكبيرة والمتنفذة، على استيعاب كل فتاوى الفقهاء المستقلين ودمجها في مدونة القوانين الجديدة كي تكتسب شرعية أوسع. كل هذه الأسباب جعلت طبقة العلماء والفقهاء تتصور نفسها جزءا من حركة الإصلاح، وليس بأي حال من الأحوال ضحية محتملة، بل حتمية، لها.
ذلك لأن ما حافظ على دور طبقة العلماء والفقهاء واستقلالهم كحماة للشريعة / الدستور وكرعاة لسيادتها فوق سلطة الحاكم، هو أنهم كانوا يستمدون مكانتهم من إجماع طبقتهم المستقلة واعترافها بهم، وليس من أي مؤسسة خارج مؤسستهم، حتى ولو كانت مؤسسة الدولة. لكن تأسيس مكتب المفتي الأكبر في الدولة العثمانية، وما تبعه من تعيينه لمفتي رسمي في كل ولاية يمتلك وحدة سلطة الإفتاء دون بقية علماء طبقته وفقهائها، كان الخطوة الأولى في استيعاب تلك الطبقة واحتوائها في مؤسسة الدولة. وهذا ما مهد الطريق أمام استبدالهم وتحجيم دورهم المستقل كما يقول عنوان الفصل التالي «التغيير الدستوري واستبدال العلماء». فما أن تمت عملية التقنين، حتى تبعتها عملية تقنين أخرى لوظيفة القاضي، والتي كانت حكرا على العلماء والفقهاء، استلزم تأهيله عبر دراسة منهجية للقانون، وعلى الطريقة الغربية؛ وأهم ما تنطوي عليه هذه الطريقة من افتراضات هو أن القانون يصدر عن الدولة، وليس عن شرع الله، وأنه بالغ الصرامة والتحديد، ولا يحتاج لمن يؤوله أو يفسر أحكامه، بل لمن يطبقها بحذافيرها.
هذا فضلا عن افتراض مضمر آخر، وهو أن الدولة التي صدر عنها هذا القانون هي بشكل من الأشكال أعلى منه. وكان من الضروري حل إشكاليات هذه المضمرات عن طريق توحيد البنية القانونية بجانبيها التشريعي والقضائي. وهو الأمر الذي نظمه الدستور العثماني عام 1876 وهو أول دستور في العالم الإسلامي. فصل السلطة التشريعية التي أوكلها لمجلسين منتخبين، عن السلطة القضائية التي نظم القانون مؤهلات من يتولاها من دفاع وادعاء وقضاة، وعن السلطة التنفيذية. وكان هذا الدستور هو الذي فصل القضاء المدني عن المحاكم الشرعية التي اختصت بالأحوال الشخصية من زواج وطلاق ومواريث، وأبقاها ضمن سلطة القضاء والفقهاء التقليديين. وكان هذا الفصل هو الخطوة الأولى في تقنين احتواء العلماء وتخفيض مكانتهم كحماة للشريعة التي يخضع لها السلطان نفسه. وهذا يعني أن ظهور الدستور المكتوب رافقه اضمحلال دستورية الدولة الإسلامية بمعناها التقليدي، الذي تمتع فيه الفقهاء والعلماء بسلطات فريدة.
الدستور المكتوب ودولة القانون الوضعي:
صحيح أن هذا الدستور العثماني الأول أعلن في ديباجته اعتماده على الشريعة، من أجل إعلان السلطان خليفة لكل المسلمين، وحامي حمى الدين الإسلامي، وأن الإسلام هو دين الدولة التي تحترم في الوقت نفسه ديانات الأقليات الأخرى وتحميها. إلا أنه بدا منه في الوقت نفسه، أن سلطة الإسلام وغيره من الديانات تحكمها سلطة من وضعوا الدستور، ومن أعلن باسمه، أي السلطان. خاصة وأن الدستور لم يزعم أنه يعبر عن شعوب الإمبراطورية، وإنما عن إرادة السلطان، ولذلك وضع السلطان فوق القانون. تماما كما كان الحال في قانون جوستنيان المسيحي. كما اختفت منه كلية أي إشارة إلى الفقهاء والعلماء، باعتبارهم حراس الشريعة ومفسروها. بالصورة التي جعلته دستورا غربيا يعلي من سلطة الحاكم المطلقة، وليس دستورا إسلاميا يعلي سلطة الشرع والشريعة فوق كل السلطات. هذا فضلا عن أنه لم يكن بأي حال من الأحوال دستورا ديموقراطيا، حيث ظل السلطان، وليس الشعب هو مصدر السلطات. صحيح أنه نص على قيام مجلسين تشريعيين بسلطة التشريع، أحدها، مجلس النواب، ينتخب كل أربع سنوات، والآخر، مجلس الشيوخ، يعين السلطان كل أعضائه مدى الحياة؛ إلا أنه استلزم اعتماد السلطان لأي قانون يصدر عنهما، وبدون هذا الاعتماد لا يصدر القانون.
وقد كان ممكنا أن يؤدي هذا الدستور لديموقراطية دستورية، بعدما أزاح الدور المقدس للعلماء كما جرى في الملكيات الأوروبية بعد الإصلاح الديني والثورة الفرنسية. لكن الأمر لم يدم له إلا عاما أو بضع عام. حيث كان أول ما فعله السلطان عبدالحميد بعد تنصيبه سلطانا عام 1876، هو دعوة الناخبين لانتخاب أول مجلس للنواب، اجتمع في مارس 1877، ولكنه سرعان ما حله وعطل الدستور بعد أقل من عام في فبراير 1878. وانتهى الأمر بعبدالحميد حاكما مطلقا لثلاثين عاما، وبنهاية دور العلماء والفقهاء كحماة للشريعة والقانون، وأصبح السلطان هو مصدر كل السلطات، بما في ذلك السلطة التشريعية والقضائية معا. لذلك شهدت سنوات حكم عبدالحميد الطويلة التلاشي التدريجي لسلطة القانون من ناحية، ولنفوذ طبقة الفقهاء والعلماء، واحتوائها بثمن بخس داخل بينة الدولة الاستبدادية من ناحية أخرى. حيث لم يعد الأمر بعد تعطيل الدستور لما كان عليه قبله. وإنما بدأت آليات حكم إسلامي جديدة في التبلور بدا معها وكأن الشريعة عائق في طريق التحديث، وليست أداة لتكريس سيادة القانون. وتنامى الضغط على العلماء للبرهنة على قدرتهم على مجاراة التحديث واستيعاب آلياته داخل بنية خطابهم، وبالتالي تخليهم عن سلطتهم المطلقة على دستور الحكم.
وينتقل الكتاب في الفصل التالي من هذا القسم «العلماء والدولة كصانعة للقانون» بعد تناول سريع لتأثير ما دار في تركيا على بقية البلدان التي كانت تابعة للدولة العثمانية، وخاصة مصر، إلى التعرف على طبيعة بنى الحكم المناظرة في بلدان إسلامية كثيرة تأثرت بما دار في الدولة العثمانية. ويركز في هذا المجال على مصر حيث يعزو إلى استقلالها النسبي منذ محمد على من ناحية، والاستعمار البريطاني لها عام 1882 من ناحية أخرى، تكون طبقة من المحامين قادرة على احتلال المكان الذي كانت تشغله طبقة العلماء والفقهاء من قبل. استطاعت عبر صياغتها لدستور 1923 أن تحدّ من سلطات الحاكم وتكرس سيادة القانون، وإن انتهت تلك السيادة مع ثورة 1952. وهو الأمر الذي يجد نظائر له في باكستان ودول إسلامية أخرى. فبعد الحرب العالمية الأولى وفي كثير من بلدان العالم الإسلامي أخذ التحول من البنية الدستورية التقليدية للحكم والقائمة على سيادة الشريعة، ومحورية طبقة الفقهاء والعلماء الموكلة بتأويلها إلى بينة قانونية حديثة، قد تنهض فيها القوانين على الشريعة أو على القانون الغربي، ولكنها تتحول إلى قوانين محددة لا تحتاج إلى من يفسرها، بل إلى من يطبقها نيابة عن سلطة الدولة التي تصدر عنها. وبالتالي فقد الفقهاء والعلماء دورهم كمصدر لشرعية الحكم. وهو الأمر الذي تم في سياق المصالح الاستعمارية التي كانت تبني دستورية الحكم الداخلي وفق النمط الذي تبلور في الدولة العثمانية، كما هو الحال مثلا في دستور 1925 العراقي الذي أنشأ ملكية دستورية يتولى فيها مجلس برلماني منتخب السلطة التشريعية كما هو الحال في دستور 1876 العثماني.
لكن ظهور طبقة القانونيين الجدد، من المحامين والقضاة سرعان ما لعبت دورا مهما في كل من تركيا، بعد سقوط الدولة العثمانية، ومصر في العهد الملكي. فقد سعى كمال أتاتورك، بعد إلغاء الخلافة، إلى التأكيد على علمانية الدولة بصورة أطاحت بأي دور للعلماء، أو حتى للشريعة التي كانوا يستمدون نفوذهم منها. وقام بتأسيس دولة على غرار الدولة القومية/ الوطنية الأوروبية. بينما تولى في مصر القانوني الفذ عبدالرزاق السنهوري ما بين 1936 – 1942 وضع مدونة القانون المدني والجنائي بصورة تم فيها تحقيق التضافر بين القوانين الغربية والشريعة الإسلامية. وهو الأمر الذي كان له تأثير كبير في بلدان إسلامية عدة، تبنت منظومة السنهوري الدستورية فيما بعد. ويخلص الكتاب من خلال بحثه في الحالتين إلى أن سيطرة السلطة التنفيذية على الإدارة والمجتمع ككل هي ما يميز الدولة التي ظهرت في البلدان الإسلامية بعد الحرب العالمية الأولى، وضمن المرحلة الاستعمارية في البلدان التي وقعت تحت الاستعمار. حيث كان فيها ملك يحكم وفق صياغات دستورية مطاطة تضفي عليه قدرا من الشرعية، دون أن تتيح له الاستقلال، أو الرجوع إلى قوة أعلى من قوة الحاكم الفعلي (الجيش في تركيا) أو المستعمر في البلدان المستعمرة.
وقد سيطر على مرحلة الاستقلال التالية في معظم البلدان العربية النموذج الذي بلوره جمال عبدالناصر أولا، من الإطاحة بالملكية وتأسيس حكم استبدادي، والذي سرعان ما تكونت مستنسخات له، أو تنويعات عليه في سوريا والعراق وليبيا والجزائر وتونس. وإن استمرت الملكية على حالها في حالات نادرة مثل الأردن والمغرب. ويتساءل عن سر خضوع تلك الدول جميعا لسيطرة السلطة التنفيذية؟ وكيف لم تظهر فيها سلطة تشريعية أو حتى قضائية قوية تحقق التوازن معها؟ وأصبح الحكم عسكريا ومخابراتيا ليس في الدول العربية وحدها، وإنما في كثير من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية على حساب دولة القانون. ويطرح عددا من الإجابات على هذا التساؤل، منها أن ما ساعد على استمرار دول الاستبداد والحكم العسكري في الاستمرار هو أن الطبقة التي كانت مستودع التوازن بين القوى قد تم تبديدها والاستغناء عنها واحتواء ما بقي منها ضمن آلة السلطة ومؤسساتها. لذلك كان إغراء الدعوة إلى العودة للإسلام في هذه الدول كبيرا، وتزايدت مع تفاقم الأوضاع قدرتها على تجميع الجماهير، وعلى تغذية حنينها العاطفي والروحي للعودة إلى فراديس مفقودة، تحت شعارات فضفاضة جوفاء من نوع «الإسلام هو الحل».
الحالة السعودية وتجليات القديم في مرايا مشوهة:
أما الفصل الأخير في هذا القسم فهو بعنوان «الاستثناء السعودي» باعتبار أنه يمثل الاستثناء الذي يمكن اختبار القاعدة من خلاله. وباعتبارها البلد الإسلامي الوحيد الذي استبقي قدرا من النظام الدستوري الإسلامي التقليدي، الذي يلعب فيه الفقهاء دورا بارزا في إضفاء الشرعية على السلطة. ويعود بنا إلى ما يدعى بالدولة السعودية الأولى عام 1744 وتحالف محمد بن سعود مع محمد بن عبدالوهاب، لتأسيس دولته في الدرعية وفق تصور وهابي للإسلام. وهي الدولة التي هزمتها حملة محمد علي الأولى لتأديب الوهابيين عام 1813، بناء على أوامر السلطان العثماني، لاستيلائهم على الأماكن المقدسة في الحجاز، ومنعهم الحجيج من أداء المناسك. ثم لاحقت حملة أبنه إبراهيم باشا بعد ذلك تلك الدولة السعودية الأولى إلى نجد، ودمرت قلاعها وعاصمتها الحصينة في الدرعية عام 1818، وأسرت أميرها عبدالله بن محمد أبن سعود وأفراد عائلته ومعاونيه وأرسلتهم في الأغلال، هم وما بقي من أسرة شيخه محمد بن عبدالوهاب إلى مصر، ومنها إلى القسطنطينية (اسطنبول حاليا)، حيث أمر السلطان بإعدام عبدالله بن سعود فيها. وأنهت مصر بذلك حكم الدولة السعودية الأولى.
وبعد أن يمر الكتاب مرور الكرام على ما يسمى بالدولة السعودية الثانية، والتي كانت معروفة باسم إمارة نجد، وعنده كل الحق، فلم تكن سوى دولة خاملة وعت الدرس الذي لقنه لها إبراهيم باشا، واكتفت بسيطرتها على نجد، واعتمد حكامها أيضا، على التحالف بين أسرتي ابن سعود وابن عبدالوهاب، فقد كانوا أبناء التزاوج بين الأسرتين. يصل إلى ما يسمى بالدولة السعودية الثالثة التي أسسها عبدالعزيز بن سعود بعد غارته على الرياض عام 1902، واغتياله لحاكمها عجلان بن الرشيد، والانطلاق منها للإجهاز على نفوذ آل الرشيد في نجد. وهي العملية التي استغرقت منه عقدين كاملين من المؤامرات والغارات والحروب. أسس خلالها تنظيم (الإخوان) وهو تنظيم ديني عسكري عام 1912، وقبل حسن البنا بعقدين من الزمان، وقد يكون هذا التنظيم مصدر إلهام البنا، بتوجهاته الوهابية، وهو أمر يحتاج إلى بحث وتدقيق. وأقام هذا التنظيم على تحالف وثيق مع السلفيين وأجداده وأخواله من بني عبدالوهاب (الوهابيين). وعلى مباركة الانجليز له، بعد عقده «معاهدة للصداقة والتعاون» معهم، تعرف باسم معاهدة دارن، عام 1915. والتي اعترفت بخضوع منطقة نجد لحكم آل سعود ووضعتها تحت الحماية البريطانية وقررت له معونة سنوية دائمة؛ مقابل تنفيذ مخططهم في المنطقة، ومواصلة الحرب ضد ابن الرشيد الذي كان متحالفا مع الدولة العثمانية، حتى استطاع الاستيلاء على كل أراضي آل الرشيد بحلول عام 1922، وجعل عاصمتهم الرياض عاصمة لملكه.
ثم أخذ بعدما أجهز على نفوذ آل الرشيد بمباركة الانجليز، يهدد نفوذ الشريف حسين بن علي، أمير الحجاز، في الحجاز وهي منطقة نفوده، والذي كان قد تحالف هو الآخر إبان الحرب العالمية الأولى مع الانجليز، وأرسل ابنيه فيصل وعبدالله للحرب مع لورنس العرب الشهير، وفتح دمشق. وقد انتهز عبدالعزيز هذه الفرصة وغزا الحجاز بجيش جرار، بعدما أعلن الشريف حسين، وبمباركة إنجليزية وقتها، أنه خليفة المسلمين عقب إنهاء أتاتورك للخلافة عام 1924. فاستولى عليه عام 1925 منهيا سبعمئة عام من حكم الهاشميين به، وضم الحجاز للمناطق الخاضعة له في نجد، بمباركة انجليزية أيضا خلصته من بني هاشم، بأن نصبتهم، تعويضا على خيانتها لهم لصالح ابن سعود، ملوكا على العراق والأردن. وحينما أرادت بعض عناصر في (الإخوان) مواصلة الحرب، بعد فرض الانجليز حمايتهم واعترافهم به على كامل نجد والحجاز، وتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعها له الانجليز فيما يتعلق بإمارات الخليج الأخرى، قرر الدخول معهم في مواجهات عسكرية مفتوحة، وأجهز على تنظيم الإخوان وأنهاه في معركة سبيلة عام 1929. وهي المعركة التي لعب فيها سلاح الطيران البريطاني دورا حاسما لصالحه.
ومع مرور ما يقرب من القرن على حكم تلك الأسرة، فليس للمملكة فيها دستور مكتوب، كما هو الحال في الدولة الإسلامية التقليدية، على عكس معظم بلدان المنطقة العربية. كما أن تأسيس الدولة على التحالف التاريخي بين أسرة ابن سعود، وأسرة الشيخ محمد ابن عبدالوهاب أبقى فيها على دور الفقهاء في تكريس شرعية الحكم، وفي درء ما يزعزع هذه الشرعية عنه، كما حدث مؤخرا في فتوى عبدالعزيز بن باز بشرعية وجود الجنود الأمريكيين على أرض الرسالة الطاهرة إبان حرب طرد أميركا لصدام حسين من الكويت واستعمارها له بدلا منه. وكيف أن رفض أسامة بن لادن العلني لفتوى بن باز جعله عدو أميركا الأول، بعد أن كان أداتها الأساسية في طرد السوفييت من أفغانستان. بل لم يغمض لها جفن حتى قتلته بدم بارد في غرفة نومه، وألقت بجثته طعاما سائغا لأسماك البحر. فبمثل تلك الفتوى الشرعية التي أصدرها الشيخ الوهابي بن باز تحملت الشريعة ومفسروها من الفقهاء الوزر، ورفعته عن كاهل السلطة السعودية كي لا ينال الأمر الجسيم من شرعيتها.
ويطرح فيلدمان في هذا المجال فكرة طريفة وهي أن العائلة السعودية بأمرائها الذين تجاوز عددهم سبعة آلاف هي نوع من الحزب السياسي المنظم، لما يربط بين أعضائها من مصالح اقتصادية وسياسية كبيرة. وأن طبقة الفقهاء الوهابيين في المملكة هم أنصار هذا الحزب الأساسيون الذين يتقاسمون معه السلطة، وشيء من المال. وهم الإدارة الثقافية أو الأيديولوجية لهذا الحزب، والمهمة إعلاميا لتسويغ شرعيته دينيا وتسويقها شعبيا معا باسم السلطة الأعلى وهي السلطة السماوية. خاصة وأن اكتشاف النفط بكثافة في المملكة، وتحولها إلى دولة ريعية لا تعتمد على دافعي الضرائب، وما يرتبط بدفع الضرائب من حقوق لدافعيها من المواطنين، وإنما على ما تغله الأرض، يجعلنا بإزاء دولة توزع على مواطنيها العطايا و«المكرمات» بدلا من أن تأخذ منهم ما تدير به مؤسساتها. وهذا ما أتاح لها خلق هذا المظهر الخادع من تبني بنية دستورية إسلامية، استطاعت فيه أن تزيل بسحر الأموال النفطية السخية التوتر التقليدي بين القوانين الإلهية، والقوانين البشرية. وأن تمنح الشريعة وتحكيم شرع الله سلطة معلقة دوما بمكانة من يفسرها، ومدى قربه من مؤسسة السلطة، أو الحزب العائلي. لذلك ينهي الكتاب هذا الفصل قائلا: «وبالنسبة للتصور الدستوري التقليدي في الدولة الإسلامية، فإن النظام الدستوري السعودي يبدو وكأنه صورة له في مرآة مشوهة. حيث تجد فيه كل العناصر المألوفة، لكن بعدما شوهتها المرآة وغيرت حجومها وأوضاعها، وحورت علاقاتها بسبب تأثيرات الثروة النفطية. وفي هذا فإن السعودية لا تكشف عن النظام الدستوري الذي كان من الممكن له أن يكون، وإنما عما يحدث للبني الدستورية التقليدية حينما تواصل وجودها في ظل ظروف مختلفة جذريا، بدلا من تبديلها ببنى أكثر اتساقا مع العصر الحديث»(ص 102)
الصعود المرتجى للدولة الإسلامية الدستورية الحديثة:
يعنون فيلدمان القسم الثالث من كتابه بـ«صعود الدولة الإسلامية الجديدة»، ويبدأ هذا القسم بفصل بعنوان «الإسلامية كأيديولوجية حداثية» بمعنى أنها تنتمي إلى عصرنا الراهن الذي سادت فيه عملية التحديث الموسومة بالحداثة. يستهله بتكرار نعيه لإخفاق طبقة الفقهاء ورجال الدين الذين خسروا مكانتهم نتيجة للتغيرات الدستورية الحديثة في بلدان العالم الإسلامي في مقاومة هذا التحول وإعلان الحرب عليه؛ باعتباره تحولا كارثيا. ويلاحظ أن الدعوة للعودة لنظام إسلامي في العالم السني لم تنطلق من العلماء والفقهاء، على عكس ما جرى بالنسبة للعالم الشيعي، وإنما من الحركات السياسية الإسلامية وأشهرها حركة الإخوان المسلمين، وغيرها من الحركات المماثلة أو المناظرة التي تملأ البلدان الإسلامية من باكستان وأفغانستان وحتى السودان والصومال، ومن العراق والخليج وحتى تونس والجزائر والمغرب. بل وامتدت إلى عدد من بلدان جنوب آسيا الإسلامية. وأهم ما يلاحظه على تلك الحركات هو أن من يقودونها ليسوا فقهاء مؤهلين، أو علماء مدربين، وإنما مسلمين عاديين تعلموا في نظام التعليم المدني على الطريقة الغربية. ودرس عدد كبير منهم العلوم التجريبية، لا علوم الدين. ولكنهم وجدوا في الإسلام سبيلا للتعبير عن إحباطاتهم من النظام السياسي.
ويتساءل في هذا الصدد: لماذا لم يشكل علماء السنة حركة قوية لاستعادة الدولة الإسلامية، كما فعل نظراؤهم من الشيعة، الذين أسسوا بالفعل دولتهم في إيران؟ ويرى أن الإجابة على السؤال تكمن في الطريقة التي تختلف بها الرؤية الإسلامية الجديدة عن سابقتها التقليدية، التي انبثقت شرعيتها الدستورية عن طبيعة المجتمعات الإسلامية وتبلورت فيها بشكل عضوي. أما الحركة الإسلامية الحديثة فإنها دستوريا بنت أيديولوجيات القرن العشرين الشمولية من القومية الاشتراكية (وهي الأيديولوجيات التي عرفت باسم النازية والفاشية) إلى الشيوعية، وهو أمر كشفت عنه في مقالات عن نشأة حركة الإخوان المسلمين المصرية في سياقات تنامي مد الحركات النازية والفاشية عقب الأزمة الاقتصادية العالمية الطاحنة عام 1929/ 1930. وأنها تسعى مثلها للسيطرة على مقاليد الحكم في الدولة الحالية، لتأسس حكمها عن طريق تغيير القوانين فيها. وهو حكم لا يعبر عن طبقة معينة، بقدر ما يهدهد أحلام العودة إلى عالم مثالي وفراديس مفقودة أو موعودة لا وجود لها، إلا في صفحات كتب مشكوك في مصداقية الكثير منها. فهي لا تسعى لتأسيس دولة مغايرة، وإنما للسيطرة على الدولة الحالية بغية استخدامها لتحقيق مآربها. وقد رافق ذلك فقدان العلماء والفقهاء مكانتهم التقليدية في المجتمع، وتحولهم إلى مجرد مختصين في أمور الأحوال الشخصية، والخلافات الزوجية، وليس أمور السياسة وإدارة شؤون الدولة.
صحيح أن الدوافع الأساسية لأيديولوجيي تلك الحركات، مثل حسن البنا أو سيد قطب، كانت الرغبة في استعادة مكانة البلاد الإسلامية بعد تزعزعها عقب الحرب العالمية الأولى، وانتهاء الخلافة، إلا أنها تغاضت عن البحث في الأسباب الحقيقية لانهيار تلك المكانة، سياسية كانت أو اقتصادية أو علمية، ناهيك عن العسكرية، واكتفت بالترويج لفكرة أن انهيارها نتيجة لتخلي مجتمعاتها عن الإسلام. هنا يربط الكتاب بين أيديولوجية تلك الحركات والحركة الوهابية التي رأت أن كل شرور المجتمع ليست ناجمة عن التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وإنما عن الابتعاد عن القرآن. ودعت مثلها إلى العودة له. وهو الأمر الذي يفسر أولا شعاراتها الوهابية المصدر «القرآن دستورنا» و«الإسلام هو الحل»، وثانيا دعم السعودية التاريخي للكثير من تلك الحركات، من ناحية، وتبسيطية كثير من أيديولوجياتها واتسامها بقدر كبير من البرجماتية واستعدادها للتخلص من احتكار الفقهاء لتفسير النص القرآني، من ناحية أخرى.
ومن المفارقات التي تثير اهتمامه هو أن هذه البرجماتية لا تمنع تلك الحركات الإسلامية من الدعوة إلى تطبيق الشريعة، دون أن يعني هذا في حقيقة الأمر العودة إلى بنية دستورية أو قانونية إسلامية تقليدية، أو منح الفقهاء دورا كبيرا في صياغة هذه المنظومة الدستورية أو القانونية. لأن الحركات الإسلامية تسعى إلى إدارة أداة الدولة البيروقراطية والسيطرة عليها، وليس إلى استعادة دور العلماء والفقهاء التقليدي. ولهذا كان من الطبيعي أن يكون عنوان الفصل التالي «الشريعة الإسلامية وشريعة الإسلاميين: قضية العدالة»، حيث يبرز كيف أن دعوة الحركات الإسلامية إلى دولة إسلامية، يستخدم فيها الإسلام باعتباره الصفة التي ستمكن الدولة، في صيغتها الحديثة، ودون أي برنامج تفصيلي أو دقيق عادة، من استعادة الأمجاد التليدة، والنهوض بالمجتمع الإسلامي من التخلف. وما يزيد الطين به، هو صياغات مطاطة من نوع «الإسلام هو الحل» أو صياغة سيد قطب لمفهوم «السياسة الشرعية» التي تتجسد في الدولة الحديثة التي تطبق روح الإسلام بالصورة التي تحررها من الالتزام ببنية الشريعة الدستورية القديمة. فلدى الحركات الإسلامية جميعها مشكلة أساسية مع البعدين الدستوري والقانوني للشريعة.
ولتعويض غياب البعدين القانوني والدستوري من تصورهم للدولة الإسلامية، واللجوء لهذا الخواء الأيديولوجي، تركز الحركات الإسلامية على مفهوم العدالة باعتباره الرد السحري على فساد المجتمع الحديث وتخلفه. بالصورة التي تجعلها تلك الحركات مرادفا للإسلام، وعنوانا على أحزابها كما هو الحال الآن في مصر وتركيا. هنا يميز بين ثلاثة أنواع متضافرة من العدالة: العدالة الاجتماعية، والعدالة السياسية، والعدالة القانونية. وقد جعل سيد قطب الأولى عنوانا لأحد كتبه المهمة (العدالة الاجتماعية في الإسلام) عام 1949 وهو الكتاب الذي يؤكد فيه أن الحياة الاجتماعية في الإسلام تشمل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، ويسعى فيه لرسم طريق وسط بين الاشتراكية والرأسمالية حيث يركز على عدالة الفرص وليس على عدالة النتائج، ناهيك عن عدالة التوزيع. لكن كتابه هذا لا يتطرق للعدالة السياسية وإعادة توزيع الثروات إلا من خلال الزكاة وغيرها من المكوس التقليدية، ولا يكشف لنا عن كيفية بناء نظام دستوري أو قانوني إسلامي. هذا بالرغم من تركيز كل حركات الإسلام السياسي على التخلص من الحكومات المستبدة الظالمة، إلا أن أيا منها لم يقدم لنا برنامجا قانونيا أو دستوريا لتأسيس بديلها المرجو: الحكومة الإسلامية العادلة وغير المستبدة.
ولأن كل ما تستطيعه الحركات الإسلامية في هذا المجال، بكل منظريها من حسن البنا إلى سيد قطب، هو الحديث عن تطبيق الشريعة، يعنون الكتاب فصله التالي: «مقرطة الشريعة؟» وعلامة الاستفهام في نهاية العنوان تطرح تساؤلها هل يمكن أن تصبح الشريعة بحق أساسا دستوريا ديموقراطيا لدولة قانون؟ خاصة وقد حدثنا عن استهجان أغلب البشر في الغرب والشرق على السواء لبعض الممارسات المرتبطة بتطبيق الشريعة قانونيا من جلد وقطع رقاب في الأماكن العامة. وهل هناك شريعة دون العلماء والفقهاء الذين كانوا أصحاب الحكم فيها وحراس تطبيقها؟ وماهي مبررات تطبيق الشريعة في مجتمع استوعب جل مبادئها في قوانينه الوضعية؟ وما الذي سيحمي المجتمع من خطل تطبيقاتها عندما تتم في غياب الفقهاء والعلماء؟ هذا هو في رأيه مصدر تناقض المشروع ولا ديموقراطيته، حيث يحافظ في داخله على سر ضعف الدستور العثماني الأول، وعلى إخضاع بنية قانونية حديثة لمقولات عقائدية عتيقة. لا مخرج منها إلا بتبني الحل العقلاني القديم الذي بلوره السنهوري في هذا المجال.
لكن المفارقة أن كثيرا من تلك الحركات الإسلامية، وقد تبنت مفهوم الديموقراطية وشرعية الصندوق المستمدة من الانتخابات، تقع في تناقض آخر، ألا وهو العجز عن أن تفرق بين شرع الله وشرعية من يقومون بالتشريع. لأنها عندما تصل للسلطة، تغيّب من انتخبها باعتباره مصدر الشرعية، واعتبار الله وشريعته هي مصدر كل شرعية، دون أن يكون أي من ممثليها المنتخبين قادرا على القيام بدور الفقهاء القديم، وتأويل النص الديني بما يضفي عليه شرعيته. فقد حل فيها الناشط السياسي بضحالة معلوماته الدينية، مكان الفقيه وافتقد بحق علمه ومعارفه. ولم تعد شرعية هذا الناشط مستمدة من علمه ومعرفته وأنه المؤول المعتمد للنص المقدس، فليس لديه القدرة على تأويله، ولكن لمرارة المفارقة للشعب الذي انتخبه، والذي لا يعترفون بأنه مصدر السلطات. لذلك يجد المشرع الجديد نفسه في مأزق تخلى فيه الفقهاء عن التشريع، وتخلى فيه المشروعون عن التأويل.
مهزلة التشريع باسم الإسلام وفرض الاستبداد:
أما الفصل التالي «دستورية الشريعة» فإنه يتناول مهزلة التشريع باسم الإسلام لمن لا يملكون القدرة عليه ولا يستمدون سلطتهم منه. وكيفية تسخير الديموقراطية لفرض الاستبداد الديني وضيق الأفق، باسم الشريعة وهي منه براء. ويقترح هنا أهمية «المراجعة القانونية» لتلك التشريعات، والنص في الدستور علي حق المحكمة الدستورية في المطالبة بإلغاء ما لا يتماشى مع الإسلام، وهو الأمر الذي تضمنه كل من الدستور الأفغاني عام 2004، والعراقي عام 2005. لاحظ أنه يشير إلى دساتير صدرت برعاية أمريكية واضحة. وهو الحل الذي يمنح تلك المحكمة التي لا راد لقراراتها الدور الذي كان منوطا من قبل بالفقهاء والعلماء في تأويل التشريعات، وتصحيفها. ويتبع هذا الفصل بفصل آخر بعنوان «النموذج الدستوري الإسلامي: واعد أم عديم الجدوى؟» وهو السؤال الذي يحاول الإجابة عليه في ظل مقرطة الشريعة وقيام الإسلاميين بالتشريع دون توفر القاعدة الفقهية المطلوبة. زاعما أن «المراجعة القانونية» هي أهم إضافة للفقه الدستوري الإسلامي منذ الدولة العثمانية. حيث ستمكن الإسلاميين من مقرطة الشريعة بحق وتحقيق العدالة المرجوة بأسس ديموقراطية خالصة. لكنه يدرك أيضا اتساع الفجوة بين النظرية والتطبيق، لأن «المراجعة القانونية» لم تتمخض في حالتي أفغانستان والعراق، عن نتائج مهمة، فلم تعبأ المؤسسة التشريعية أو التنفيذية، بقرارتها، لأن هذا أمر يستغرق زمنا تستقر فيه التقاليد.
أما الفصل التالي «الاختيار الإيراني» فإنه يعقد مقارنة مهمة بين ما دار في العالم السني وانتهى إلى تهميش طبقة الفقهاء من العملية الدستورية كمصدر للشرعية في الدولة الإسلامية، وما دار في العالم الشيعي وأدى إلى تعزيز دور الفقهاء كمصدر للشريعة الدستورية للحكم. ويعود في هذا الفصل إلى مفارقة مهمة وهي مسألة الخلافة نفسها، أي خلافة النبي محمد (صلعم)، في المذهبين السني والشيعي، والتي منحت «أهل الحل والعقد» دورا أساسيا في اختيار خليفته في العالم السني من ناحية، وفي تأويل الشريعة من ناحية أخرى، وبين فكرة الإمامة في المذهب الشيعي، وما ترتب عليها من بقاء الإمامة في ذرية الإمام علي وأبنائه من بنت رسول الله. وهي الفكرة التي همشت دور الفقهاء، ولا تتحدث عما يعرفه السنة من أهل الحل والعقد.
لكن المفارقة الملفتة للنظر هي أنه باختفاء الإمام الثاني عشر، اكتسب الفقهاء مكانة يحسدهم عليها نظراؤهم من السنة. وأصبح أكبر الفقهاء عندهم عندما يحظى بأسمى الألقاب الدينية«آية الله روح الله»، أقرب ما يكون إلى المفهوم البابوي القديم الذي يجعل البابا ظل الله على الأرض. كما أن الدرجة الأولى في سلم الفقه عندهم وهي «المجتهد» تناظر أعلى درجات التمكن الفقهي عند السنة، والتي يصف بها مؤسس فكرها الدستوري مثل الماوردي. وبعد تناول للحالة الإيرانية منذ دستورها الأول بين 1905 – 1911 وحتى دستور الثورة الإسلامية الذي وضعه الخميني بعد 1979 يخلص إلى أن مركزية دور الفقيه، واعتماده على آليات النظرية السياسية وبرجماتيتها، لم تفض إلى نظام دستوري إسلامي حر يكرس سيادة القانون، أفضل مما انتهت إليه الحال عند السنة.
ويواصل في الفصل التالي «حكم الفقهاء» الحديث عن بعض نجاحات الشيعة الدستورية وعن أنهم كانوا أول من أدخل «المراجعة القانونية» على البنية التشريعية للدستور في الدولة الإسلامية، بإصرارهم على مرجعيتهم لدستور 1905 الإيراني، والتأكيد على دورهم في توافق مواده مع مبادئ الشريعة. وهو الأمر الذي له نظائره في تشريعات غربية كثيرة. وعن كيف أنهم قاوموا بشدة عملية التهميش التي عصفت بنظرائهم من السنة، وخاصة منذ عام 1925 حينما قرر الشاه تحديث الدولة على طريقة أتاتورك العلمانية. وكيف تحولت «قم» كعبة الفقه الشيعي في إيران، إلى مركز مناوئ لعملية العلمنة ومصدر للمقاومة الشعبية للاستبداد الذي نتج عنها. مما أدى إلى نفي الخميني عام 1963 حيث أمضى أعواما طويلة في النجف بالعراق، قبل طرد صدام حسين له، وانتقاله للندن ثم باريس التي قاد منها عودته المظفرة لحكم بلاده عام 1979، نتيجة لثورة لم تكن بأي حال من الأحوال دينية، ولم يصنعها الملالي. بل كانت القوى المدنية المختلفة هي التي لعبت الأدوار الكبيرة والحاسمة في التمهيد لها، وتنظيمها ونجاحها، ولكن وكأن التاريخ يعيد نفسه، كانت القوى الإسلامية هي من ركبت موجتها.
ويتناول الكتاب هنا دور المعارضة العلمانية لحكم الشاه، وكيف تصورت بأجنحتها السياسية المختلفة أن باستطاعتها التخلص من الملالي بعد نجاح الثورة. لكن المفارقة كانت أن الخميني هو الذي استطاع أن يتخلص من صناع الثورة من القوى المدنية، بدءا من أبو الحسن بني صدر وحتى مجاهدي خلق. وأن يصوغ دستورا إيرانيا يجسد أفكاره المحددة عن ولاية الفقيه، وأن يحيلها إلى ثورة إسلامية تعتمد على تنظيم الملالي القوي والمنشر في المدن والقرى. أليس هذا شبيها بما يفعله الإخوان الآن في مصر. ثم يتريث هذا الفصل قليلا عند حكم الفقهاء الذي أسسه الخميني، باعتبار أنه غير مسبوق في التاريخ الإسلامي كله. حيث لم يعد الفقهاء سدنة مراقبة تنفيذ الحاكم للشريعة، ومصدر شرعيته، وإنما أصبحوا الحكام الفعليين للبلاد. لأن الدستور الإيراني لم يكتف بولاية الفقيه، بل أحال الفقهاء إلى مؤسسة فوق مؤسسة الحكم الديموقراطية من خلال «مجلس الوصاة» المنوط به التأكد من إسلامية كل التشريعات، والتي امتدت في الممارسة إلى نوع من المكارثية بالتأكد من إسلامية كل من يتصدون لها، أو يترشحون لأي انتخابات. ويكشف هنا كيف أدى هذا الأمر إلى انقلاب كامل في دور الفقهاء. لأنهم حينما استولوا على السلطة بدلا من الاكتفاء بدور الرقابة عليها، أثبتوا أنهم لا يقلون ديكتاتورية واستبدادا عن نظرائهم من الحكام في الجانب السني من الدول الإسلامية. ولا غرو فقد وصل تنويع أقل علما وفقهية من ملالي إيران للحكم في دولة سنية مثل أفغانستان أيام حكم طالبان، وهم مجرد طلبة فقه لا يبلغ أي منهم مكانة المجتهد، وكانت النتيجة كارثية بكل معنى الكلمة.
مفارقات مؤسية لم تنل من سحر الحلم الغامض:
أما فصل «الشريعة كملجأ أخير» فإنه يتناول التجربة الصومالية بعد انهيار السلطة المركزية وانتشار الفوضى في الصومال في تسعينيات القرن الماضي. وكيف استطاعت المحاكم الشرعية أن تعيد قدرا من الأمن والنظام لمجتمع تفشت فيه الفوضى، وتحاربت فيه القبائل المختلفة، ولم تعد التقاليد القبلية التي يمكن أن تحل الخلافات داخل القبيلة، قادرة على التعامل مع العنف الذي ينشب بين القبائل المختلفة. ومع أن ما يمكن دعوتهم بالفقهاء أو العلماء في الصومال كانوا يفتقرون إلى المعرفة الكافية أو التدريب المطلوب، فإن ديانة القبائل بالإسلام، وتصورها بأن هؤلاء الفقهاء قادرون على تأويل الأحكام، والحكم بالعدل وفق الشريعة، مكن هذه المحاكم من بلورة ما يمكن دعوته بشكل بدائي من أشكال الدولة القادرة على توفير قدر من الأمن لمواطنيها. لكن التدخل الأمريكي/ الأثيوبي في الصومال عام 2007 نتيجة اتهام الولايات المتحدة للمحاكم الشرعية بالإرهاب، أجهز على تجربة استطاع فيها العلماء والفقهاء في بلد سني توفير قدر من العدالة والتمتع بمقدار لا بأس به من الشرعية.
أما الفصل الأخير في هذا القسم «مستقبل الدولة الإسلامية» فإنه يبدأ بتقرير مفارقة مؤسية وهي إخفاق الحكومات الإسلامية التي يحكمها الفقهاء في التجربتين الإيرانية والأفغانية، ناهيك عن التجربة السعودية، لم تمنع شعوب البلدان الإسلامية من الرغبة في حكومات إسلامية بشكل ما. فمن الأمور المدهشة زيادة شعبية الأحزاب التي تصف نفسها بالإسلامية. وهو الاتجاه الذي بدأ في تسعينيات القرن الماضي واستمرت شعبيته في التنامي طوال العقد المنصرم من هذا القرن. وقد بدأ هذا التيار بنجاح الإسلاميين في الانتخابات الجزائرية عام 1990 ولم نر حتى الآن توقفه أو انصراف الجماهير عنه. بل نجد تجليات مختلفة له في العراق، بين كل من السنة والشيعة، وفي فلسطين عام 2006 مع نجاح حماس، وفي لبنان ونمو شعبية «حزب الله» ومع جبهة العمل الإسلامي في الأردن، وبعد انطلاق الربيع العربي في كل من تونس والمغرب ومصر.
ولا نعرف إن كان هذا مجرد تصويت احتجاجي أم أن غوايتهم نابعة من خطابهم الذي يعلن اهتمامه بالعدل وإنصاف الفقراء، وهذا ما يجذب حتى الطبقة الوسطى للتصويت لهم. ويلاحظ أن تصاعد شعبية هذا التيار تتزاوج مع تنامي العنف وترتبط بنيويا به في حالتي حماس وحزب الله. ومع أنه يتوقع أن تمكن تلك الأحزاب عند وصولها للحكم من إحداث تغييرات دستورية سيزيد من وتيرة العنف ولن يقلل منها، وسيفاقم حالة الفوضى مما سيحول بالقطع دون التطبيق الكامل للنموذج المثالي للإسلام. ويتناول هذا الفصل بشيء من التفصيل الحالة الجزائرية وخشية الغرب وقتها من وصول الإسلاميين إلى السلطة والتي تجلت في تأييد كل من فرنسا والولايات المتحدة للانقلاب العسكري ضدهم، وحرمانهم من ثمار فوزهم في الانتخابات، مما أدى إلى اندلاع الفوضى والعنف. وهو الأمر الذي تكرر في حالة حماس بعد نجاحها في الانتخابات، حينما شجعت الولايات المتحدة فتح ضد حماس، مما حدا بالأخيرة إلى الانقلاب على السلطة الفلسطينية والاستقلال بغزة، وقسّم المعسكر الفلسطيني.
ويؤكد أن كل هذا لم ولن ينال من غواية الأحزاب الإسلامية على شعوب البلدان الإسلامية. ولكن تبدد سحر تلك الأحزاب مرتبط عنده بمدى نجاح الحكومات العلمانية في توفير العدل لشعوبها، وهو الأمر الذي لا نجد أي دليل على حدوثة في المدى القريب. فطالما أخفقت الحكومات المدنية في تحقيق هذا العدل المرتجى، ستظل شعوب البلدان الإسلامية مقتنعة بالحق أو بالباطل بضرورة إتاحة الفرصة لتلك الأحزاب لتجرب حظها. فالسبيل الوحيد للقضاء على غواية الأحزاب الإسلامية وسحرها الشعبي عنده، هو تركها للحكم، فإن أخفقت في تحقيق العدل كان هذا أفعل في تبديد سحرها من كل الحرب التي تشن ضدها، من الغرب خاصة. وهو الأمر الذي رأينا بداية تجلياته في حالة الإخوان في مصر في الشهور القليلة الماضية.
ويعرج هذا الفصل أيضا على الحالة التركية وحزب رجب طيب أردوغان (العدالة والتنمية) والذي يجعل العدالة شعارا له وجزءا من اسمه. ويوازن نجاح الحالة التركية بإخفاقات الحالة الباكستانية الأكثر منها قدما، والأشد منها تخبطا. فمع إعلان الدولة لنفسها بأنها دولة إسلامية، ومع أن الدستور الباكستاني ينطوي على الكثير من المواد التي تحلم بها الأحزاب المطالبة بتطبيق الشريعة، إلا أن الحالة الباكستانية تجعل النجاح النسبي للحالة التركية هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها. خاصة إذا ما لاحظنا أن كثيرا من نجاحات أردوغان في تركيا لا ترتبط بتطبيقه للشريعة، ولا حتى بتحقيقه للعدل المرتجى، والذي تتاجر الكثير من الأحزاب الإسلامية به، وإنما بحرصه على تحقيق الشروط التي تمليها على بلاده الرغبة في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ومع ذلك كله يتنبأ الكتاب في نهايته باستمرار نمو الحكومات الإسلامية، والتي ستجنح في الوصول الحكم، ثم تنحو بعدها أكثر وأكثر نحو التسلط والتشبث بالحكم. لأن تركيزها على الإسلام وتطبيق الشريعة يتحقق على حساب تهميش أمور أخرى وفي مقدمتها العدالة وحقوق الإنسان. ويخلص إلى أن من يتصورون أن التيار الشعبي المؤيد لتلك الأحزاب سينحسر أو حتى يتقلص يتسمون بالسذاجة. ولذلك فإنه يدعو الولايات المتحدة لدعم تلك الأحزاب والعمل مع حكوماتها حين وصولها للسلطة، لأن مثل تلك الحكومات لن تشكل بأي حال من الأحوال خطرا على مصالحها في تلك البلدان. ويزعم أن تأييد الولايات المتحدة لها ربما يساهم في هذا المنعطف التاريخي المهم الذي تعيشه البلدان الإسلامية للتحول نحو إسلام يزاوج بين الشريعة والديموقراطية، بدلا من ربطها بالاستبداد.
الثورة المضادة عبر الإسلاميين وحكم القانون:
عرضت على القراء هنا كتاب فيلدمان (سقوط وصعود الدولة الإسلامية) والذي صدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي، وبدأت فكرته كما يقول مؤلفه في «القصر الجمهوري» ببغداد؛ حينما كان المؤلف مستشارا لبريمر عقب الغزو الأميركي للعراق. ونحن نعرف أن شروط البداية وسياقاتها لها دلالاتها المهمة على المنتج النهائي وغاياته. فميلاد فكرة الكتاب في معمعة احتلال العراق، أمر بالغ الأهمية على مآلات مشروعه. ثم نضجت رؤاه وتبلورت مقولاته في أروقة مؤسسات المحافظين الجدد من ناحية، ومراكز البحث الجامعية من ناحية أخرى. فنحن إذن بإزاء وثيقة تعتمد على المعرفة والبحث الأكاديمي وتسخرهما في خدمة أهداف سياسية محددة، وتغرق قارئها في تفاصيل كثيرة تدعم بها مقولاتها من ناحية، وتقنعه بموضوعية خلاصاتها. لأن من متطلبات الدولة الحديثة بناء قراراتها على أسس من الدراسة الرصينة، حتى تحقق تلك القرارات مصالحها بكفاءة وفاعلية. ولاشك أن هناك جهدا علميا وبحثيا مبذولا في بناء أطروحة كتاب فيلدمان، ومجهودا ملحوظا في تسويغ ما خلصت إليه تلك الدراسة من توصيات. ولكن الجهد والتوصيات معا من نوع الحق الذي يراد به باطل. لأنه يخفي في تضاعيف توصياته التي تنبع كلها من حرص على مصلحة أميركا ودورها في المنطقة، حرص أكبر على مصلحة دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، دون أن يرد في الكتاب أي ذكر لتلك الدولة، فهي الغائب الحاضر أبدا في كل مقولات المحافظين الجدد وكل توصياتهم السياسية.
ولأن مؤلف الكتاب تلميذ نجيب للثعلب الصهيوني الماكر العجوز برنارد لويس، فإنه يعرف حقيقة عمل الآليات التحتية لمؤسسة السلطة الأمريكية، ولحركية صناعة القرار في دهاليزها. وكما تعلم اليهود منذ نعومة أظافرهم درس «سالومي» أو «شلوميت» حسب اسمها العبراني، والتي استخدمت الإغراء والغواية الخطرة، ورقصة الخُمُر (جمع خمار) السبعةDance of the Seven Veils للحصول من هيرود حاكم فلسطين الجبار على رأس يوحنا المعمدان على طبق من الفضة، من أجل أمها. ها هو نوح فيلدمان يسعى للحصول على رأس العالم العربي، بل والإسلامي كله، برقصته الأكاديمية تلك على طبق من الفضة، ومن أجل أمه هو الآخر كيهودي صهيوني، كي يقدمه لقمة سائغة للدولة العبرية. ولكن قبل أن نحلل أهداف رقصته أمام صناع القرار الأمريكي، علينا أن نقدم للقراء خلاصات كتابه الخطير ذاك. إذ ينتهي كتاب فيلدمان بخاتمة بعنوان «الإسلامية والمؤسسات وحكم القانون» يستهلها بطرح سؤال مهم عن مدى قدرة هؤلاء الإسلاميين حال وصولهم للسلطة على تحقيق حكم القانون.
ويبدأ إجابته بالحالة الإيرانية التي برهنت على أن السلطة التي تحكم باسم الإسلام يمكن أن تتسم بالفساد الدستوري، كأي حكومة مدنية، وأن تتمتع مثلها بكراهية شعبها لعجزها عن تحقيق العدالة السياسية التي استخدمتها سبيلا للحصول على تأييده والصعود للسلطة. لكنه يرد على ذلك بأنه لو استطاع الإسلاميون تحقيق وعودهم بالعدالة السياسية فإن من المحتمل أن ينتشر حكم الشريعة في المنطقة العربية برمتها، بل وفي العالم الإسلامي من ورائها. ويري أن ذلك يعتمد على قدرة الإسلاميين على خلق مؤسسات جديدة تتسم بالتفرد والخصوصية والأصالة، والقدرة على تجسيد المثل الإسلامية في الواقع وبث الحياة فيها. ويقترح أن يتم ذلك عن طريق إنشاء نظام تشريعي وقضائي جديد يعتمد على الشريعة بعد مزجها ببعض الديموقراطية، في شكل سلطة للشريعة تعلو على سلطة التشريع، وتراقب كل ما يصدر عنها من قوانين، ويكون من حقها تمريرها أو إعادتها لتلك السلطة التشريعية لتعديلها كي تتفق مع شرع الله. (ألا يذكرنا هذا بالمادة 219 في الدستور الإخواني ودورها في تقييد تفسير المادة الثانية وفهمها لمبادئ الشريعة الإسلامية).
ويقترح فيلدمان أن تخضع لهذه السلطة التي سيوكل إليها التيقن من مطابقة أي تشريع «لأدلة الشريعة الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة» السلطة التنفيذية هي الأخرى كالسلطتين التشريعية والقضائية، لأن هذا وحده سيحقق حكم الشرع/ القانون، ويعلي سلطته فوق كل السلطات. لكنه يدرك أن حدوث هذا بالضبط في إيران لم يؤدِ إلى سيادة حكم القانون، وإنما إلى نوع جديد من الاستبداد. كما أن ما يسميها بأحلام «بول ولفوفيتز وأحمد الجلبي» الثورية لم تجلب الاستقرار ولا حكم القانون للعراق، بل نجم عنها تفشي الفوضى وعدم الاستقرار. وأن الحل الوحيد في رأيه، وقد استوعب درس التجربة العراقية المؤلم، بعدما شارك فيها عن كثب، هو التدرج في التغييرات الدستورية، والعمل على خلق بنية دستورية جديدة، تستفيد من الماضي، ولكن تصوغ رؤيتها للحاضر وفق نوع من العدالة السياسية التي تخلق ما تعد به برامج الإسلاميين قبل وصولهم للسلطة. ويرى أنه من الضروري أن يحرص الإسلاميون على سلامة مؤسسة الدولة، ويستولون عليها (بالتمكين)، ثم يشحنونها برؤيتهم الإسلامية من الداخل، ويوجهونها لتحقيق الشريعة (وهذه فيما يبدو هي التعليمات التي ينفذها مكتب الإرشاد بالكامل!). بصورة لابد أن تؤدي إلى تغيير السلطة القضائية من الداخل، (أليس هذا ما يفعله نائب محمد مرسي العام المطعون على شرعيته؟)، والأهم تغيير الثقافة القضائية ذاتها كما حدث في باكستان حيث يصبح مرجعها هو الشريعة وليس السلطة التنفيذية.
وبما أنه من المستحيل العودة إلى الأسس التشريعية والدستورية التي قامت عليها الدولة الإسلامية القديمة، فإنه يقترح أن يقوم الحكم الإسلامي الجديد على استخدام المؤسسات الراهنة في سن تشريعات جديدة. يعمل من خلالها حكم الإسلاميين الجديد على تحويل الدولة من النظام الفاسد القديم إلى نظام يعتمد على الشريعة. (هل كان منح مجلس الشورى سلطة التشريع مجرد صدفة إذن؟) ويربط هذا بضرورة احترام مؤسسات الدولة، وأن يحرص الجميع على استمرارها وفعاليتها، ويشعرون بأن وجودها في صالحهم، وإلا تفشت الفوضى، واختفى حكم القانون. وهو الأمر نفسه الذي يطالب به بالنسبة للتشريعات الجديدة التي تسعى لتطبيق الشريعة، فلكي تكتسب مشروعيتها، لابد أن تحظى بقبول واسع وتراضٍ كبير من الشعب، وأن يترتب عليها احترام صارم للقانون. كي يتمكن الحكم الإسلامي من تخليق شرعيته ومشروعيته معا. بل ويطالب بأن تربط الولايات المتحدة أي معونات تقدمها لتلك البلدان بمدى احترامها للقوانين والتشريعات الجديدة تلك. وأن تلعب دورا إضافيا في ترسيخها عبر ما يسميه بالاعتراف الأمريكي بتلك الإصلاحات، والثناء المبرمج والمحسوب عليها، بطريقة مدروسة تعزز مكانتها، بدلا من أن تنال من مصداقيتها لقدومها من الخارج.
الثورة المضادة وسر التأييد الأميركي للإخوان:
هذه هي الخلاصة التي أنهى بها فيلدمان كتابه، وهي خلاصة نجد الكثير من ملامحها فيما تسفر عنه تصرفات حكم الإخوان في مصر، وكأننا في تأملنا لما يدور في مصر نشاهد نوعا من التطبيق الفعلي لتلك التوصيات التي بلورها في كتابه قبل اندلاع الثورة المصرية، أو على الأقل استلهاما واضحا لها. بل إن معرفة ما جاء به نوح فيلدمان في كتابه، ودور هذا الكتاب كوثيقة صادرة عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في تحديد السياسات الأمريكية إزاء ما يدور في مصر، تساعدنا في تعليل الكثير من السياسات الأمريكية التي يوصي الكتاب بها. بل إننا نستطيع أن نفهم على ضوء تحليلاته عن أهمية بناء مؤسسة قضائية جديدة سر عصف حكومة الإخوان بالقضاء الحالي، كي تمهد الطريق أمام القضاء الجديد الذي يوصي به على طريقة بريمر في العراق (ألم يكن فيلدمان من أعوانه ومستشاريه؟) وسر غض أميركا الطرف عن انتهاكات مرسي للدستور ولحقوق مواطنيه ولحرية الصحافة معا، بل ودفاع فيلدمان نفسه في الصحف الأمريكية عن إعلانه الدستوري المشؤوم. بل إن حديثه عن أهمية احتذاء النموذج التشريعي والقضائي الباكستاني، يكشف لنا عن سر نقل آن باترسون، السفيرة الأمريكية في باكستان، إلى مصر بعد الثورة. وهي السفيرة التي استقبلت الإخوان قبل تقديم أوراق اعتمادها للمجلس العسكري بحفاوة بالغة، وعمل جمال الغيطاني ترجمانا خاصا لها حينما صحبها في جولة مصورة في القاهرة القديمة. ليس فقط لأن آن باترسون ذات تاريخ مشهود في الأمم المتحدة إبان حرب احتلال العراق، ودور نشيط في باكستان إبان التخلص من بنازير بوتو، ولكن أيضا لأنها أشرفت على هذه التحولات التشريعية والقضائية الباكستانية. هذا فضلا عن أنها طالعة من مطبخ مؤسسات المحافظين الجدد، وكان لنقلها للقاهرة، بعد بلائها الحسن في باكستان، دوره المحوري فيما حدث فيها من تحولات أوصلت الإخوان للحكم، وساهمت في تجاهل أميركا للغضب الشعبي من الإجهاز على الثورة بعمليات التمكين الإخوانية.
وتطرح علينا هذه الخلاصة سؤالا أساسيا: لماذا يحرص يهودي صهيوني من تلاميذ برنارد لويس (أشد الكارهين للعرب وللإسلام) على تطبيق الشريعة إلى هذا الحد؟ ولماذا يبذل هذا الجهد في بلورة شروط نجاحها وضماناته؟ ولماذا يطالب الولايات المتحدة بربط المعونات بصرامة تطبيقها، وهو ما لا يحلم به عتاة السلفيين؟ الجواب بوضوح أن أسلمة الحكم في المنطقة هي السبيل المضمون للإجهاز على كل ما أثارته الثورة من أحلام وطموحات. وهي روشتة الثورة المضادة ليس فقط للإجهاز على الثورة مرة وإلى الأبد، ولكن أيضا للحيلولة دون انبثاق موجات جديدة لها، بسبب القضاء على أهداف موجتها الأولى تلك. فقد أصبحت الثورة المضادة، كما كتبت أكثر من مرة، علما من أرقى العلوم الإنسانية والاجتماعية. تسخر دول المركز الكبرى كل الإمكانيات البحثية له، وتنفق عليه بسخاء كي تحقق عبره مصالحها بأكفأ السبل وأقل الخسائر الممكنة.
فالوصول بحكومات ما يسمى بالمشروع الإسلامي، أو الدولة الإسلامية كما يسميها فيلدمان، إلى الحكم في المنطقة العربية يحقق أهم أهداف الثورة المضادة بضربة واحدة. إذ يجهز أولا على أي أمل في كيان وطني مستقل الإرادة والمشروع. وهو الأمل الذي بلورته الثورة وأيقظته تتابعات الربيع العربي في العامين الماضيين. لأن الأساس الذي يقوم عليه المشروع المسمى بالإسلامي ليس أساسا وطنيا (بأمارة مقولة مرشد جماعتهم السابق: طظ في مصر الشهيرة) وإنما أساس ديني هلامي يرجئ فكرة الاستقلال الوطني، من أجل حلم مستحيل يسمى الخلافة. دون أن يعي استحالة هذا الحلم في عالم تقبع فيه كل الدول العربية والإسلامية في قاع هوامش نظامه الدولي على صعد التنمية والقوة الاقتصادية والسياسية، ناهيك عن العسكرية. كما أنه يقضى ثانيا على الفكرة العربية التي تعد أيديولوجيا أخطر أعداء المشروع الصهيوني والاستعماري في المنطقة، والأساس الذي يمكن أن تنبثق عنه قوة كبيرة في المنطقة تهدد المصالح الصهيوأمريكية فيها. والإجهاز على الفكرة العربية مطلب أساسي لتحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تحتل فيه دولة الاستيطان الصهيوني مكانا محوريا في المنطقة، لن يتحقق طالما لانزال نسميها بالمنطقة العربية أو العالم العربي، وطالما ظلت بنية المشاعر الأساسية فيها عربية الهوى.
أما ثالثا فأن صعود ما يدعوه فيلدمان بالدولة الإسلامية للحكم يبقى المنطقة كلها تابعة ومشغولة بسفاسف تطبيقات الشريعة، من إطلاق للحى إلى فتاوى إرضاع الكبير وزواج الصغيرة وجهاد المناكحة، بعيدا عن قضايا التقدم أو الاستقلال (وهو مربط الفرس في كل تقدم) ناهيك عن التضامن العربي أو حتى التنسيق الاقتصادي والسياسي بين شعوب المنطقة. فثمة حملة صهيونية منظمة يقودها المحافظون الجدد في أميركا وأوروبا (وابرز أعلامهم فيها الدعي برنار هنري ليفي) منذ بداية الربيع العربي تنادي بضرورة أسلمة المنطقة، وأن أكثر ما يلائمها هو العودة لإسلام رجعي فارغ من أي محتوى إيجابي أو حقيقي للإسلام، بصورة تشغلها بالنزاعات المذهبية والمحاصصات الطائفية. ليس فقط لأن تأسيس مشروعية الحكم في تلك المنطقة على أسس دينية يبرر قيام دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ويؤكد مشروعيتها فحسب، ولكن أساسا لأن تلك الأسلمة، وبطريقة برنارد لويس التي دأب على ترسيخها في عقول فرق المحافظين الجدد الممتدة من ريتشارد بيرل حتى نوح فيلدمان، هي التي ستصرف المنطقة كلها عن أي مشروع حقيقي للتقدم والأخذ بأسباب العلم. لأن هذه الأسلمة، على طريقة الإخوان وحلفائهم من المتأسلفين، سترتد بها إلى العصور الوسطى، وستشغلها عن أن أي تقدم أو نهضة حقيقية، في عالم لا مكان فيه إلا للأقوياء.
ومن المعروف أن التصورات الأمريكية للمحافظين الجدد، ودورهم النشط في دوائر صناعة القرار الأميركي، والمدعوم بسطوة اللوبي الصهيوني الجبارة، تتحدث في الظاهر عن المصالح الأمريكية، بينما تخفي في الباطن مصالح دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والحرص على ازدهارها ومستقبلها. كما أن إعادة تعريف دول المنطقة لنفسها على أساس ديني، لا يكرس الفرقة بين شعوبها فحسب، ويثير الصراعات الداخلية بين طوائفها كما حدث في العراق، وقبله في لبنان، ويدور الآن في سوريا، كي تظل في حضيض النظام العالمي الواحد وهوامشه. ولكنه أيضا يعيد توجيه البوصلة السياسية بعيدا عن الاستقلال والتقدم، وخلق أعداء وهمين (الشيعة، الأقباط، العلمانيين) من أجل التغاضي عن العدو الحقيقي والسكوت عنه. وعلاوة على هذا كله يمنح الأساس البغيض الذي ينهض عليه المشروع الصهيوني شرعيته. بصورة لا يصبح معها هذا الأساس استثناء استعماريا استيطانيا مرفوضا، وإنما القاعدة التي تنهض عليها شرعية كل دول المنطقة وهويتها.
لهذا كله لم يكن غريبا أن يكتب فيلدمان في أكثر الصحف الأمريكية تأثيرا مدافعا عن قرارات محمد مرسي الخرقاء. ولم يكن غريبا أن يعمل وزير الخارجية الأمريكي، جون كيري، في زيارته الأخيرة لمصر كل ما في وسعه لتوطيد حكم الإخوان والضغط على من يعارضونه. كما كان طبيعيا أن يدعم هنري كيسنجر في حديثه الأخير في 9 مارس 2013 أمام مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي الذي صدر عنه الكتاب، أطروحات هذا الكتاب، وهو يتوقع معركة بين الجيش والإخوان. لا بالتنبؤ بانتصار الإخوان في تلك المعركة فحسب، ولكن بدعوة أمريكا إلى استخدام نفوذها كي تكون هذه هي النتيجة النهائية للمعركة، لأنها النتيجة التي تخدم الأجندة الأمريكية والمشروع الاستيطاني الصهيوني دون شك.
إذن فنحن هنا بإزاء وثيقة أمريكية تبيع لنا الوهم، وهم الحكم الإسلامي، تعقبها تصرفات تدعمها، وتصريحات تنادي بتثبيتها. بالرغم من أن الحكم الذي تدعمه أميركا ليس إسلاميا إلا بالاسم فقط، ولم يلتزم حتى بما طرحه فيلدمان من شروط للدولة الإسلامية من تحقيق العدل الذي وعدت به أو حكم القانون. إنها وثيقة لا يهمها إلا مصلحة أميركا والدولة العبرية، وإبقاء مصر والمنطقة برمتها في حظيرة التبعية الأمريكية. فالدولة التي تبيعها لنا ليست إسلامية حتى بتعريف فيلدمان نفسه. لأن الشهور الأربعة التي قضاها الإسلاميون في البرلمان لم تتمخض إلا عن فضائح تجميل أنف البلكيمي القبيح، وممارسات ونيس للفعل الفاضح في الطريق العام، وعن حفنة من التشريعات الانتقامية لا الإسلامية. وأن جاءت متأخرة فلم تنقذ الثورة من مأزق الخيار بين «الفل» و«الاستبن». ولكنها مع ذلك تكشف لنا عن شيء من مخططات الثورة المضادة في الإجهاز على الثورة المصرية العظيمة، وعلى ما تلاها من ربيع عربي. وعن أن ما يدعوه المتأسلمين بالدولة الإسلامية أو حكم الشرع ما هو إلا وهم، لم يحقق العدل أو حكم القانون في كل تجاربه السابقة من السعودية إلى إيران، ومن أفغانستان إلى الصومال والسودان. ولكن ما حققه هو التخلف والهوان والتبعية للمخططات الصهيوأمريكية في المنطقة.