الرأي

الاعلام الانتقالي.. معضلات التحرر ومعركة التحرير

الحلقة 9

د. وجدي كامل
كيف صنع الإعلام الجديد الحدث الثوري في ثورة ديسمبر المجيدة؟
نستخلص، وعطفا لما سبق تحليله في الحلقات السابقة، انه ولغرض فهم الطبيعة الخاصة بالاعلام وعملياته قرابة الثلاثة عقود من حكم الانقاذ، ان المنظومة الاعلامية كانت منظومة امنوقراطية بامتياز، بما سجلته من ارتباط بالاهداف السياسية الاستراتيجية للاحتواء وهدم ما كان من بناء دولة ما بعد الاستقلال حتى 1989، بما تضمنه اداؤه واتسمت به سياساته المعلنة وغير المعلنة. وبالتعريف الدقيق فقد عبرت المنظمة الاعلامية الامنوقراطية عن طبيعة شمولية مستبدة وباطشة بكل ما توسلت به من عقلية وجسدته من اداء. وازاء تفاقم الازمات السياسية والاقتصادية وازدياد الضغط والقهر الاعلامي، فإن الاعلام الآخر كان يولد من رحم افكار الانقضاض على النظام السياسي ولعب الدور الطليعي في ثورة ديسمبر المجيدة.
بالتوقف والتحليل بحثا عن اجابة كيف صنع الاعلام الحدث الثورى، يلزم شرح هذه المقولة التى ربما تثير قدرا من عدم الفهم والاستيعاب لصحتها. فالمقولة صحيحة تماما ومجربة في عدد من الاحتجاجات والانتفاضات والثورات، وفي مقدمتها ثورات ما اصطلح على تسميتها بالربيع العربي الذي وجه فيه الاتهام لقناة الجزيرة بالضلوع في صناعته. الواقع ان الجزيرة قد ساهمت في توصيل خارطة ميدان الاحداث بحيوية ومناصرة غير مسبوقة بأن تم ذلك عبر النقل الحى المباشر الذي وصل لكافة المواقع والاهداف من البث بما فيها مواقع واهداف جغرافيا الحدث نفسه، اي مجتمعات وجماهير الثورة بالبلدان التي اشتعلت بها. فإعلام الجزيرة عبر كاميراتها المتوزعة على مناطق حيوية الحدث ومراكزه المتقدمة قد ساعد في مضاعفة إلتحام الناس بالحدث وبالتالي من تعظيم دورهم في الدفع به وايصاله الى النتائج القصوى له.
ومن المعلوم أن ذلك لم يتم لمجرد النقل المباشر للحدث، بقدر ما اتصل بحقائق فنية وتقنية لعبت دورها في تهييج ومضاعفة اعداد الملتحقين به عندما اتخذت الكاميرات زوايا بعينها وعالجت أيادي المصورين الكاميرات وفق توظيف فكري دقيق منحاز لطرف من المعركة، بتكثيف جرعة اظهار استبساله ومدافعته، والكشف في ذات الوقت عن مخازي اجهزة القمع والقهر الامنية والعسكرية للانظمة المستهدفة من الثورات. لقد ساهم تأييد الموقف الفكري والسياسي في توظيف زوايا واخذ لقطات بالغة التحريض ليس للمشاهدين من خارج بلد الحدث، بالقدر الذي ألهب مشاعر المتابعين والمشاهدين من داخل البلد نفسه، فدفع بهم الى دائرته للمزيد من التعضيد والثراء لطاقته. هذا ما رأيناه وشاهدناه في موقعة الجمل وميدان رابعة العدوية بمصر، وساحة الاعتصام باليمن، والمعارك العسكرية بليبيا والتى تحركت فيها كاميرات الجزيرة بصحبة قوافل وكتائب المقاومة وليست قوافل وكتائب القذافي، مما سهل مهمة دفق الحماس في جنودها الذين كانوا يعلمون انهم في معركة منقولة للعالم على الهواء، وانهم عبر هذه التغطيات سيكسبون ليس فقط التحام مناصرين جدد لهم ولكن اكتساب مناصرة دولية اقليمية واسعة وعميقة. لقد وفّر النقل الحي المباشر تموين وتسليح اكثر، عن طريق اطلاق الاغاثات وتوجيه الرسائل عبر المراسلين والمستضافين من المحاربين. بهذا كسبت الثورات معركتها بوجود لاعب اضافي مهم تمثل في الكاميرات والقنوات الفضائية، اى اعلام الثورات.
لم يشهد السودان في ثورته اختلافا عن ما جرى من دور لافت ومؤثر لكاميرات الموبايل التى قام بالتصوير منها مئات الشباب من الجنسين، ناقلين احداث الثورة الى وسائط الاعلام الاجتماعي من فيسبوك وتويتر وواتساب وانستغرام، عبر توجيه رسائل نقل حي باستخدام تقنية اللايف، ورصد تطورات الاحداث لحظة بلحظة وارسالها للقنوات الفضائية العالمية تعضيدا لمهام مراسليها ومشاركتهم في نقل الاحداث. ولكن، فالمهم هنا ان خارطة المخاطبة بنقل الحدث الحي قد استهدفت قطاعا واسعا من السودانيين داخل وخارج البلاد، فمكنتهم ليس فقط المتابعة للاحداث، ولكن المشاركة فيها برفدها بالمزيد من الزخم الثوري الفريد الاستثنائي. لقد وفر لنا اللايف مشاهدة وسماع صاحبات الزغاريد عند بدء المواكب والانطلاقات الشجاعة لها بميدان جاكسون. شاهد الناس على الهواء اطلاق الرصاص على الثوار والثائرات بما في ذلك اصابة الطبيب بابكر، والهجوم على الأسر داخل البيوت، ومنها بيت لن تنساه الذاكرة عندما واجهت احدى النساء كتيبة الأمن التى اقتحمت دارها بحثا عن مشاركين في التظاهرات، فواجهتهم بحديث تأديبي عن حرمة البيوت وانه توجد نساء بملابس البيت التى لا يستقبلن بها الغرباء، وان الزوار لا يقفزون من الأسوار بل يأتون البيوت من ابوابها بعد الإذن لهم بالدخول. شاهدنا فيديو “يا بليد نحنا اخوانك”، وفيديو العباسية عندما استقبلت اسرة قبطية الثوار واكرمتهم. تفاعلنا بالمشاهدة والاستماع لعلوية كوبر وهي تتظاهر في تجمع نسائي وهي وهم يؤدون شعار أي كوز ندوسو دوس. تابعنا فيديو الاستيلاء على سيارة الأمن بميدان بري، ولحظة وصول واستقبال قطار عطبرة، وتابع الجميع بأنفاس متقطعة لحظات معركة الجيش والدعم السريع ضد كتائب الأمن المسلحة والأمن الشعبي وهم يراقبون من على الارض الرصاص المنهمر المتبادل، كنا نتابع منذ البداية مواكب شبيبة الدمازين والفاشر وبورتسودان حتى رأينا لحظة اقتحام الجماهير لمنطقة القيادة وتسربهم الى منطقة الأمن والقيادة العامة. ثم جاءت التغطيات الحية للاعتصام العظيم وأصبح الناس على تفاعل بلغ ذروته بأن حفظ الاطفال بالبيوت الشعارات واصبحوا يرددون لها فصارت ملكا عاما للشارع.
لقد عكست ثورة ديسمبر المجيدة علاقة حارة ووطيدة عبر المواكب والوقفات الاحتجاجية لشكل ومحتوى جديدين للاعلام، ليتمثل ذلك في تصميم الشعارات، ومحتوى اللوحات، والجداريات، والاغاني، والاشعار، والموسيقى، والاكليشهات المسرحية.
وبالعودة لتحليل الخطاب الاعلامي للثورة يستوجب البدء بأن الثورة قد استلهمت ضروبا من الاعلام التقليدي والشعبي الذي كاد ان يندثر. فقد جاءت اطلاقة الزغرودة كرمزية في مخاطبة النساء للرجال لبذل الشجاعة وإلهاب الحماس، وروح الاقدام والبسالة كإحدى الطرق القديمة المتوارثة من خزين الثقافة الاجتماعية للمجتمعات السودانية لدعم وإلهاب الحماسة عند خوض الحروب والمعارك والصدامات ضد الاعداء. وهكذا فإن شفرة العلامة المستخدمة في اطلاق الزغرودة كانت تعني المشاركة ووحدة المصير والهدف في بداية انطلاقات المواكب عندما انطوت على رسالة ميقات وتوقيت دقيق كشفرة لبدء الموكب. ونجد ان سهولة معاني ووضوح الشعارات بتصاميمها وتراكيبها الثورية الاخاذة قد ساهمت في رصّ الصفوف واثارة جماهير الثوار والثائرات بحيث اصبحت سهلة الحفظ والترديد بنحو متاح للجميع ومنها شعار حرية سلام وعدالة، الذي بات شعارا سحريا سارت على ترديده الآلاف وهتفت الحناجر دون توقف او انقطاع. اما من زاوية الحمولة النقدية للثقافة الاستبدادية فقد خرجت شعارات فتحت ابواب المشاركة لكافة اثنيات وعمقت للتلاحم بين الناس ومنها شعار “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور” و”اي كوز ندوسو دوس”، وغيرها من شعارات استهدفت افراد النظام باسمائهم واسماء زوجاتهم. وجاء محتوى اللوحات التى تجملت بها الطرقات والجدران نافذا في التعبير عن واقع جديد ومستقبل باذخ الاحلام والتطلعات.
انها لوحات وجداريات عكست التضامن، والمحبة، والوحدة بين كافة السودانيين. وكذلك انطلقت الحناجر وخاصة بفعاليات الاعتصام تردد اغاني التراث الثورى من الخليل حتى محمد وردي، ومحمد الامين، والعطبراوي، وعثمان الشفيع، ومصطفى سيد احمد، وحتى اغانى البوب والراب التى برع في نظمها وتلحينها شباب الثورة وشاباتها فكانت معبرة عن تطلعات اجيال جديدة تريد التأكيد على سمو كلمتها وجدة رؤيتها للواقع في اداء جماعي لطيف. فمن داخل الخيام، ومن على المسارح المتعددة، وازقة وشوارع الاعتصام سار الجميع يرددون أشعار محجوب شريف وحميد والقدال وازهري محمد علي وعاطف خيري.
والاعتصام بوصفه مهرجانا هائلا ممتدا استطاع ان يعكس اتفاق وتوافق الغالبية من السودانيين بنقاباتهم، واحزابهم، ومنظماتهم، وجماعاتهم الاهلية حالة من التظاهر الموحد المتحد لكيمياء ومزاييك السودان.
في تلك الايام تحدثت الناس في اللايفات وعبروا عن اشواقهم وامنياتهم بمحاكمة رموز النظام واسترداد الكرامة التى سلبت، فانبرى اهل الضحايا يطالبون بالقصاص لقتلاهم وانتظمت الندوات السياسية والفكرية والنقاشات والحوارات دون رقيب ليشعر الكل بأنهم امام ميلاد جديد. لم تظهر الاجهزة الرسمية للاعلام باستجابات واضحة في نقل ما يجرى لمقاومة داخلية شهدتها مؤسسات الاعلام الحكومية وصراع حاد جرى بين منتسبيها من قوى النظام القديم وقوى الثورة والتغيير الذين، وفيما بدا، انهم لم يجدوا السند الحقيقي لهم في الاطاحة بالسياسات التحريرية القديمة، فاذا بها تصبح تحت مخلب مجزرة فض فظ ولئيم للاعتصام الفخم المجيد. وبدلا من أن يعرض التلفزيون مجريات المجزرة عرض التفزيون القومي لفيلم (خفافيش الظلام) الذي اظهر الثوار والثائرات بنحو أكد ان اجهزة القمع المضادة للثورة لا تزال لها اليد الطولى في بث المواد والبرامج التى تعكس ثقافة ومفاهيم الانقاذ.
التفت الناس والتقى الرأي العام بعد مقاطعة للفضائيات تتابع حركة الحوار بين قوى التغيير والمكون العسكري الى ان تم توقيع الوثيقة الدستورية، ليعقبها بعد اشهر تشكيل الحكومة الانتقالية.
ظلت الناس تتوقع وبعد تشكيل الجهاز التنفيذي للحكومة الانتقالية انبعاث سياسات اعلامية معبرة عن فلسفة الثورة والتغيير، وان تتخلص الصحف من اقلام ناصرت النظام البائد دون ان يتم شيئا من ذلك. ففي لقائه بالعاملين بوزارته طمأن السيد وزير الثقافة والاعلام العاملين بأنه سوف لا يقع سوء عليهم. اما في لقائه بالعاملين بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون فقد اتسم، وجأر مضمون مداخلات المتحدثين بالشكوى من بؤس الأوضاع داخل الجهازين ما عدا الاستاذة ماجدة عوض التي انتقدت في مداخلتها الوجود الكثيف للعسكر والأمنيين بالشوارع المحيطة بمبنى الهيئة، وذكرت أن امرا كهذا صار يثير الرعب في العاملين دون ان تنتبه ماجدة، فيما يبدو، ان اغلب العاملين بالهيئة قد أثاروا الرعب في الشعب عبر أدائهم المنحاز سياسيا لدولة الرعب والمحافظة على السياسات المعادية للشعوب السودانية. وفي تلك الايام كان يشهد التلفزيون القومي صراعا مكشوفا بين سدنة النظام البائد وممثل الحرية والتغيير الذي تم تعيينه بواسطة وزير الثقافة والاعلام الصحفي الاستاذ ماهر الجوخ. وبدلا من ان يجد ترحيبا من العاملين القدامى أسوة بما كان يجري للقادمين السياسيين الجدد من تعيينات الأمن والمؤتمر الوطني لممثليهم في الجهاز التلفزيوني، أشهر العاملون وخاصة في نطاق الاخراج والانتاج الاخباري، عداءا مستحكما للقادم الرسمي الجديد وبالنحو الذي تمكنوا فيه من تسيير المظاهرات داخل المبنى وامام وزارة الثقافة والاعلام كمقاومة معلنة ضد مطلب التغيير.
حفظ الناس ورددت على مدى ايام الثورة والاعتصام، حرية سلام وعدالة، وثوار احرار حا نكمل المشوار، ونقلت لنا كاميرات الفيديو الموسيقى والاغاني للمجموعات الموسيقية والغنائية وهي تمشي وتعزف وتغني: ارض الخير افريقيا مكاني وانا سوداني، بمقاطعة بين الفينة والاخرى لشعارات مثل ثوار الليل ثوار الليل، حرقونا باسم الدين – كتلونا باسم الدين- الدين برئ يا يمة، والليلة ما بنرجع الا البشير يطلع، والليلة ما بنرجع الا الجنوب يرجع، سمعنا ترانيم كترنيمة وداد ام جضوم الليلة ما بتنوم، وفوق فوق سودانا فوق. حتى تدفقت فيديوهات معارك الثوار في شوارع الخرطوم شارع المك نمر والمتاريس وهي تهتف شعب واحد جيش واحد/ سلمية سلمية. لتتضاعف فيديوهات تكاتف ايادي الثوار مع بعضهم البعض وهى تهتف سلمية سلمية بي جيشنا محمية، والحفلة بدت وينو الرقاص؟ وسقطت سقطت – مالا؟..
كان الشعار الاكثر انتشارا “تسقط تسقط تسقط بس/ كده بالواضح ما بالدس”. وتخللت عروض ما نقلته الكاميرات لحظات اداء الثوار والثائرات للسلام الجمهوري، واغاني وطن الجدود نفديك بالارواح نجود، وبلدنا نعلي شانا يا ناس، بينما تقاطع ذلك هتافات “انا جدي تهراقا وحبوبتي كنداكة” لآلاء صلاح.
لقد شهد الناس بالداخل والخارج وعبر شاشات الجزيرة مباشر وقناة الحدث تفاصيل ما حدث بصناعة اعلامية شعبية عكست الدعوات والاستغاثات، ودعوات للحضور الدائم ومخاطبة عبر اللايف للناس بأن تأتي وتشارك، وهو ماجرى بالفعل عندما تقادمت الناس جماعات جماعات، وكاد المراقبون من كبار السن لا يصدقون بأن هؤلاء هم ذات الابناء والبنات الذين تربوا في عهد الانقاذ.
لقد اضطلعت هنا ادوات الاعلام الجديد بمهام عظيمة ونادرة اقل ما يمكن وصفها به انها ارتقت بالحدث وصنعته في اغلب الاوقات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى