الرأي

التحرر من سنة الأجير

»أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ«. ( تك 47: 9)

السنين عبارة عن مراحل تجوالية، يتوقف فائدتها على نظرة المرء إليها، قد تكون تأمل امتنان لأنجازات مسرة، أو قد تكون تطلعات مقدسة، كما رحلة الحج، في الأدغال والصحاري، تقضيها ناسكا مترهبنا، في البحث أو انتظار الحقيقة كالبوذي. أو تعتبرها مغامرة البحث عن تحقيق (الأنا) والمحافظة على (الأيغو)، قد تكون السنين هي عبارة عن عبور تجارب قاسية ومرهقة، هموم مفرطة، بمعاناة شديدة، نتيجة للتربية والخبرات العائلية، تفاعلات المجتمع، المعاملات المخزية، من ألأخوة، الأصدقاء، الزملاء، دوائر العمل، شركاء الحياة، كلها أمور تترك بصمات تحصدها عبر السنين في كل عام، وترصدها العدسة النفسية. للبعض السنين عبارة عن قلق دائم، وتوهان في بحر من المخاطر خالية من الشواطئ، ولا تعرف لها مرسى. للذين يبحثون عن الاكتفاء الذاتي دون جدوى، الساعين من أجل قوت بها يستطيعون امتلاك قوة القرارت الحرة في معترك الحياة عبثا، فهي تعتبر عندهم نتاج نهاية العام كسنة الأجير.
الحياة من أجل أجرة الوظيفة ليس لها متعة. الأجير قديما في عصور ما قبل الميلاد وبعده حتى قبل العصر الحديث في أيام عصر الاقطاعيات يوازي الموظف في عصرنا الحالي. يخضع الأجير لقوانين متعلقة بتوظيفه، بحسب الحضارات القديمة المبكرة، تعتبر بداية لمبدأ الأعمال الحرة في المجتمع البشري، إلا أنه أيضا شكل معدل من أنظمة العبودية، وامتلاك الإنسان المقدرات البدنية لأخيه، الذي لا يمتلك ثروة ويسعى في يومه من أجل قوته اليومي، تنتهي علاقة الأجير ماديا بعمله عادة مع نهاية اليوم، أو متى ما أكمل ما طلب منه. غالبا ما يكون الأجير هو الغريب عن أرضه، قد يكون طالبا لحماية من الذين تغرب عنهم، تحت رعاية أسرة أو قبيلة في تلك الغربة. لذلك قد تكون حياة العبد أفضل من الأجير من حيث الحماية، السكن، الحصول على الطعام، الأمور التي يسعى الأجير في تحقيقها من خلال دفع ثمنها، لكن بدون تطور مادي أو توفير، والأدهى قد يورث ابنائه نفس الشقاء، إذا طال غربته. لقلة مدخول الأجير طالبت التشريعات القديمة كشريعة “حمورابي( 1792-1750 ق.م) ” وحور محب (1319-1292 قبل الميلاد) “و”موسى (عاش فيما بين القرن الرابع عشر إلى الثالث عشر قبل الميلاد)” كما هو منصوص بعدم تأخير أجرة الأجير لليوم الثاني.
الوقت الذي يُستأجر فيه الخادم ، سواء كان ليوم أو سنة أو أكثر، فهو وقت محدد؛ إنها ثابتة ومحددة في الاتفاقية، مع الكد والجهد والحزن، متاعب وشر مع القلة، كذلك أيام حياة الإنسان على الأرض، غالبا ما تكون كما الأجير، مهما طال أو قصر لها نهاية، بعدها تقييم بمحصلة تكريم، ذكر لحسنات، أو نسيان عند الآخرين.من خلال مشاعر يسيطر عليه التواضع، وبحكمة قد تناسب عصره، جاوب أبو الأسباط لفرعون سؤاله عن عمره قائلاً: »أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً. قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي، وَلَمْ تَبْلُغْ إِلَى أَيَّامِ سِنِي حَيَاةِ آبَائِي فِي أَيَّامِ غُرْبَتِهِمْ«. استخف بانجازاته عندما تحدث عن نفسه، إلا أن واقع حياته -وما يراه أي شخص في تلك اللحظات عكس ما صرح به، اعتبر جد الأسباط حياته عبارة عن غربة وصفها مجازيا برحلة “حج”، برغم أن تجواله لم ترتبط بدوافع دينية، أو مقيدة بطقوس روحية، قال كلها شقاء، لم ينال فيها راحة ولا سلام، لم تبلغ رحلته الكمال الذي ينشده، وقد أحسن جده وأبيه في الوصول إليها بحسب رأيه “قَلِيلَةً وَ رَدِيَّةً كَانَتْ أَيَّامُ سِنِي حَيَاتِي”، لم يختبر جده ولا أبيه، حياة مليئة بالاضطراب، الضيق، الاخطار والألم. خلاصة كلامه الذي لم ينطقها حرفيا أن حياته كانت “كسنة الأجير”، رغم أنه كان من أشهر الرعاة في أيامه، لديه سبعون من الأولاد والأحفاد، عدا العمال والخدم. لم يتحدث يعقوب عن أمتلاكه للحيلة والحنكة، التي حقق بها أهدافه التي سعى إليها، بكل قوته البدنية والفكرية، لم يستسلم للضعفات، الانتكاسات، والتهديدات، لم يعترف بأنه لم يشيح نظره عن ما يريد تحقيقه رغم شح موارده، كانت حياته كلها كالأجير إلا أنه كان عام بعد عام لم يتخلى عن التمسك بأهدافه السامية. أولها التحرر من فكرة الأجير، بمرور أيامه لنهاية السنة سريعا وبعائد لا يسر البال ولا يفرح القلب، إلا أنه كان يجدد أهدافه ويتمسك بغايته، دون استسلام فيتحرر من الشعور بسنة الأجير ليجدد الطاقه في المضي قدما بخطط وأهداف يتحدى بها عاما جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى