قضايا فكرية

أكبر مؤرخ فرنسي في القرن العشرين: فيرنان بروديل 1902- 1985 : بقلم: هاشم صالح

هاشم صالح  ……..
النشأة والبدايات الأولى …….
من هو بروديل؟ ……..
بعضهم يقول إنّه أحد كبار مؤرّخي العالم. فقد تجاوز تأثيره حدود فرنسا كي يصل نيويورك، وموسكو، وطوكيو، وبكين، ونيودلهي، والرباط، وتونس، والقاهرة، وعشرات العواصم الأخرى. لقد أعطى درساً في المنهجية التاريخية لجميع المؤرّخين المعاصرين ولم يعد بوسع أحد أن يتجاهله. وبكلمة أخرى : لم يعد أحد قادرا على كتابة التاريخ بعد بروديل مثلما كان يكتبه قبله. فهو مخترع المنهجية الحديثة والمصطلحات الجديدة التي قلبت كتابة التاريخ رأساً على عقب وأصبحت تدرس في شتّى الجامعات العالمية. صحيح أنّ له أسلافا ولم يبتكر كلّ شيء من العدم. ولا ينبغي أن ننسى تأثير مدرسة الحوليات عليه، وخاصة المؤسِّسين الكبيرين لوسيان فيفر ومارك بلوك. ولكن لولاه لما ازدهرت هذه المنهجية التاريخية وبلغت كلّ هذا التأثير العالمي. فمن هو بروديل هذا؟ وماذا فعل بالضبط؟ هذا ما يجيبنا عنه هذا الكتاب المكرّس له ولمجريات حياته الشخصية والعلمية على مدار ثلاثة وثمانين عاما. وقد ألّفته غيليانا جيميلي أستاذة التاريخ المعاصر في جامعة بولونيا بايطاليا.
ولد بروديل عام 1902 في قرية صغيرة تقع شرقيّ فرنسا في منطقة غير بعيدة عن الحدود الألمانية. وكان زميله على مقاعد الدراسة شخص مشاغب وفاشل دراسيا يدعى : جان غابان. وهذا لم يمنعه من أن يصبح لاحقا أكبر ممثّل في تاريخ السينما الفرنسية. وبعد أن أنهى بروديل دراساته في باريس ذهب إلى الجزائر أستاذا للتاريخ في إحدى المدارس الثانوية. ومعلوم أنّ الجزائر آنذاك كانت مستعمرة فرنسية. وهناك اكتشف البحر الأبيض المتوسّط لأوّل مرّة وأعجب بجماله وهدوئه. ولم يكن يعرف آنذاك أنّه سيكرّس له من حياته مدّة ربع قرن على الأقلّ كي يكتب أطروحة كاملة عنه… وهي أطروحة تقارب الألف وثلاثمائة صفحة مع الخرائط والصور. ثم عاد بعدئذ إلى باريس كي يدرّس في ثانوية لويس باستور. وفي عام 1935 سافر إلى البرازيل أستاذاً في جامعة سان باولو. وبعد أن أمضى هناك ثلاث سنوات عاد إلى باريس من جديد لكي يدرس في المدرسة التطبيقية للدراسات العليا. وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية انخرط فيها ولكنه وقع في الأسر على خطّ ماجينيو الشهير عام 1940. وظل مسجوناً في ألمانيا لمدّة خمس سنوات : أي طيلة فترة الحرب. وهناك كتب أطروحته الضخمة عن البحر الأبيض المتوسّط في عهد فيليب الثاني ملك إسبانيا خلال القرن السادس عشر.

وقد يستغرب المرء ويتساءل: كيف يمكن لشخص مأسور أن يكتب أطروحة دكتوراه دولة وهو في السجن؟ ولكنّ بروديل كان يتمتّع بذاكرة عملاقة ساعدته على استرجاع معظم معلوماته. يضاف إلى ذلك أنه كان يمتلك الوقت الكافي للتأمّل والتفكير. فالسجن –كما يقول بروديل- يعلّمك الصبر، ويدفعك إلى اكتشاف طريقة ما لملء أوقات الفراغ والانتظار. فأنت محروم من الحرية طيلة الوقت ولا بدّ لك من أن تكتشف وسيلة لمحاربة الفراغ والضجر والملل. وكان أن انخرط في كتابة رسالة الدكتوراه الشهيرة. وبعد خروجه من السجن ناقش أطروحته في السوربون عام 1947. وهكذا لم يضع وقته عبثاً. وفي عام 1949 انتخب أستاذا في الكوليج دو فرانس، وهي أعلى مؤسّسة علمية فرنسية (أعلى من السوربون). وفي عام 1984 انتخب بروديل عضواً في الأكاديمية الفرنسية وتمّ تكريسه كشخصية تاريخية. ولكنه مات بعد هذا التكريم بعام واحد (1985). وهكذا يكون قد عاش ثلاثة وثمانين عاماً من أوائل القرن الماضي وتقريباً حتى نهايته. وهو عمر مديد أتاح له أن يخرِّج أجيالاً متتالية من المؤرّخين، وأن يؤلّف العديد من الكتب التي أصبحت مراجع كبرى لا غنى عنها لفهم عصرنا وكيفية تشكل الحداثة والرأسمالية والحضارة المادية التي سيطرت على العالم ولا تزال.

من أهمّ الكتب كنّا قد ذكرنا أطروحته عن المتوسط والشعوب المحيطة به، ومنها الشعوب العربية-الإسلامية بالطبع. ففرنسا لها شواطئ على المتوسط، وكذلك إسبانيا، وإيطاليا، الخ… ولكن الجزائر أيضا تقع على المتوسط. وكذلك مصر، وتونس، والمغرب، وسوريا، ولبنان، وتركيا… وقد توالت حضارات عديدة على المتوسط عبر التاريخ : من يونانية، ورومانية، وبيزنطية، وعربية-إسلامية، واستعمار اوروبي، الخ..

كيفية تشكل الحضارة المادية والرأسمالية

أما الكتاب الكبير الثاني الذي ألَّفه بروديل فيعتبر بمثابة تاريخ جديد للرأسمالية. وقد أصبح كلاسيكياً فيما بعد. وهو الآن مرجع لكلّ الباحثين. وينقسم إلى ثلاثة أجزاء كبيرة تتجاوز الألف صفحة في مجملها. والعنوان العام للكتاب هو التالي : الحضارة المادية. الاقتصاد والرأسمالية بين القرنين الخامس عشر والثامن عشر. ومن يريد أن يعرف كيفية تشكّل العالم الحديث بشكل تاريخيّ، مادّيّ، محسوس، ما عليه إلا أن يقرأ هذا الكتاب. ففيه يدرس بروديل كيفية تشكّل الرأسمالية وانتقالها من مركز إلى آخر : أي من فينيسيا أولا، إلى أمستردام ثانياً، إلى لندن ثالثاً، إلى نيويورك رابعاً وأخيرا. وهي مرشّحة لأن تنتقل إلى منطقة الصين والهند والشرق الأقصى قريبا. ففي كلّ عصر تتمركز الرأسمالية في منطقة ما أو مدينة معيّنة ذات حيوية اقتصادية ضخمة وتشع على العالم من هناك.

أمّا الكتاب الثالث والأخير فهو عن تاريخ فرنسا ويقع في ثلاثة أجزاء. وقد ختم به حياته وصدر قبيل موته بقليل. هذا بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التنظيرية والمنهجية عن علم التاريخ. نذكر من بينها بشكل خاص كتاباً بعنوان : كتابات على التاريخ.

فيما يخص المتوسط والجانب الإسلامي منه يقول بروديل : إنّ مصطلح البحر الأبيض المتوسط الإسلامي يدلّ على الهيمنة العربية على الجزء الشرقي والجنوبي من هذا البحر، وذلك بعد ظهور الإسلام والفتوحات، ثم فيما بعد أثناء الهيمنة العثمانية. لقد ساهم الفتح العربي في تغيير المشهد البشري والديني في حوض البحر الأبيض المتوسط. واستطاع العالم الإسلامي عن طريق حضارته الرائعة أن يلعب دوراً من الطراز الأوّل في التأثير على الشعوب الأخرى خاصة الشعوب الأوروبية. فلا يمكننا أن ننسى حضارة العالم الإسلامي بكلّ فلاسفتها وعلمائها وأطبائها وتجارها. وقد ساهم العرب في نشر الحضارة باتجاه الغرب من خلال مركزين أساسيين هما : إسبانيا أولاً، ثم صقلية ثانياً. وهكذا أتاحوا للعالم المسيحي الأوروبي أن يستفيد من الحضارة الفكرية والعلمية الإسلامية لمدة ثلاثة قرون.

أمّا كتابه عن الحضارة المادية والرأسمالية فإنّ بروديل يقول عنه : كلما درست كبار الرأسماليين من تجار وأصحاب بنوك أُصبت بدهشة كبيرة نظراً لعددهم القليل جداً. فمثلاً في عام 1840 كانت البنوك الفرنسية الكبرى ممثلة فقط بأربعين عائلة، أي بحوالي مائتي شخص فقط. وفي القرن الثامن عشر كانت تجارة مرسيليا كلها ممثلة بثمانين شخصاً. وبالتالي فالرأسماليون عددهم قليل ولكنّ فعلهم كبير… وفيما يخص تأليف هذا الكتاب يقول بروديل ما معناه : في الواقع إنّ هذا الكتاب فُرِض عليّ من قبل الشخص الذي أحببته أكثر من غيره في حياتي كلها وهو: أستاذي في علم التاريخ : لوسيان فيفر. فهو الذي نصحني بتأليف كتاب عن تاريخ الحضارة المادية في الغرب من القرن الخامس عشر إلى القرن الثامن عشر. ثم قال لي بأنه هو سوف يؤلف كتاباً عن الحياة العقلية والفكرية للغرب في نفس الفترة وذلك لكي يرافق كتابي أو يصحبه. وهكذا نكون قد قمنا بمسح شامل لتاريخ الغرب من كلتا الناحيتين : المادية والفكرية، الاقتصادية والثقافية..وهذا هو معنى التاريخ الكلي أو الشمولي للحضارات البشرية.

ولكن للأسف فإنّ لوسيان فيفر مات وتركني وحدي في الميدان وهكذا لم يتح له الوقت الكافي لإنجاز كتابه الموعود. أمّا أنا فقد كرست من عمري عشرين سنة لتأليف هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة. ولكن لا يزال ينقصنا التاريخ الروحي أو الثقافي أو الفكري الذي كان لوسيان فيفر يزمع كتابته لولا أن وافاه الأجل. فلا يكفي أن نكتب التاريخ المادي فقط للحضارة الحديثة.

الفترات الثلاث
للزمن التاريخي

لا يمكننا أن نفهم بروديل أو منهجيته إذا لم نفهم المصطلحات الثلاثة التالية : المدة الطويلة، والمدة المتوسطة، والمدة القصيرة للتاريخ. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ هناك ثلاثة أزمنة للتاريخ. الزمن الأول هو الزمن العمقي، التحتي، البنيوي. والزمن الثاني هو زمن المعارك والحروب والسلالات الحاكمة. والزمن الثالث هو زمن الأحداث السياسية السريعة والمتقلبة التي نشهدها كل يوم. ونكاد نسميه بالزمن الصحفي. وهو الذي يسترعي اهتمامنا عادة معتقدين انه أساسي..

الزمن الأول طويل جداً، ويبدو وكأنه جامد لا يتحرك، أو قل إنه يتحرّك ببطء شديد. نضرب على ذلك مثلاً المناخ وحركة الفصول. ففصل الشتاء مثلاً هو ذاته في جميع البلدان المتوسطية، وهو شتاء معتدل عموماً على عكس الشتاء القارس في بلدان شمال أوروبا الباردة. ولم يتغير فصل الشتاء في حوض المتوسط منذ آلاف السنين وحتى اليوم. وقل الأمر ذاته عن فصل الربيع والصيف، الخ…( ربما كان الآن في طور التغير نتيجة الانقلابات المناخية التي تحيّر العلماء). ويمكن أن نقول الشيء ذاته عن المزروعات والأشجار في البلدان المحيطة بالمتوسط. فهي أيضا مستمرّة منذ مئات أو آلاف السنين (الحمضيات مثلاً، والزيتون، والتين، والعنب، الخ…).كلها مشتركة: من ايطاليا إلى اسبانيا إلى ليبيا إلى المغرب ومصر وتونس وسوريا وفلسطين الخ..
أمّا الزمن المتوسط للتاريخ فيخص الأشياء التي تدوم خمسين سنة أو مائة سنة أو حتى مائتي سنة وربما أكثر. نضرب مثلا على ذلك بعض السلالات المالكة أو بعض الأنظمة السياسية. أمّا الزمن القصير فيخص الأحداث الجارية كل يوم. وينبغي على المؤرخ عندما يدرس أي بلد أن يميز بين هذه الأزمنة الثلاثة المتراتبة فوق بعضها البعض. وهناك بعض الظواهر لا يمكن فهمها إلا إذا موضعناها ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ. نضرب على ذلك مثلاً ظاهرة العقلانية في الغرب.

فإذا ما درسناها من خلال الأوضاع الراهنة فقط فإننا لن نفهمها جيداً. فالعقلانية ليست بنت البارحة وإنما لها تاريخ طويل عريض يعود إلى رينيه ديكارت في القرن السابع عشر بل حتى إلى عصر النهضة في القرن السادس عشر. بعدئذ تطورت العقلانية شيئاً فشيئاً وهزمت الخرافات والخزعبلات والمعجزات المسيحية وسيطرت على عقلية الناس في الغرب. هذا يعني أنه كي نفهم عقلية الشعوب الأوروبية الحالية فإنه ينبغي أن نعود مدة ثلاثمائة أو أربعمائة سنة إلى الوراء. وهذا ما يدعى بمنظور المدّة الطويلة للتاريخ. ولكي نفهم ظاهرة العنصرية لا يكفي أن ننظر إليها من منظور الوقت الراهن، أي من خلال سنة أو سنتين أو حتى عشر سنوات أو عشرين سنة كما يفعل الصحفيون عادة. وإنما ينبغي أن نموضعها داخل منظور المدة الطويلة للتاريخ : أي أربعمائة أو خمسمائة سنة. فالعنصرية لها منشأ معيّن وتاريخ طويل عريض. وقل الأمر ذاته عن مشكلة الطائفية أو المذهبية المستفحلة حاليا في العالم الإسلامي. فهي أيضا لن تُفهم على حقيقتها إلا إذا عدنا ألف سنة إلى الوراء وربما أكثر كي نعرف كيف حصلت الانقسامات في الإسلام لأوّل مرّة، ولماذا، وضمن أيّة ظروف، الخ..ولذلك فعندما نسمع أخبار العراق أو الباكستان مثلا من خلال الصحافة المكتوبة أو الفضائيات فإننا نعتقد أننا فهمناها في حين أننا لم نفهم شيئا يذكر..وذلك لأنها غير موضوعة ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ، وإنما من خلال الأحداث الجارية من يوم ليوم. وهذا لا يكفي على الإطلاق لفهم أسباب الانفجارات والحروب الأهلية والمجازر التي تحصل حتى في المساجد أحيانا.. ينبغي أن نعود في الزمن مئات السنين إلى الوراء كي نفهم أسباب انفجار الأوضاع في العراق حاليا بمثل هذا العنف الرهيب.

بمعنى آخر : ينبغي أن نفهم الماضي لكي نفهم الحاضر. والعكس صحيح أيضا. وهذا ما يدعوه أركون على أثر بروديل بالمنهجية التقدمية- التراجعية في علم التاريخ : أي أن نقرأ الحاضر على ضوء الماضي، والماضي على ضوء الحاضر. بهذه الطريقة وبها وحدها يُضاء لنا تاريخ الإسلام من أوّله إلى آخره. ومعلوم أنّ أركون هو تلميذ بروديل ومدرسة الحوليات ككلّ. وسبب نجاح مشروعه الفكري في “نقد العقل الإسلامي” يعود إلى هذه النقطة بالذات: أي إلى تتلمذه على أحدث وأنضج مدرسة في علم التاريخ. نضرب على ذلك مثلا آخر يشغل الجميع حاليا : مسالة العلاقة بين الإسلام والعنف. لا يمكن فهمها إذا ما اكتفينا بدراسة اللحظة الحاضرة، وبن لادن، والقاعدة، الخ. إذا ما اكتفينا بالتموضع داخل اللحظة الحاضرة كما يفعل الصحفيون السطحيون أو المتسرعون فإننا لن نفهم شيئا. ينبغي أن نعود صعدا في الزمن إلى الوراء لكي نصل إلى أعمق لحظة في الماضي، إلى لحظة اللحظات : أي إلى لحظة القرآن بالذات قبل ألف وأربعمائة سنة. كما وينبغي أن نعود إلى لحظة تبور نظرية الجهاد على يد الفقهاء الكبار في العصرين الأموي والعباسي وبخاصة العباسي. انظر تحليله الراديكالي الاركيولوجي المضيء جدا لسورة التوبة مثلا. لولا أن بعض جوانب القرآن آو بعض آياته تخلع المشروعية الإلهية على العنف المقدس لما تجرّأ الأصوليون الحاليون على ارتكاب المجازر بمثل هذه السهولة وضميرهم مرتاح دون أن يرفّ لهم جفن..لولا أنّ الفقهاء الكبار ركّزوا على مسألة العنف معتمدين آية السيف متناسين آيات الصفح والغفران العديدة أو ناسخين لها لما كان ضمير مشائخنا الحاليين مرتاحا أو مطمئنا إلى مثل هذا الحدّ..

نقول ذلك خاصة أنّ القرآن الكريم يركز على التسامح وعدم الإكراه في الدين أكثر بكثير من الفقهاء اللاحقين. كما يدعو إلى العفو والمغفرة أكثر ممّا يجيز العنف بكثير. وهو عنف محصور في حالات محددة وكحل أقصى في الواقع. وبالتالي فمسؤولية العنف وخلع المشروعية الإلهية عليه تعود إلى الفقهاء بالدرجة الأولى. وهناك تأويل آخر ممكن للقرآن الكريم غير تأويلهم. إنّه تأويل أكثر انفتاحا وتماشيا مع روح العصور الحديثة. ويمكننا أن نعتمد آيات كريمة كثيرة متسامحة لتشكيل لاهوت التحرير وحقوق الإنسان في الإسلام. وهي أكثر بكثير من آيات العنف. ولذلك نقول بأن منهجية الحفر الاركيولوجي في الأعماق أصبحت ضرورية من اجل تحقيق التحرير الفكري المنتظر. لا يمكن تحرير الحاضر بدون تحرير الماضي أو الاشتباك معه بشكل أو بآخر. من هنا صعوبة المهمة المطروحة علينا في السنوات القادمة. إنّها خطرة حتى من الناحية السيكولوجية بل ومرعبة حقا.

عودة إلى المتوسط

لكن لنعد إلى بروديل، أستاذ الجيل كله، والمتوسط. لقد كتب بكل تمكّن واقتدار تاريخ البحر الأبيض المتوسط والحضارات التي تعاقبت عليه منذ أقدم الأزمان وحتى اليوم. فقد ابتدأ أولا بدراسة الموضوع ضمن منظور المدة الطويلة جدا للتاريخ : أي المدة التي تخص علاقة الإنسان بالبيئة الطبيعية المحيطة به. وهي تعود إلى آلاف السنوات. وهنا درس بروديل الجبال والسهوب المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط من كل الجهات. كما درس الجزر، والصحارى، والحياة البدوية وارتياد الماشية للكلأ في مواضعه، والبرازخ ، ومضائق البحار، والملاحة البحرية، والطرق البرية التي كانت متوافرة آنذاك. وبالطبع درس المناخ السائد في حوض البحر الأبيض المتوسط ودورة الفصول. كل هذا درسه واستوعبه قبل أي شيء آخر. هذا هو الطابق السفلي، التحتي، لتاريخ البشر. بعدئذ انتقل لدراسة الأمور ضمن منظور المدة المتوسطة للتاريخ والتي تقع فوق المدة السابقة مباشرة. ويقصد بذلك دراسة التاريخ الاجتماعي للشعوب والأمم : أي دراسة الاقتصاد والديموغرافيا والعملة المالية والمعادن والأسعار وتجارة القمح ووسائل النقل السائدة في تلك الأزمان برا وبحرا. كما درس الفئات الاجتماعية المختلفة من بورجوازيين، أي سكان مدن، وقطاع طرق وعصابات، ويهود ومسلمين ومسيحيين، وكذلك درس الرأسمالية والحروب..

بعدئذ انتقل بروديل إلى دراسة الطبقة الأخيرة والثالثة من تاريخ شعوب البحر الأبيض المتوسط. وهي التي تخص دراسة المعارك العسكرية والسياسات التي اتبعتها هذه السلالة المالكة أو تلك والحروب التي جرت بين الأوروبيين المسيحيين والأتراك المسلمين الخ..بمعنى آخر فإنّ هذا التاريخ العسكري والسياسي والدبلوماسي الذي استحوذ على اهتمام المؤرخين في الماضي والذي نُبهر به نحن عادة أصبح ثانويا بالقياس إلى ما سبق. ففي منظور مدرسة الحوليات فإنّه ليس إلا أثراً يلمع على السطح.. إنّه محصلة لما سبق : أي للبنى العميقة التي يرتكز عليها بالضرورة والتي ذكرناها سابقا. نعم إنّ التاريخ الحقيقي الذي يحسم الأمور هو تاريخ البنى الجغرافية والديمغرافية والاقتصادية والبيئية والطبيعية بالدرجة الأولى وليس تاريخ هذا الملك أو ذاك أيا تكن أهميته..ولذلك قال نابليون : قل لي ما هي جغرافية بلد ما أقل لك ما هي سياسته.. وهذا ما ندعوه حاليا بالجيوبوليتيك..بمعنى آخر فان موقع البلد وموارده الطبيعية وإمكانياته الاقتصادية وعدد سكانه وحدوده ونوعية جيرانه هي العوامل التي تحسم في نهاية المطاف توجهه السياسي والعسكري والدبلوماسي. فأن تكون جارتك فرنسا أو ألمانيا غير أن تكون جارتك موريتانيا أو السنغال..

بروديل وتاريخ فرنسا

ثم ختم بروديل حياته العلمية كلها بكتابة “تاريخ فرنسا” كما كان متوقعا. وقبيل إنجازه تماماً قال عنه في إحدى المقابلات الصحفية: إني أكتبه ضمن منظور المدة الطويلة للتاريخ. بمعنى أني أدرس فيه متغيرات حصلت ببطء شديد، متغيرات تطلَّبت عدة قرون لكي تتحقق. ثم أردف: الإنجليز يقولون عني بأن التاريخ الذي أكتبه لا نهاية له! ولم لا؟ هذا يعني مثلاً أنّي أعود إلى بعض الظواهر التي كانت سائدة في عصر لويس الرابع عشر كي أستطيع أن اشرح الوضع الحالي لفرنسا. فهناك أشياء مستمرة ومتطاولة تطاول الزمن والقرون. وهناك بالطبع أشياء تعود للقرن السابع عشر ولكنها تغيّرت الآن وانتهت ولم يعد لها أي وجود. وإذن فعلم التاريخ ينبغي أن يدرس الأشياء المستمرة المتواصلة، والأشياء التي سقطت على الطريق أو ماتت وانقرضت وأصبحت في ذمة التاريخ. وهنا يكمن معنى القطيعة الابيستمولوجية أو القطيعة التاريخية. فهناك أشياء تموت نهائيا وينبغي أن نعترف بالموت والقطيعة كجزء لا يتجزأ من تاريخ البشر. وقديما قال نيتشه هذه العبارة الرائعة: قد يمكن للإنسان أن يعيش دون أيّ تذكّر كالحيوان، ولكن من المستحيل عليه أن يعيش دون أن ينسى.

وهذا يعني ان النسيان ظاهرة صحية لا مرضية. نضرب على ذلك مثلا أوروبا الحديثة. لقد نسيت كل تاريخ المسيحية القروسطية وكل عقليتها ومعجزاتها ومقدساتها وطقوسها وشعائرها وأصبحت تعيش على عقلية أخرى مُعلمنة ومختلفة تماما. نستثني من ذلك بالطبع بعض الأقلّيات الصغيرة التي لا تزال مسيحية تقليدية.
إنّ بروديل يقول لنا ما معناه:عندما ندرس تاريخ بلد ما لا ينبغي أن نكتفي بالعشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة من حياته وإنما ينبغي أن ندرسه من خلال منظور طويل : أي قرنين أو ثلاثة قرون أو حتى عشرة قرون وربما أكثر…فلكي تفهم الشخصية الفرنسية حقا لا يكفي أن تدرسها من خلال عهد جيسكار أو ميتران أو شيراك أو ساركوزي وإنما ينبغي أن تعود إلى الماضي البعيد: إلى عهد الملوك والثورة الفرنسية والقطيعة الكبرى الكائنة بينهما. وقل الأمر ذاته عن الشخصية العربية أو الفارسية أو الانكليزية الخ..فالعرب لا يمكن فهمهم إذا لم نعد إلى بدايات الإسلام والفتوحات بل وحتى إلى ما قبل الإسلام : أي إلى عصر الجاهلية والانقسام إلى قبائل وعشائر وأفخاذ وبطون..فهذه أشياء لا تزال مستمرة في العقلية العربية حتى الآن وإن بدرجات متفاوتة وبحسب البيئة والمستوى الثقافي والاجتماعي الخ..

أمّا الجزء الثاني من كتابه عن تاريخ فرنسا فيطرح فيه السؤال التالي : هل الفرنسيون مسؤولون عن أمجاد تاريخهم وعن كوارثه أيضا؟ وهنا يتساءل بروديل عن مدى حرية الإنسان في التاريخ أو بالأحرى هامش الحرية الذي يمتلكه أو لا يمتلكه. وفي رأيه أن الإنسان مسيَّر أكثر مما هو مخيَّر على عكس ما نتوهم. ولذا فإنه لا يتفق كليا مع ماركس عندما يقول بأن البشر هم الذين يصنعون التاريخ. لا ريب في أنّهم يصنعونه إلى حدّ ما ولكن لا يتحكمون به كليا على عكس ما يتوهمون. ففي رأيه إن التاريخ هو الذي يصنع البشر أيضا أو يؤثر عليهم أو يتحكَّم بتوجهاتهم سواء أشعروا بذلك أم لم يشعروا. لنضرب على ذلك كمثل محسوس بلداً غنياً مليئاً بالثروات الطبيعية كالسعودية مثلا، وبلداً فقيراً محروماً من هذه الثروات كمصر. هل يمكن المقارنة بينهما؟ هل يمكن القول بأن البلد الفقير يملك نفس هامش الحرية الذي يمتلكه البلد الغني؟ بالطبع لا. وقس على ذلك الأفراد أنفسهم. فالشخص الذي يولد في عائلة غنية يمتلك منذ البداية أوراقاً أو حرية حركة أكبر بكثير من الشخص الذي يولد في عائلة فقيرة. ولكن هذا لا يعني أن الإنسان ليس قادراً على تغيير واقعه نحو الأفضل. فبالجد والعمل والصبر يمكن للإنسان الفقير أن يتوصل إلى شيء ما، وأحيانا إلى أعلى المراتب. ولكن هذه ليست قاعدة عامة. فأحيانا كثيرة قد تسحقك ظروف الحياة سحقا وتوقفك عند حد معين. وكم من المواهب ماتت وهي في عمر الزهور؟ ولكن كما قال نيتشه: وحدها الشخصيات الاستثنائية تخترق الظروف..ولكن ليس كل الناس شخصيات استثنائية.
علم التاريخ أم العلوم الإنسانية

وعن علاقة علم التاريخ بالعلوم الإنسانية الأخرى يقول بروديل هذا الكلام الهام: لا يمكن للمؤرخ المعاصر أن يؤدي عمله جيداً إلا إذا اطلع على بقية العلوم الإنسانية. في الماضي كان يكتفي بسرد الأحداث التاريخية المتسلسلة وراء بعضها البعض فيروي لك سير الملوك والحكام والمعارك والحروب والأبطال العظام.. وأما اليوم فلم يعد ذلك كافياً على الإطلاق. فلكي نكتب تاريخ بلد مثل فرنسا أو غير فرنسا ينبغي أن نعرف أولاً جغرافية هذا البلد، وعدد سكانه، واقتصاده، ونفسية شعبه،وتركيبته الدينية او المذهبية، وأوضاعه الاجتماعية، وظروفه السياسية، وهل حباه الله بموارد طبيعية وثروات ضخمة ام لا، الخ… بمعنى آخر فإن المؤرخ المعاصر لم يعد مؤرخاً فحسب وإنما أصبح أيضا عالم جغرافيا، وعالم اقتصاد، وعالم نفس، وعالم اجتماع، وعالم لغة، وعالم انتربولوجيا، وعالم في تاريخ الأديان المقارنة، الخ… بمعنى آخر أصبحت العلوم الإنسانية كلها مُتضمَّنة في علم التاريخ. وأصبح علم التاريخ هو أم العلوم الإنسانية كلها. وهذا هو الإنجاز الكبير الذي توصلت إليه مدرسة الحوليات الفرنسية. ومن المعلوم أنها أشهر مدرسة تاريخية في العالم. وقد تجسَّدت بشكل رائع في شخصية فيرنان بروديل. وهي مدرسة التاريخ الكلي: بمعنى أنها تدرس تاريخ أي بلد من مختلف جوانبه دفعة واحدة. وهكذا تضيئه بشكل رائع وغير مسبوق.

وهذا ما ينقص بلداننا العربية والإسلامية بشكل خاص. فلو انه ظهر عندنا مؤرخون محترفون يعرفون كيف يطبقون منهجية مدرسة الحوليات عليها لفهمنا تركيبتها الداخلية ولعرفنا بالتالي كيف نشخص مشاكلها أو عللها جيدا ونضع لها الحلول الناجعة. ولكن جهلنا بكل ذلك هو سبب تخبطنا في سياسات خاطئة لا تؤدّي إلى أي نتيجة. انظر حيرة السلطات والمعارضات.. ولذلك تسيطر علينا الايديولوجيات الغوغائية من قومجية أو أصولية. أما المجتمع الفرنسي فمدروس من كافة النواحي من قبل مؤرخيه وفلاسفته وعلماء اجتماعه ولذلك فإنّهم يعرفون نوعية المشاكل التي يعاني منها وبالتالي ينجحون في تشخيصها وحلها ويتقدمون إلى الأمام باستمرار. ولذلك قال جاك بيرك، صديق بروديل ومعاصره، كلمته الناجحة : لا توجد مجتمعات متخلفة ومجتمعات متقدمة، وإنّما توجد مجتمعات مدروسة ومحللة جيّدا على أحدث المناهج، ومجتمعات مجهولة أو غير مدروسة علميا. هذا كل ما في الأمر لا أكثر ولا أقلّ..بالطبع هو يبالغ قليلا ولكن بالكاد..

من أقوال بروديل

• إني أعتقد فعلياً بوجود التقدم في التاريخ ومقدرة البشر على تحقيقه. وأعتقد بوجود العقل والأخلاق في التاريخ. وبالتالي فلا ينبغي أن نيأس أو نتشاءم أكثر من اللزوم.(هنا يبدو بروديل هيغليا).
• التاريخ كلما تقدم خطوتين إلى الأمام رجع خطوة إلى الخلف لكي يلتقط أنفاسه ويهضم التقدم الذي تجرأ عليه وحققه.
• كل تقدم ناجز يولد مشاكل جديدة لم تكن معروفة أو موجودة سابقاً.وهذه المشاكل الجديدة او المستجدة بحاجة إلى تقدم جديد لحلها وهكذا دواليك..
• في التاريخ لا يوجد الخير فقط، وإنما يوجد الشر أيضا.(لكن هل للشر وظيفة ايجابية كما يقول سيدنا هيغل؟ لا أعرف فيما إذا كان بروديل قد أجاب على السؤال).
• لكي ينجح علم التاريخ ينبغي أن يتعاون مع العلوم الإنسانية الأخرى. ولكي تنجح العلوم الإنسانية الأخرى ينبغي أن تأخذ البعد التاريخي بعين الاعتبار. فلا توجد مشكلة فردية أو جماعية إلا ولها بعد تاريخي. وبالتالي فلا يمكن لأحد أن يستغني عن علم التاريخ. انه أم العلوم الإنسانية.
• لا يمكن فهم الحاضر إلا من خلال الماضي وأحيانا الماضي البعيد.
• لقد أصبحتُ مؤرخاً بسبب والدي. كنت أريد أن أصبح طبيباً فمنعني. فتحولت إلى دراسة التاريخ..وبالتالي فقد نفعني بعد أن كنت قد اعتقدت أنّه ضرني..وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم!..فقد أصبح التاريخ هوسي ومتعتي الكبرى.
• بالنسبة للمؤرخ الكبير عام واحد لا شيء، وقرن واحد طرفة عين!
• المؤرخ الكبير لا يهتم أولاً إلا بالأشياء التي تدوم مئات أو حتى آلاف السنين. بعدئذ يهتم بالأحداث الجارية، والمعارك، والأبطال…
• بالنسبة لي فإن مصطلح البنى التحتية والبنى الفوقية يدل على أشياء اجتماعية، واقتصادية، وثقافية ذات ديمومة طويلة. ولكني لست متفقاً مع ماركس الذي يحتقر البنى الفوقية ويعتبرها هامشية. فالبنى الفوقية مهمة مثل البنى التحتية (الدين مثلاً لا يقل أهمية عن الاقتصاد في مجتمعات ما قبل الحداثة هذا إن لم يزد.. وبالتالي فالدين هو بنية تحتية وفوقية في آن معا. ولكنه لم يعد كذلك بالنسبة للمجتمعات العلمانية الحديثة كفرنسا وألمانيا وانكلترا الخ..)
• بالنسبة لي فإن الظاهرة البنيوية هي الظاهرة الصلبة التي تدوم زمنا طويلاً ولا تزول بسرعة. وإذن فمفهومي للبنيوية لا علاقة له بمفهوم كلود ليفي ستروس، أو بعض علماء الاجتماع والفلاسفة الفرنسيين الآخرين…أنا بنيوي بمعنى آخر مختلف تماما.
نقلاً عن الأوان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى