الرأي

الثورة السودانية و قضايا الحكم المحلي

د. بكري الجاك

اليوم وفي أبهى ما يكون وفي صباح ماطر هنا في ضاحية صغيرة في ولاية نيويوك بالولايات المتحدة الامريكية، مثلما في مناطق اخري كثيرة من العالم في مثل هذا التوقيت من كل عام، اتاح لي الزمن مرة أخرى أن اشهد عمليا احدى اجمل تجليات التطبيق العملي لفكرة الحكم المحلي. الذاتي في القصة انني وبعد أن اكرمني الخالق بنعمة الابوة فقد سعدت اليوم وانا انظر الى ابني ايلاي يخطو اولى خطواته في السلم التعليمي ويعتلي بص الترحيل لوحده تحفه دعواتنا وامنياتنا بمسيرة عامرة في الحياة، ولكل أب وأم بيولوجيا كان او بالرعاية أن ترى صغيرك او صغيرتك لاول مرة ذاهب او ذاهبة لمقابلة الكون لوحده لهو أمر عظيم على النفس. الشاهد أن تجمع الاسر وهي في انتظار بص الترحيل شكل اعظم مقاربة في ذهني واكثر تطبيق عملي لكل الكتب والمقالات التي قرأتها والتي كتبتها من قبل، فقضايا الحكم المحلي ليست قضايا نظرية او قضايا مجردة وحكر للطبقة السياسية لتتجادل حول الدستور وكيفية تنظيم المجتمع. في المخيال الشعبي الامريكي هنالك مقولة رائجة لكنها ذات دلالة معرفية ورجاحة عملية بالغة وهي All Politics are local اي ان كل قضايا السياسة هي قضايا محلية، والمعنى هنا أن أهم ما يحتاجه الانسان في حركته اليومية وامور حياته من شاكلة: سلامة الطرقات العامة، جودة شبكات الصرف الصحي، طرق تصريف مياه الامطار، صلاحية مياه الشرب، الأمن والسلامة العامة، المدارس وجودة التعليم، وغيرها الكثير هي قضايا محلية بامتياز تتداخل وتتقاطع مع قضايا سياساتية عامة لكنها بالاساس ما يهتم به الناس اولا. فما ما علاقة ما شهدت اليوم بالثورة السودانية؟

الثورة الشعبية التي اندلعت في ديسمبر 2018.

منذ اكثر من عامين وابان الحكومة الانتقالية لاحظت اهتمام وسط الفاعلين السياسيين خصوصا من الشباب غير مسبوق بقضايا الحكم المحلي وتتبعت الكثير من الحوارات والكتابات حول هذا الموضوع، وكانت ملاحظاتي ومازالت في بعض جوانبها انني ارى قصورا نظريا ومعرفيا في كيفية تعاطي الناس مع قضايا الحكم المحلي والحديث حولها، هذا من واقع تدريسي لمادة الحكومات المحلية في السابق في برنامج الماجستير لطلاب السياسة العامة والادراة. هذه الملاحظات يمكن أن الخصها في شقين.

الشق الاول هو الكتابات التي حاولت أن تجنح الى توصيف الحكم المحلي في السودان من منظور تاريخي، وللعلم السودان حكم بقوانين حكم محلي حديثة يمكن ارجاعها لقانون 1910 وقانون 1937 وقانون 1951 ومن ثم قانون ابورنات عام 1961 وبعده قانون 1971 ولاحقا الانقاذ أتت بقوانين وتغييرات اصبح من الصعب حتى فهم كيفية تنظيمها واشتغالها لما خلقته وتخلقه من تضارب الصلاحيات والمهام بين مستويات الحكم المختلفة. الشاهد أن الكتابات الجادة والنقاش الذي يدور حول هذه القوانين لم يغادر محطة التفاصيل عن أن قانون 1937 اعطى الادارات الاهلية صلاحيات حكم وتدخل قضايا الاراضي أو ان قانون 1951 فعل انشاء المجالس القبلية والريفية وقانون ابورنات سمح للبلديات وحكومات الاقاليم أن تتمتع بصلاحيات أوسع بما في ذلك التفكير في موارد مستقلة، وعلى ذلك المنوال تسير النقاشات.

الغائب في مثل هذه الحوارا هو الحديث عن اصل السلطة. فالدولة السودانية الحديثة منذ بدايات تشكلها في عام 1821 كانت ومازالت مركزية في عقلها السياسي وفي طريقة تنظيمها وادراتها، وحتى المحاولات التي طرح فيها سؤال مركزية الدولة كما في مؤتمر جوبا في يونيو من عام 1947 أو في مؤتمر المائدة المستديرة في عام 1965 او في تجربة الحكم الاقليمي الخاص لجنوب السودان في اعقاب توقيع اتفاقية اديس ابابا للسلام في عام 1972، لم تقدم اجابات حقيقية وموضوعية عن طبيعة الدولة اللامركزية التي يسعى اليها الناس. فحتى هذه اللحظة يتحدث الناس عن دولة لا مركزية ولكنهم يقفون عند هذا الحد في التوصيف، هذا مع العلم أن اللامركزية تشمل في اقصى نظمها الكونفدرالية كنظام لا يعطي الاقاليم الحق فقط في تحديد نظم الحكم والادارة وحصر صلاحيات الحكومة المركزية فقط في الامن والدفاع، العملة والبنك المركزي، العلاقات الخارجية، والاتفاقيات الدولية، ولاحقا قضايا الهجرة والتجنيس، بل يعطي اي من الاقاليم حق الانفصال متى ما قرر مواطنو الاقليم ذلك دون حاجة الى استفتاء بقية الاقاليم. كما تشمل اللامركزية ايضا النظام الفيدرالي الذي يحلم به الناس في السودان نظريا، ولكن كل التطبيقات لم تقترب باي حال من طبيعة النظم الفيدارالية التي مثلها والكونفدرالية تضع اصل السلطة عند الناس وفي اقاليمهم و هذا يعني انه باستثناء المهام الخمسة (الامن والدفاع، العملة والوطنية والبنك المركزي، العلاقات الخارجية، الاتفاقيات الدولية، الهجرة والتجنيس) الموكلة للحكومة الفيدرالية تصبح كل قضايا الحكم الاخرى من تعليم وصحة وشرطة وزراعة ورعي وخلافه قضايا متروكة للحكم المحلي، والمشترك بين الكونفيدرالية والفيدرالية أن اصل السلطة هو في الاقاليم وأن الاقاليم ليس لها صلاحيات وحسب بل لها الحق في خلق الموارد عبر الاقتراض والاستثمار وسلطة فرض الضرائب والحصول على نصيب مقدر في الكثير من الموارد المحلية حسب الترتيبات مع الحكومة المركزية. ما كان يحدث في السودان في كل محاولات الحكم اللامركزي هو ما يعرف ب decentralization by devolving of powers اي نظام لامركزي قائم على توزيع القوة والصلاحيات التي في الاصل هي في يد حكومة مركزية وتتنازل عن بعض من هذه الصلاحيات لصالح حكومة الولاية التي بدورها تتنازل عن بعض الصلاحيات لحكومة المحلية وهكذا الى اللجنة الشعبية، الا أن اصل السلطة في يد الحكومة المركزية وبامكانها استرجاع هذه السلطة متى رغبت. الأدهى والأمر أن هذا النظام المسمى لا مركزي حتى في تطبيقه كان عبارة عن فوضى ولم يتم تفصيل المهام والصلاحيات فيه وربط المسؤولية بالتمويل فاصبحت المدارس بلا صيانة لانها مسؤولية المحليات وليست وزارة التربية والتعليم وظلت خزانة القروش في شارع النيل.

الشق الثاني من هذه الملاحظات هو التصورات المثالية عن أن مجرد معرفة الناس بانهم اصحاب السلطة وأن قضايا الحكم المحلي هي قضاياهم سيقومون بعمليات البناء القاعدي الذي سيكون بامكانه انهاء وضعية مركزية الدولة، ومشكلة هذه التصورات هي انها لا تأخذ في الاعتبار مستوى التعقيد الذي سيلازم عملية تركيب وبناء النظام الفيدرالي الذي سيناسب الدولة السودانية بعد تجربة حكم مركزية طويلة، فالدول التي نجحت في بناء انظمة فيدالية فعالة مثل المانيا وامريكا واستراليا فعلت ذلك لانها بدأت كدويلات واقاليم، كل حسب تطوره التاريخي، ولكن الذي حدث هو تنازل الولايات او الاقاليم عن جزء من سلطاتها لصالح سلطة مركزية. ما اسعدني في هذه الحوارات هو الجدية والمثابرة والورش التي تقام في كل اسبوع بواسطة فاعلين في المجتمع المدني حول قضايا الحكم المحلي ومشاركة النساء عن المشاركة السياسية بشكل عام وقد سمح لي الوقت بالاسهام في العديد من هذه الفعاليات، ولعمري هذه بداية عظيمة للحوار والحديث حول هذه القضايا لأننا لا محالة سنحتاج الى هذه المعارف وهذه المداخل في عملية بناء الجمهورية الثانية وفي اجازة الدستور الدائم وفي تخليق عقد اجتماعي يعطي فرصة لكل مكونات الدولة المنشودة ان ترى نفسها في مشروع وطني.

خلاصة القول أننا في حاجة الى استعدال الحوار حول قضايا الحكم المحلي، ولا غضاضة في استصحاب التاريخ والقوانين التي لعبت دور في تشكيل ما نحن عليه الآن ولكننا يجب أن ننأي عن الانغماس في هذه القوانين او افتراض أن فهمها والمعرفة بها ستكون خير معين في التعاطي مع قضايا الحكم المحلي في سودان الراهن. الأهم من كل ذلك هو الوصول الى الناس في احياءهم ربوعهم وقراهم وحواكيرهم والتفاكر معهم عن الكيفية المثلى لادراة انفسهم وتوظيف مورادهم والطريقة التي يريدون بها أن تكون علاقتهم بالحكومة المركزية، والتفاكر معهم حول مهام الحكومة المركزية وكيفية تصويبها حين تخرج عن جادة الطريق، مثل هذه المفاكرات ستقودنا الى تجنب الوقوع في شراك العقل المركزي الذي يرى انه يجب أن يكون لكل السودان منهج تعليمي واحد وامتحان شهادة سودانية واحد واول شهادة سودانية واحد وغيرها من مخلفات العقل المركزي الذي ما زال يرى ان اصل السلطة في الخرطوم وهي التي تمنح، هذا العقل يحتاج الى تفكيك وهدم معرفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى