الرأي

الانقلابات العسكرية: شرايين السودان النازِّفة

 

ناصر السيد النور

المحاولة الانقلابية الفاشلة مؤخراً وما صحبها ويصحبها من أحداث تهدد بالمضي في طريق الانقلاب أو على الأقل تغيير السلطة وفض الشراكة من واقع منبع الانقلاب المتمثل في المكون والتكوين العسكري للانقلابات التقليدية؛ تعيد إلى الأذهان السؤال والبحث عن جذور أعقد وأقصر وسائل الوصول إلى السلطة، وكيف هيمنت على العقل الجمعي والسياسي كوسيلة وحيدة دون غيرها للانقضاض على شرعية السلطة. وإن لم تعد الانقلابات في سياق ممارسة السياسة والتسلط ظاهرة ينشغل بها الباحثون والمهتمون بالشأن السياسي وحسب، بل تشكل وعياً جديداً لدى طائفة واسعة من المواطنين أدركت معه فداحة الكلفة المرتفعة لمغامرات الانقلابيين على صعيد التطور الاقتصادي، والحقوق السياسية والحريات والكرامة الإنسانية وكل ما تقوضه سلطات الانقلابات وتعمل عكسه تماماً.

والسؤال الذي يشغل بال المتابعين أيضاً لماذا أصبحت دورة الحكم ديمقراطية- عسكرية كدائرة جهنمية مفرغة في تداول السلطة وتغيير السلطة، وقد استقطعت ما يزيد على النصف قرن من تاريخ البلاد منذ الاستقلال؟ وإذا كان الكثيرون يلجأون إلى تبرير ذلك من خلال معطيات الواقع السياسي والجيوسياسي المتعلق بمحيط السودان في المحيطين الأفريقي والعربي، وهو محيط نشأت الدولة الوطنية فيه على أسنة انقلاب الجيوش (الوطنية)، فأصبحت هي الدولة والانتخابات والدستور والزعامة والوصاية. ولكن ربما اختلفت تجربة الحكم في السودان من واقع البدايات التشريعية والحركة الوطنية والنهضة الثقافية التي قامت على التأسيس المدني، فمؤتمر الخريجين سبق ظهوره قوة دفاع السودان وكذلك الأحزاب السياسية من اليسار إلى اليمين، وغيرها من تيارات ثقافية وشعبية استنهضت الهمم في بناء الوطن في التعليم والوعي والتربية الوطنية، ولم يكن من جيش وطني بحكم طبيعة الحكم الثنائي.

وثم أن التحول التاريخي البارز في إعلان الاستقلال من داخل الجمعية التأسيسية وهي مؤسسة تشريعية تمثل أحزاباً سياسية مدنية، فأي تكن حجج منظري الانقلابات من المدنيين وأصحاب الرؤية الشمولية في الحكم، من أن البلاد ليست مؤهلة للحكم الديمقراطي (ديمقراطية ويسمنستر) في مجتمع تتشكل مكوناته الاجتماعية من مجموعات طائفية وقبلية، تحتكر فيه الممارسة الديمقراطية على بيوتات بعينها وتستبدل الصوت الانتخابي بإشارة الزعيم الطائفي. ومع وجاهة هذه الآراء في سياق التحليل الاجتماعي السياسي Sociopolitical إلا أن تطاول طرح مثل هذه المؤشرات البحثية بعد كل هذه المدة التي قطعتها الدولة السودانية الوطنية، يجعل من التسليم بفرضياتها لا يعني سوى التسليم بالجمود والثبات والمحافظة على ما هو قائم دون تأثر بحركة التحولات التاريخية في التقدم أمراً غير مستساغ عقلاً. وهذا إذا لم نأخذ نماذج أثمرت فيها الديمقراطية واستمرت في واقع ربما فاق كثيراً تعقيدات المجتمع السوداني بكل تعدده الإثني واللغوي وغيره من تباين آخر إن وجد، فإذا تعلق الأمر بإدارة دولة لا يرى الانقلابيون في جهازها التنفيذي ومؤسساتها ومن يديرها من خبراء ومتخصصين (مدنيون) سوى أفراد متسيبين لا يعملون إلا بفرض الوصاية العسكرية المباشرة، ففي ذلك تغاضٍ عن حقائق لا يجهلها أحد في أن كيف أصبحت الدولة الحديثة وقد تخطت مثل هذه الرؤية الفاشية واستحدثت وسائل صنع واتخاذ القرار فيها، وصولاً إلى الحكومة الإلكترونية حتى في تلك الدول التي لا تملك انفتاحاً سياسياً. ومشكلة تفسير النظام في الدولة بين الضبط والربط بالمفهوم العسكري السائد مقابل فوضى الديمقراطيين المدنيين دائماً ما ترجح الخيار الانقلابي لإعادة النظام. وثمة نسبية في النظام الذي يعني إدارة منظومة أجهزة الدولة في بلدان العالم الثالث كما رآها المفكر السياسي الأميركي صموئيل هنتنغتون في مؤلفه (النظام السياسي لمجتمعات متغيرة)، بأن النظام نفسه مهم لمجتمعات الدول النامية سواء أكان هذا النظام ديمقراطياً أو سلطوياً (ديكتاتورياً) أو يعمل على نظام السوق المفتوح (ليبرالياً). ولا يجادل أحد في أهمية وجود جيش قوي يعبر ويحمي مكتسبات أية دولة كانت كأحد مكونات أركان الدولة.

والواقع أن الانقلابات العسكرية ليست بمعزل عن الممارسة السياسية والصراع السلطوي، فمنذ أول انقلاب 1958 كان من ورائه الجانب المدني بإلقائه للسلطة في أيدي العسكريين لحماية البلاد وحسم الفوضى. ومن ثَّم بهذه الدعاوى انفتح الباب على مصراعيه لكل من تراوده أحلام الحكم واستسهال تسلم السلطة بالزحف الانقلابي بين الفينة والأخرى. فلا عجب وبهذا وصل التطور المعاق إلى السلطة من لا ينتمون إلى أية مؤسسة عسكرية إلا بما يحملونه من عتاد السلاح. وبما أن طبيعة الانقلابات العسكرية ظلت على صيغتها التقليدية من ناحية التنفيذ والإجراءات والأسلحة المستخدمة وتلاوة البيانات، إلا أن عاملاً جديداً أضيف إلى تركيبة الانقلابات فصبغتها بصبغتها الآيديولوجية كانقلاب مايو 1969 وانقلاب الجبهة الإسلامية 1989 والذي شكل آخر حالات الانقلابات التي تجاوزت بساطة الانقلابات السابقة عليها، من حيث الإعداد والتمويه والإنكار ثم الظهور العنيف بالقهر والإذلال والاستدامة في السلطة، إلى أن انتزعتها اقتلاعاً ثورة ديسمبر كشأن كل الحكومات التي تأتي انقلاباً وتنتهي إلى محاكمة (مدبري الانقلاب).

وعادة ما تكون المجموعات الانقلابية متعطشة لشرعية تفقدها وتخلق لنفسها تفويضاً بإطلاق صفات ثورية وشرعية وتصحيحية وتدعي بأنها هي من فجر الثورة، فقد حدث هذا في مايو (ثورة مايو) وأخيراً الإنقاذ باستثناء حركة 17 نوفمبر التي كما قال أحد قادتها وهو يرد على سؤال قائد الحركة (الانقلاب) للصحفي المصري محمد حسنين هيكل عن هوية ما قاموا به، فرد بأن قال: نحن آباء ذلك الشيء الذي حدث في السودان ونحن أحرار نطلق عليه أي اسم نشاء، ثمة جانب لا يعيه ويتعلمه المدنيون الذين يدفعون بالجنرالات إلى تنفيذ الانقلابات وهي أن بريق السلطة سريعاً ما يدفعهم إلى الانقلاب على المجموعات المدنية وينشأ الصراع حول السلطة، وتستخدم فيه أدوات الانقلاب (السلاح والبيان الأول). حدث هذا في كل من الانقلابين المذكورين وكانت النتائج فادحة كما في حركة 19 يوليو التصحيحية ومفاصلة الإسلاميين الشهيرة 1999 بين جنرالات الجبهة الإسلامية وقياداتها المدنية في تلك الأحداث العاصفة. ولأن الانقلابيين باستنادهم إلى قوة السلاح والأمر الواقع يفتقدون إلى خطط فيما يدعون ما جاءوا لأجله من إنقاذ اقتصادي وتنمية وغيرها، فكانت الانقلابات منصة لمشروعات وتوجهات اتصفت بالتناقض فمن اشتراكية ستالينية وقومية عروبية إلى إمامة وخلافة إسلامية ومشروع حضاري. ولم يكن من المستغرب أن يصرح حميدتي في آخر مخاطباته: نحن نؤمن بالديمقراطية!

ومع أن كل الكلفة الباهظة للانقلابات التي دفع ثمنها الشعب ومؤسسته العسكرية في الأرواح وإعاقتها التطور الديمقراطي والتنموي بالبلاد، ماذا جنت البلاد؟ ومن غير تفاصيل الإجابة التي يبرزها الواقع السياسي اليوم بكل أزمته الصحية المتدهورة، فإن التفكير كما يرى البعض بأن الأمور لا تعود إلى نصابها إلا عبر انقلاب عسكري، فتلك كارثة أخرى ونسخة رثة لأدوات في التغيير لم يعد تصلح لحكم راشد ودولة عصرية تعامل مواطنيها على أساس من الاحترام. ففي نهاية الأمر الانقلاب لن يكون بديلاً من خيار ديمقراطي يمارس الديمقراطية وفق وسائلها المشروعة ولو أنها أي الديمقراطية في قول السياسي البريطاني الأشهر ونستون تشرشل، من بين أسوأ أشكال الحكم باستثناء جميع الأشكال الأخرى التي تمت تجربتها. وما تطلع إليه أهداف ثورة ديسمبر المجيدة استقرار نمط الحكم بما يوقف نزف الدماء ويحقق الاستقرار في السياسة والحكم.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى