استنارة

ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة : مقام نعم و لا

محمد المصباحي :
بدايةً لا بد من الاعتراف بأنني أتيت إلى ابن عربي بالعَرَض لا بالذات، لا لأنني ما زلت أعدّ نفسي لحد هذه الساعة من أهل النظر لا من أهل المشاهدة، بل وأيضا لأنني أتيت إليه في لحظة أولى من خلال ابن رشد، أي من خلال الموقف العقلاني من العالم، وآتي إليه الآن عبر حجاب ما بعد الحداثة[1]. وهناك أمر ثالث يشفع لي عرضيتي في التعامل مع فكر الشيخ الأكبر، وهو أن هذا الفكر نفسه عرضي الهيئة، مما يسمح لي بهامش كبير من الحرية لدخول أرجائه والخروج منها دون مطالبة بأي حساب مذهبي. ولعل هذه العرضية هي التي جعلتني أحبه واستمر معه، خصوصا وأنه يرى أن المحِّب مطالَب بالتقلب والتحول. بقي لي أن أقرّ من ناحية أخرى بصعوبة رؤية ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، إذ كيف يمكن رؤية فكر رجل ينتمي إلى زمن ما قبل الحداثة من وراء حجاب فكر متمرد على الحداثة نفسها، رافضاً الانحباس في أية صورة مذهبية كانت؟

ثلاث مداخل : المِرآة، ’نعم ولا‘، المقابلة

من أجل الالتفاف على هذه الصعوبات، سأستعين بثلاثة مداخل هي عبارة عن أفكار تداولها ابن عربي نفسه : فكرة المرآة، وفكرة ’نعم ولا‘، ثم فكرة المقابلة. لقد توسلنا بهذه الأفكار لكونها تمنحنا حرية أكثر للجمع بين المطابقة والاختلاف، بين الجزم بأن الوجه الذي تراه في المرآة هو وجهك، وبأنه ليس وجهك في آن واحد[2]. ولعل هذا هو بعينه ما تؤم إليه الإجابة المتناقضة: ’نعم ولا‘، التي ردّ بها ابن عربي على السؤالين اللذين طرحهما عليه ابن رشد في لقائه المشهور بقرطبة[3]، فهي الأخرى تتردد بين الإثبات والنفي دون شعور بالحرج الذي يشعر به عادة أهل النظر في مثل هذا الوضع. إن هذا الشعور المتناقض هو ما يتملك المرء عندما يقرأ فكر ابن عربي في مرآة ما بعد الحداثة، فإنك ما تكاد تشعر بالتقارب الودّي بين الفكرين الأكبري وما بعد الحداثي، حتى يبتعد الواحد منهما عن الآخر فراسخ وبرازخ. لذلك، لن تكفينا مرآة واحدة للنظرة المزدوجة التي نريد أن نلقيها على الأفقين الأكبري وما بعد الحداثي، بل سنستعمل مرآتين ؛ المرآة الأولى هي التي ينص عليها عنوان المداخلة، أي مرآة ما بعد الحداثة، التي سنسعى أن نَرى في مجلاها صورة أو صور الشيخ الأكبر ؛ والثانية مرآة ابن عربي، التي سنجليها عساها أن تعكس لنا جملة من صور ما بعد الحداثة.

ونرى أن مشروعية الرؤية في هاتين المرآتين المتقابلتين تقوم على أربعة مبادئ : أولها أن كل إنسان هو مرآة في نفسه؛ والثاني أن هذه المرآة تعكس العالم كله، أو كما قال في ’تجلى المعية‘ إن « الإنسان نسخة جامعة للموجودات [وأن] فيه من كل موجود حقيقة »[4] ؛ والمبدأ الثالث هو وجود « المناسبة » بين الإنسان والوجود، لأن المرآة لا يمكن أن تعكس إلا ما يناسب طبيعتها ؛ والرابع أن الذات عندما ترى نفسها في المرآة فإنها تراها من حيث هي آخر، أو قل إن المرآتين تعكس بعضها البعض بحيث ترى نفسها في الأخرى. ومع ذلك، علينا أن نحتاط من المرآة، فهي لا تستطيع أن تعكس سوى مثال الشيء وشبيهه، لا الشيء نفسه. ومن ثَم، إذا كانت المناسبة موجودة بين ما بعد الحداثة وابن عربي، فإنها لا تتعارض مع الاختلاف والخلاف ؛ أليس ابن عربي هو القائل بأن « الخلاف حق حيث كان »[5]؟

ليس غرضنا إذن أن نثبت هوية أو اختلافا بين هذين الأفقين، وإنما غرضنا أن نستشف ما إذا كان فكر ابن عربي قادرا على التّماس مع مقتضيات الزمن الحاضر، وفتح آفاق جديدة لوجودنا وفكرنا، وإنهاض الهمة فينا لكي ننطلق من أجل تطوير لغتنا وأسئلتنا وذاتنا العتيقة وتجديد بنائها بما يتوافق وتحديات هذا الزمن الذي نحن فيه؟

ولمّا كنا قد جعلنا المرآة ومقام العلاقة الجدلية بين ’نعم ولا‘ وسيلتين لمقاربتنا، فإن طيف ’المقابلة‘ التي جرت بين الرجلين، والتي حكاها لنا ابن عربي، سيسكن هذه المقاربة من أولها إلى آخرها. وأول ما استدرجتنا إليه علاقة المقابلة افتراض ’مقابلة‘ برزخية أخرى تجري ما بين ابن عربي وأحد مفكري ما بعد الحداثة كأن تقول نيتشه أو هيدجر أو ديريدا. إننا نتوقع أن يكون مآل مثل هذه المقابلة المفترضة أقل درامية من مقابلته مع فيلسوف قرطبة، وذلك لسببين؛ أولهما أن ما يجمع بين ابن عربي وما بعد الحداثة هو، بجهة ما، أقوى بكثير مما كان يجمعه مع أبي الوليد. فقد كانت فلسفة هذا الأخير تقوم على إخضاع الوجود لمقتضيات العقل وتحويله إلى علم وقوة، الأمر الذي يقتضي تقسيم الوجود إلى مقولات ومبادئ وجواهر وأعراض، تمهيداً للسيطرة عليه وإخضاعه. وهذا ما يفسر الإجابة المترددة لابن عربي بين ’نعم ولا‘ على سؤال ابن رشد. ذلك أنه إن لم يكن الشيخ الأكبر يُنكِر على العقل حقه في معرفة الوجود، فإنه كان يستنكر ادعاءه احتكار معرفة الوجود، لأن المعرفة في نظر الشيخ الأكبر تحيل دوما على اللامعرفة. أما ما بعد الحداثة، التي كانت نتيجة انقلاب جذري على العقل، وبالضبط على العقل التنويري، فلم تعد تؤمن بما تسميه أوهام العقلانية: المعرفية والأخلاقية والإنسانية، حيث كفّت عن الاعتقاد بأن العلم هو الوجه الوحيد للحقيقة، وبأن الماهية ثابتة وسارية في جوف الموجودات، وبأن البرهان قادر على الوقوف على نظام كل الأشياء، وبأن المعرفة يمكن أن تكون موضوعية، وبأن الخير يمكن أن يكون مطلقاً لا نسبية فيه وخلاف بشأنه. موازاة لذلك، نادت ما بعد الحداثة إلى إعادة النظر في الوسائل المعرفية التي كان يقصيها العقل، كالخيال والأسطورة، وعملت على إلغاء الازدواجيات التي كان يقوم عليها الفكر الاستدلالي، كالازدواجية بين الصورة والأصل، بين الذات والأعراض، وبين المبدأ والأثر.

أما السبب الثاني الذي نتوهم أن يكون وراء نجاح المقابلة المتخيَّلة بين ابن عربي وما بعد الحداثة، فيتعلق بسؤالها : ذلك أن سؤال أبي الوليد كان يتعلق بمدى مطابقة النظر مع الكشف. وكانت إجابة ابن عربي ’بنعم ولا‘ في آن واحد، لأن ابن عربي لم يكن ينكر طريق النظر، ولكنه كان يعارض أي خلط أو توحيد بين هذا الطريق وطريق الكشف. أما مفكرو ما بعد الحداثة فقد توقفوا عن وضع مثل هذا السؤال منذ فجر نشأتهم، سؤال التطابق أو التقابل بين الكشف والبرهان، بحكم عدم إيمانهم بالغاية التي كان يؤم إليها الفكر السابق عليها، وهي تحقيق الاتصال بالمبدأ الأقصى، أو أنهم على الأقل لم يعودوا يعبأون بالبحث عن هذه الغاية. هكذا تكون العقبتان الرئيسيتان: عقبة هيمنة العقل على الوجود، وعقبة سؤال التطابق، قد زالتا لتنفتح الطريق أمام توارد معالم التشابه والتناظر بين فكر ابن عربي وما بعد الحداثة.

وما دمنا قد توهمنا حصول هذه المقابلة في برزخ من الخيال ما بعد الحداثي، فقد يتوجب علينا أن نغير من استراتيجية السيناريو بعض الشيء، فنقلب الأدوار جاعلين الطالب للمقابلة والواضع لسؤالها هو ابن عربي، وليس ممثلي فلسفات ما بعد الحداثة. أما عن السؤال المطروح، فلا يمكن أن يكون صامتا، أو مرموزا على هيئة ’لا’ أو ’نعم‘؟، وإنما يجب أن يكون صريحا. في حين أن إجابة ما بعد الحداثة قد تكون ’بلا نعم ‘، وقد تكون بنفس الوتيرة التي كانت عليها إجابة أبن عربي على أحد سؤالي ابن رشد :’نعم ولا‘. ولكن ليس بنفس الدلالة التي أعطاها لها ابن عربي، لأنه مهما كان تقارب ما بعد الحداثة من بعض أوجه الفكر الأكبري، فإن ما بعد الحداثة ذهبت بعيداً في انقلابها على العقلانية التنويرية إلى درجة جعلتها تستخلص نتائج لم تكن تخطر على بال الشيخ الأكبر. لقد انتهت ما بعد الحداثة بصفة عامة إلى رؤية للعالم مختلفة جذريا عما كان يراهن عليه ابن عربي من حيث المضمون: فرؤية ما بعد الحداثة متشظية، تفكيكية وعدمية، رؤية مؤثثة بالأشباح والأطلال والفكر الخرائبي إزاء الوجود والمعرفة والإنسان والتاريخ والأخلاق، وإزاء كل شيء ينتمي إلى الأجهزة الثقافية والحضارية القائمة، ولو أنها صاغت هذه الرؤية بالفكر ضدا على الفكر[6]. ولذلك لا نتوقع أن توجد ’ليلى‘ واحدة يسعى للقائها كل مجانين ما بعد الحداثة، بل ’ليلات‘، هذا إن افترضنا أنهم قادرون على العشق!. حقاً، كاد الشيخ الأكبر أن يلامس هذا الموقف، ولكنه وقف دونه، لأنه مهما نوّع من ملامح ليلاه (الأحدية، الوحدانية، الوحدة؛ الهوية، الربوبية، الألوهية)، ومهما كانت سِعَة قلبه لاحتضان كل الصور، فإنه بقي مؤمنا بالحقيقة الواحدة. ولعل تلميحه إلى وجهي التشابه والتباين بين موقفه وموقف السفسطائية ما يؤشر إلى نوع العلاقة التي يمكن أن تنشأ بينه وبين الأفق ما بعد الحداثي. فقد قال عنهم : « فالعالم كله في صور مثل منصوبة، فالحضرة الوجودية إنما هي حضرة الخيال… وهذا لا قائل به إلا من أُشهِد هذا المشهد. فالفيلسوف يرمي به، وأصحاب أدلة العقول كلهم يرمون به، وأهل الظاهر لا يقولون به… ولا يقرب من هذا المشهد إلا السوفسطائية. غير أن الفرق بيننا وبينهم أنهم يقولون إن هذا كله لا حقيقة له، ونحن لا نقول بذلك، بل نقول إنه حقيقة، ففارقنا جميع الطوائف »[7]. فما يظهر كأنه لعبة دلالات وصور خيالية بالنسبة للفكر المعاصر، هو عين الجد عند الشيخ الأكبر، لأن كل الأشياء لها شيء من نَفَس الرحمن.

’ نعم و لا ‘ والمتقابلات الأربع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى