الإخوان المسلمون.. لحظة السؤال الكبير
رستم محمود
بالالتفاتة السياسية الإقليمية الاستراتيجية الأخيرة، التي من المتوقع أن ينتهي منها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، خلال الأشهر القليلة المقبلة، وبعد المجريات التونسية الحادة طوال العام الماضي، ستكون جماعة الإخوان المسلمين قد فقدت آخر النُظم الإقليمية المؤازرة لها، ولأول مرة منذ سنوات كثيرة.
إلى جانب ذلك، فإن الجماعة السياسية والإيديولوجية الأوسع انتشارا والأقدم عمرا والأكثر حيوية في تاريخ منطقتنا، ستكون قد أنجزت دورة حياة سياسية كاملة، طالت لثلاثة أرباع قرن، جربت خلالها كل شيء تقريبا: من مزج السياسة بالدعوة مرورا بمهادنة الأنظمة، وصولا للاندراج في العنف ودعم الإرهاب، وليس انتهاء باستلام السلطة وقيادة بعض الدول، لكنها خرجت منها جميعا بنتيجة واحدة: “صفر اليدين”.
منطقيا، من المفترض أن يؤدي هذا التموضع الجديد للجماعة إلى مجموعة من التحولات في بنيانها الهيكلي: في وعيها لذاتها كتنظيم وفاعل سياسي، ورؤيتها الكلية للمجتمع وموقع الجماعة وتنظيمها منه، بالذات من مسألة الحريات العامة والمساواة والمواطنة الواحدة. ومع الأمرين في فهم الجماعة للدولة، كمجموعة من المواثيق والمؤسسات والسلطات والأعراف والحدود، المادية والرمزية.
فما وصلت إليه جماعة الإخوان المسلمين راهنا، كتنظيم سياسي عقائدي عالمي، يعاني من النبذ والملاحقة والشيطنة، إلى جانب الفشل الذريع في تحقيق أي شيء أو إضفاء أية قيمة مضافة على الحياة العامة في مختلف البلدان والتجارب، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، كان على الدوام نتيجة لتلك المستويات الثلاثة من التفاعل. ولحظ عاثر، لم يكن الإخوان وحدهم ضحايا تلك التجربة المريرة، بل جروا معهم مختلف مصائر وأحوال سكان المنطقة.
التحولات المنظورة والمفترض حدوثها ضمن جماعة الإخوان هذه، لا تتعلق ببعض الخلافات التفصيلية التي قد تحدث ضمن الهيكل التنظيمي للجماعة، مثل انشقاق بعض القياديات عن بعضها الآخر، وتكوين تنظيمات شبه إخوانية هنا وهناك، بأسماء براقة لكن مخادعة، أو إعلان الجماعة إجراء مصالحة سياسية مع نظام سياسي ما. فهذه أدوات جربتها من قبل، وتقصدت مختلف أنظمة دول المنطقة تطبيقها، لكنها جميعا أثبتت فشلها على الدوام.
فالحكاية المركزية في سيرة جماعة الإخوان المسلمين في تاريخ منطقتنا تتعلق بموقع الدين من الحياة العامة، بالذات من السلطة، السياسية منها بالتحديد، التي تؤطر فكرة السيادة العامة في أي بلد كان، حيث من موقع الدين ذاك من السيادة العامة ينفرز كل شيء آخر.
فما إن خسر الدين موقعه المركزي والسيادي ذاك، مع انهيار الإمبراطورية الدينية الإسلامية/االسنية/العثمانية في منطقتنا، واُجترحت الدول الحديثة، حتى انبثقت جماعة الإخوان لمسلمين، كتنظيم أول وإيديولوجية ريادية، تفعل كل شيء، لاستعادة ذلك الماضي العتيد، بكل منطقه وسلطاته وأدوات فعله، وإن باستعارات واشكال من التقية وبأسماء وتنظيمات مختلفة العناوين والأدوار التفصيلية، لكن دوماً لاستعادة الدور المركزي للدين في السيادة والسلطة العامة، على الذات والمجتمع والدولة.
بهذا المعنى، وبعد تجربة تاريخية مريرة أثبتت فشلها التام في كل تفصيل، وصار الإخوان في محصلتها مجرد “أيتام سياسيين”، وغدت أحوالهم مع دولهم ومجتمعاتهم أكثر بؤساً بسبب تجاربهم تلك، ولاعتقاد راسخ بأن مسألة العلاقة بين الدين والسياسة والفضاء العام شديدة الأهمية، وأكبر بكثير من أن تُترك لأية جماعة سياسية كانت لوحدها، فإن سؤالاً سياسياً كبيراً يُطرح على مجموعة كبرى من “القادة الجدد” للجماعة، في مختلف دول المنطقة والعالم، لكن أولاً في دول مثل مصر وسوريا والسودان، التي عاشت التجارب الأكثر مرارة.
سؤال تعريف الذات هو الأكثر إلحاحاً وحضوراً: فهل جماعة الإخوان المسلمين ما تزال مقتنعة بتلك النوعية من البهلوانيات الكلامية، التي تعتبر الجماعة هيئة سياسية ودعوة دينية وجماعة رياضية وفكرة اجتماعية وشركة اقتصادية … إلخ، كما سعى الإخوان طوال عقود لتعريف أنفسهم، وذلك لتكوير وتخبئة حقيقة نزوعهم السلطوي للهيمنة على كافة مفاصل الحياة العامة؟!
أم أن الجماعة من المفترض أن تعود إلى الأصل الأكثر بساطة للعمل السياسي، عبر الإقرار بكونهم مجرد حزب سياسي، يسعى للسلطة مثل غيره من التنظيمات السياسية؟ مع حقه التام في الحفاظ على نوعية من المعتقدات والخطابات والإيديولوجيات السياسية، الواضحة والمعلنة والشفافة، التي لا تخالف الدساتير المدنية، ولا تسعى للقبض على روح المجتمع أو تفكيك الدول وتأسيس إمبراطوريات عالمية.
بالضبط وببساطة مثل مئات من التنظيمات السياسية المحافظة في مختلف دول وتجارب العالم.
السؤال الرديف لذلك يتعلق برؤية الجماعة للمجتمع: فهل هو مجرد مجموعة من الأفراد المحتاجين إلى الإرشاد والضبط والتلقين من قِبل جماعة ما إرشادية على الدوام، ليكونوا موافين لترسانة من المحددات التي تخلق منهم “كائنات الصلاح”، وأن ذلك هو جوهر اللعبة والديناميكية الاجتماعية، وعلى حساب أي شيء كان حسبما فعلت الجماعة طوال تاريخيها السياسي/الاجتماعي المديد؟! أم أن المجتمع فضاء أكثر تعقيداً وتركيباً من ذلك، ترتبط وتقوم صحيته على مستوى روح المبادرة والحريات العامة التي بداخله، بالذات على تلك المعايير العلمية التقليدية القائمة على ربط صحية المجتمع بمدى اعتراف أفراده ببعضهم البعض، واعتراف الأفراد بالمجتمع، واعتراف المجتمع بهؤلاء الأفراد بالأدوار والفاعليات والمبادرات والحقوق الطبيعية التي لكل واحد دون قسر وفوقية وأبوية؟ وتالياً ترك ذلك السرد من المعتقدات ذات البنية الذهنية العسكرية التي تتخيل المجتمع عبارة عن مجموعة من العصاة المحتاجين لمجموعة ضخمة من النواهي وأشكال العِقاب.
أخيرا، فإن الجماعة من المفترض أن تعود للسؤال المركزي الذي على أساسه تأسس كل الإسلام السياسي في تاريخ منطقتنا: هل استعادة الماضي السياسي العتيد أمر ممكن؟ أم أن ذلك مجرد خيال رومانسي عليل؟! الماضي بكونه مجموعة من التجارب والسرديات الكبرى عن الدولة الإسلامية الجبارة التي كانت تخوض حروباً وتطبق نظماً سياسية وقوانين داخلية قائمة على الشرائع الإسلامية.
جواب أبناء الجماعة على ذلك السؤال، هو مقدمة أولية لخلاصهم من فكرتهم العدائية مع بنيان الدولة الحديثة التي، ومع كل وبالها، ليس لنا ولحاكميها وللإسلاميين من عيش وخلاص إلا بمزيد من تحديثها لا العكس.
*نقلا عن الحرة