الرأي

أبو العلاء المعري لاجئاً في باريس

بشير البكر – المدن
مشاعر فرح وحزن، ونحن نرى إحدى بلديات مدينة باريس تستضيف تمثال الشاعر والفيلسوف السوري أبي العلاء المعري، الذي أنجزه النحات السوري عاصم الباشا. ومصدر الفرح هو أن حياة أخرى تبدأ لهذا الرمز الثقافي. أما سبب الحزن هو أن هذه القامه الثقافية، باتت منفية تقف على أرض أخرى، بعدما طردته الأرض التي ولد عليها. وبمعنى آخر هو لاجئ مثل آلاف السوريين الذين قصدوا فرنسا، هرباً من المصير الذي لقيه فيلسوف المعرة على أيدي أعداء الحرية.
يستحق التقدير كل من يقف وراء هذه المبادرة، الجهة التي بادرت إلى تكريم المعري وهي مجموعة من المثقفين السوريين ومنظمة “ناجون” التي يديرها الفنان فارس الحلو، والفنان النحات عاصم الباشا الذي اشتغل على نقل الفكرة إلى عمل فني نال الإعجاب، والدولة الفرنسية التي استضافت التمثال على أرضها بانتظار الظروف التي تسمح بنقله إلى وطنه الأم سوريا، نحو “معرة النعمان” المدينة التي ولد فيها ومات (973-1057)، وحملت اسمه على مر الأزمنة السياسية والاجتماعية والثقافية، التي تعاقبت على تلك الأرض التي أصبحت اليوم شهيدة بكل المقاييس.
المعري الذي أعلن مركزية العقل، “كذّب الظن لا إمام سوى العقل”، ليس نكرة بالنسبة للثقافة الغربية على العموم، بل هو علم معروف من خلال كتابه الشهير “رسالة الغفران”، الذي يعده الباحثون الغربيون أحد روافد “الكوميديا الإلهية”، التي كتبها الشاعر الإيطالي دانتي اليغيري (1265-1321)، وكثير من الباحثين الغربيين يعتبرون أن دانتي أخذ من المعري فكرة الملحمة ومضمونها. وهذا هو أحد مصادر التقدير الكبير الذي ظل يحظى به المعري، بعد مرور أكثر من تسعة قرون على “رسالة الغفران”، التي أملاها على كاتبه وهو في الستين من عمره، مزج فيها كل ما وعاه عقله من علم وثقافة وأخبار وأشعار وتوجهات فكرية، صاغها بطابع روائي، وعلى حد تعبير طه حسين هو “الشاعر والناظم وهو الناقد والشارح وهو الواعظ والمرشد، وهو صاحب حكمة وتفلسف وهو الأستاذ في كل هذه الوجوه”.
يبدو من التأمل في العمل النحتي الذي بدأ الباشا يعمل عليه العام 2018، أنه استغرق جهداً كبيراً، خصوصاً أن الفنان يعمل لوحده وبإمكانات ذاتية في محترف في اسبانيا بعد خروجه من سوريا بسبب تأييده الثورة ضد النظام. ومن دون شك، اهتز وجدان الباشا مثل جميع السوريين بسبب قيام “جبهة النصرة” بقطع رأس المعري في بداية عام 2013، وهو التمثال الذي صنعه النحات السوري فتحي محمد، العام 1940، وتلا ذلك تدمير متحف المعري في العام 2015 من قبل طيران النظام، وكان معلماً أثرياً يقصده السياح وعلماء الآثار من أنحاء العالم. ذلك المتحف الذي افتتحه طه حسين، الذي اقتدى بفكر وعقلانية أبو العلاء المعري، وهو صاحب كتاب “تجديد ذكرى أبي العلاء”.
اختيار فرنسا لاستضافة التمثال ليس مصادفة، فهي أرض الفكر العقلاني وفلسفة الأنوار والحرية والإعلان العالمي لحقوق الانسان، بلد ديكارت وديدرو وروسو وفولتير وجاك بيرك. وقد تميزت، على الدوام، بمواقف مشهودة في ما يخص الاهتمام بتكريم الثقافة والمثقفين، وحينما تفعل ذلك فهي تقوم بواجب أخلاقي يحتمه عليها مكانها ومكانتها. وعندما يتصرف مسؤول فرنسي بما يخدم الثقافة، لا يقوم بذلك من موقع تقديم مساعدة، وبالتالي فإن تمثال أبو العلاء وجد مكانه في باريس، وهذا ما كان ينقص العاصمة الفرنسية، التي تعج بتماثيل المفكرين والفلاسفة والفنانين من أنحاء العالم، وهذه ميزة لمدينة الأنوار التي تزين نفسها بهذه الوجوه والأرواح العالية، التي أهدت البشرية فكراً نقدياً وذاكرة إنسانية وخيالاً جمعياً، وفتحت أمامها دروب الضوء والحرية والعدالة والمساواة، وليس مصادفة أن يكون شعار الثورة الفرنسية “عدالة، مساواة، أخوة”.
وجاء الإعلان الرسمي عن أول يوم من حياة أبو العلاء الجديدة في باريس، متزامناً مع الذكرى الثانية عشرة للثورة السورية، في 15 آذار من كل عام. المشاركون في المشروع اختاروا التوقيت، ولذلك قيمة معنوية مهمة، بقدر ما يحمله المعري من رمزية للذين تظاهروا للثورة ضد النظام، ورفعوا شعارات الحرية والديموقراطية والتعددية. ولم يكن هؤلاء أقلية في حينه، ولا في يومنا هذا، بل هم أكثرية الشعب السوري الذي خرجت القضية من يده. وبالتالي يشكل الوقوف في ظل المعري عالي القامة، اليوم، رسالة صريحة بأن العقلانية هي مستقبل سوريا، وليس الإقصاء والتهجير والسجون في ظل النظام الحالي، ولا التطرف الذي يمارسه الأصوليون. كما أنه يعني خروجا للسوريين من حالة المظلومية على حد تعبير الفنان فارس الحلو، ومخاطبة الآخر من موقع الندية.
بات المعري لاجئاً في باريس، بين عائلة إنسانية كبيرة، وفي وسط سوري يعبر عن تنويعات مختلفة من المثقفين وغيرهم، بما في ذلك المهن والحرف التي برع فيها السوريون في سوريا وخارجها. ورغم قصر عمر هذا اللجوء، فإن وسائل الإعلام الفرنسية، تحدثت مرات عديدة عن لمسات سورية دخلت في الحياة الفرنسية. وهذا الاعتراف، الذي هو دليل على حيوية المجتمع السوري، يشكل محاولة لتحدي الصدمة الكبرى، ومواجهة آثار الاقتلاع والنفي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى