قضايا فكرية

ابن رشد يكتب عن الواقع السياسي العربي بعين أخرى..!

محمد عابد الجابري :
عرضنا في المقال السابق ما عبرنا عنه بـ” الواقع السياسي العربي بعيون الفلاسفة”: أفلاطون والفارابي وابن سينا. وفي هذا المقال نواصل الكلام في الموضوع نفسه مع ابن رشد؟

كتب أفلاطون في “الواقع السياسي” عند اليونان، بدافع من التجربة اليونانية ككل، يريد استخلاص الدروس منها لإيجاد حل لـ “المسألة الحكم” ككل، المسألة التي أرجعها إلى قضية واحدة هي “العدالة”. فمن أجل تحقيق العدالة في المجتمع الإنساني فكر في “المدينة الفاضلة”، ولكنه انتهى في نهاية الأمر إلى مكان المدينة الفاضلة، كما شيدها بعقله وخياله، لا يقع على الأرض، بل هو في “السماء” سماء عالم الفكر المجرد.

أما الفارابي فقد كتب في الموضوع ليس بدافع من التجربة الحضارية العربية، ابتداء، بل بـ تناص” مع أفلاطون، ولكنه لم يكن يستطيع أن يتجاهل التجربة العربية الإسلامية التي تحققت فيها “مدينة فاضلة” خاصة بها زمن النبوة، مدينة “الملة الفاضلة” التي يرأسها نبي. وكما رأينا فقد أضاف الفارابي “النبي” رئيسا آخر للمدينة الفاضلة إلى جانب الفيلسوف. أما المدن غير الفاضلة، أو “الضالة” فلم يخرج الفارابي في تحليله لها عما قاله أفلاطون، وإن شعر بأن الصورة لن تكتمل بدون القول في المدن الضالة في التجربة الحضارية الإسلامية، الشيء الذي وعد به ولكن دون أن يفي لأسباب نجهلها.

وإذا انتقلنا الآن إلى ابن رشد ورأيه في الواقع السياسي العربي، فإن الواجب يفرض علينا أولا التنبيه إلى المعطيات التالية، لأنه بدونها لن نفهم الجديد الذي جاء بها هذا الفيلسوف الكبير.

1- لقد كتب ابن رشد في السياسة بدافع من الواقع السياسي الذي ساد زمانه، وقد وصف هذا الواقع بخطاب سياسي مباشر، بدون تقية ولا تورية، كما سنرى بتفصيل فيما بعد، أما هنا فسنقتصر على ذكر بعض ما عاناه هو شخصيا، في آخر حياته: قال عن خصوم الفلسفة (من الفقهاء) في بلده (المغرب والأندلس) وزمانه، خاصة في العشرينات الأخيرة من القرن السادس الهجري، ما نصه: “أما آراؤهم وتسلطهم على المدن، فهي أكبر أسباب ضياع الفلسفة وانطفاء نورها. وستعلم إذا ما تفحصت الأمر أن أمثال هؤلاء القوم هم الأكثر عددا في هذه المدن (الأندلس، العالم الإسلامي). فإذا ما نجا أحد من الخلق في هذه المدن، فإنك لن تعدو الحق، إذا ما قلت بأن الله اصطفاه بعنايته السرمدية”؛ وأيضا: “وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي، كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها. ولذلك فإنه [يفضل] التوحد ويعيش عيشة المنعزل، فيذهب عنه الكمال الأسمى الذي إنما يحصل له في هذه المدينة”. (وللتذكير فقط نشير إلى أن ابن باجَّة، أول فيلسوف مغربي أندلسي، وأحًدُ مراجع ابن رشد في الفلسفة، كان قد ألف كتابا بعنوان “تدبير المتوحد”، هادفا من ذلك إلى شرح سيرة الرجل الفاضل في المدينة غير الفاضلة، الذي يكون فيها بمثابة الوردة في حقل من الشوك، حتى إذا تكاثر الفضلاء في هذه الأخيرة تحولت إلى مدينة فاضلة).

2- إن الوضعية التي عانت منها الفلسفة في الأندلس، وابن رشد خاصة،   كانت لها علاقة مباشرة بالأزمة التي كانت تجتازها الدولة الموحدية على عهد المنصور -الذي تولى الخلافة عام 580هـ- والتي تفاقمت بعد هزيمته في تونس سنة 583, أثناء مطاردته لابن غانية، من بقايا المرابطين. كانت هزيمة نكراء تمزق فيها جيش الموحدين وهلك عدد من أشياخهم, مما كان له وقع سيئ جدا بين الأمراء من إخوة المنصور وأعمامه، الذين يبدو أنهم لم يكونوا موافقين على مغامراته العسكرية تلك، فضلا عن عدم رضاهم على الطريقة التي فرض بها نفسه خليفة. وكان المنصور قد انتزع الخلافة بالحيلة عقب استشهاد والده أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن (مؤسس الدولة) في معركة تحرير شنترين بالأندلس سنة 580هـ، فتخلف بعض إخوته وأعمامه عن بيعته “لما كانوا يعرفونه من سوء صباه”, فلم يبايعوا إلا بعد تدخلات وترضيات وتهديدات.

كان من ردود الفعل على هزيمة المنصور تلك –بعد ثلاث سنوات فقط من فرض نفسه كخليفة- أن أخذ بعض الأمراء من أبناء عمومته في التحرك ضده, وكانوا من تلامذة ابن رشد وأصدقائه على عهد الخليفة المستنير صديق ابن رشد، الذي كان له اهتمام كبير بالفلسفة: أبي يعقوب يوسف بن عبد المومن، والد المنصور. وتطور النزاع بين المنصور ومعارضيه من بني عمومته، إلى أن أعدم منهم من أعدم وشرد الباقي. وكانت الفلسفة من ضحايا القمع الذي مارسه، إذ قرب إليه المنغلقين من الفقهاء، الذين ضايقوا ابن رشد بالصورة التي تحدث عنها أعلاه. وتطورت الأمور إلى الأسوء، خصوصا بعد مرض المنصور “مرضا يئس منه الأطباء”، فقام أخوه أبو يحي والي قرطبة، وصديق ابن رشد، يجمع التأييد من رجالات الدولة لتنصيبه خليفة بعد وفاة المنصور التي كانت منتظرة. ولكن المنصور شفي من المرض فاستدعى أخاه أبا يحيا وأعدمه وكان ذلك سنة 589هـ.

وأثناء مرض المنصور شكل منافسو ابن رشد، الذين وصفهم بـ “الوحوش الضارية”، وفداً سافر سنة 591 هـ إلى العاصمة مراكش حيث كان يقيم المنصور مريضا, يحملون معهم “ملف الوشاية وطلب الإدانة” ضد ابن رشد. وقد استجاب المنصور لطلب هذا الوفد فأمر بمحاكمة فيلسوف قرطبة، ثم نفاه إلى “أليسانة” (قرية خارج قرطبة) حيث بقي مدة عامين تحرك بعدها وفد من وجهاء اشبيلية فتدخلوا لدى المنصور وأكدوا له أن التهم التي ألصقت بابن رشد باطلة، فأطلق سراحه وأعاده إلى سابق مكانته. وحينذاك فقط “جنح المنصور إلى تعلم الفلسفة”! ولكن بعد فوات الأوان، فقد توفي في السنة نفسها التي توفي فيها ابن رشد، سنة 595 هـ (1198م).

لا تعرف بالضبط التهمة التي حوكم بها فيلسوف قرطبة وما ذُكر منها، هي من قبيل التهم التي يوجهها “فقهاء السلاطين” إلى خصومهم من الفلاسفة وهي كلها متهافة. والواقع أن أن الأمر يتعلق بوشاية مغرضة، وليس بتهمة: كان ابن رشد صديقا لأخ المنصور، الأمير أبي يحي والي قرطبة، الذي كان يعد العدة لتسلم الخلافة بعد وفاة أخيه المريض مرضا “يئس منه الأطباء”، كما أسلفنا، وكان من جملة استعدادات هذا الأمير لتولي منصب الخليفة أن طلب من ابن رشد أن يكتب له كتابا في السياسة. ولما كان الأمير على صلة بالفلسفة، من خلال صداقته مع ابن رشد، فقد طلب أن يعمل له تلخيصا لكتاب السياسة لأرسطو. ولما لم يكن ابن رشد قد عثر على هذا الكتاب (إذ لم يترجم إلى العربية)، فقد قام بتلخيص كتاب السياسة لأفلاطون، (كتاب الجمهورية)، وأهداه له.

ومع أنه لم يذكر اسم الأمير فإن عبارات الإهداء لا تترك مجالا للشك في أنه هو المعني بالأمر. وهذا نص الإهداء كما ورد في آخر الكتاب. قال: “فهذا، أدام الله عزكم وأطال بقاءكم، جملة الأقاويل العلمية الضرورية في هذا الجزء من العلم [المدني]، الذي تشتمل عليه الأقاويل المنسوبة إلى أفلاطون، قد بيناها بأوجز ما أمكن، مع اضطراب الوقت. وهذا إنما تأتى لنا بما آزرتمونا به لفهمها، وبفضل مشاركتكم في ما نتوق إليه من هذه العلوم، وبعونكم لنا عليها في جميع وجوهها أحسن العون وأكمله. وأنتم لم تكونوا لنا سببا في إلهامنا واكتسابنا لما هو جميل وحسب، بل كذلك في جميع ما حزناه من الخيرات الإنسانية التي ألهمنا الله تعالى إليها بفضلكم، أدام الله عزكم. أعانكم الله على ما أنتم بصدده وأبعد عنكم كل مثبط، بمشيئته وفضله

في خضم السياسة، ومن أجل السياسة كتب الفيلسوف ابن رشد، رأيه في “الواقع السياسي العربي”. وسنرى أنه كان يرى هذا الواقع بعين أخرى…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى