صفحات متخصصةقضايا فكرية

قضايا فكرية: إعداد- د. هشام عمر النور

تداعيات أنطولوجية
إبراهيم جعفر
كاتب وأكاديمي سوداني، ببريطانيا
هوامش وراء، أو بين، سطوريّة على شيءٍ من المصطلح الصّوفيِّ للعارف المسلم محمد عبد الجَّبَّار النِّفَّرِيْ
إلى: محمد خلف الله سليمان “النِّفَّرِي”
الـنِّفَّرِيْ (مصطلحان*):-
سوى (الآخرون):-
“إذا لم يسلِّم الصوفيُّ أمرهُ لله فيسُلِّمُهُ لسوى الله وإلى الحدِّ الذي يجذبُ الصّوفيُّ فيه “السِّوَى”
يظلُّ لا يخبر “الوقفة”. وتوحيد المعرفة بالسِّوى يعني تحطيم المعرفة وإقامة السِّوى:- ولكن إذا استدعى الصوفيُّ الله مرةً فإنّهُ سيُجَنَّبُ استدعاء السِّوى في كلِّ الأوقات. وبتعذيبِ النفس يجب أن يقمع الصوفيُّ أيَّ خبرةٍ بالسِّوى في ذاته فتلكَ الخبرة، لكونها غير مقرِّبةٍ من الله، فهي مستقاة من “السِّوى”. ويجب على الصُّوفيِّ تحريرَ “بيته” من “السِّوى” وجعل السُّدل على وجهه وقلبه إلى حينَ مجافاته للسِّوى وحينذاكَ تكُنْ ضحكة البركات. وإذا اتّبع السِّوى الصوفيَّ فلا بأسَ عليه وإلاّ فإنّه سيخضع لهم. وإذا كان جلّ تركيز الصوفيّ ينصبُّ على “السِّوى” فذاكَ التركيزُ، في الحقِّ، انفصالٌ، أي فراق. فالصوفيُّ يكونُ خادمَ السِّوى إلى الحدّ الذي يرى في اتّباعهم بُغيته. فمن يلتزمُ بعهد الله ثمّ يتّبع سواه فهو غير مؤمنٍ. والكون “سوى”:- فكلّ سوى حرفٌ وكلٌّ حرفٍ سوى. وعبد الله الحقيقيُّ هو من تحرر من سواه والمصدِّق بالله هو من يسلِّم إلى الله أمرَ كلِّ شيءٍ عداه:- في حين الله يعدُّ السّامرَ برفقتهِ من لا يستجيبُ لدعوةٍ لآخرٍ سوى الله. وفي نظرِ الله كلُّ السِّوى “خطيئةً”:- فحيثُما لا يُرى الله يكونُ “السِّوى” فضيلةً. ومن يحوزُ على الغنى خلالَ آخرٍ سوى الله يفتقرُ بواسطةِ ذاتِ الشيءِ الذي حاز به على الغنى”.
ب. غير:-
“إذا رأى الصوفيُّ “غيرَ” الله فهو لم يرَ الله فكلُّ غيرٍ هو طريقٌ لغير. وإذا امتلأ الصوفيُّ بالله والغيريّةِ معاً فهو أجهلُ الجاهلين وذلك لأنّ معيار الحقيقة هو أنّ غيرَ الله عدمٌ– ورؤية غير الله تعني طاعته: ولكن نسبةَ معرفةِ الصوفيِّ بالله لا تناسب مقام آخرٍ غير الله: فمن يُطع أمرَ الله لوجه الله فعمله، في الحقِّ، معتبرٌ عند الله: أمّا من يُطع أمرَ الله لحسابِ آخرٍ غيرِ الله فعمله لمن عملَ له. وإذا فارق الله القلبَ قدَّسَ القلبُ آخرَ غير الله: ولكن وليَّ الله لا ينشغلُ بشيءٍ سوى الله وذلكَ لأنَّ الله لم يرضَ عنهُ بسببٍ آخرٍ سوى نفسهِ. وإذا استجابَ الله دعوةَ الصوفيِّ فإنّه يعميه عن كلِّ دعوةٍ لسواه: ولكن إذا شاء الصوفيُّ اختيار غيرَ الله فالله سيغيبُ عنهُ”.
هوامش:-
لُمَعٌ من معاني الهوامش:-
علاقةُ الصوفيُّ بالأُلوهةِ تتدنّى، عند انمساخِها بالغيريّة، إلى علاقةِ ذاتٍ بشيءٍ، بموضوعٍ أو آخرٍ.
إن قابلنا ما تعنيه الصّوفية المسلمة، أو العِرفَانُ الإسلاميُّ، بمقابله في الوجودية الغربية وبنافيهِ فيها في ذاتِ الوقتِ لرأينا، على التّوالي، أنّ الله (أو الذّات الألوهيّة العليّة) هناك (أي في الوجودية الغربية) مُعَادَلٌ بما يُسمَّىْ “المعنى” في الوجودية المؤمنة ووجودية “المعاني” معاً وبما يُسمّى “الذَّات الحرَّة” في الوجودية العدمية. شاهدُ ذلك– أو بعضٌ منهُ– مرتسمٌ في موقف وجودية “معانٍ” كتلك التي يؤكدها مفكِّرٌ مثل موريس ميرلوبونتي، حين يقرُّ بأنّ “المعنى” قد “كُتِبَ على الإنسان”، وفي موقفِ وجوديةٍ عدميّةٍ كالوجودية السارتريّة (من “سارتر”) حين تُقسِّمُ الكينونة إلى كينونةٍ-في-ذاتها (موضوعات أو أشياء الطبيعة وعالم المادة) وكينونة-لذاتها (الكينونة الإنسانيّة). بقيَ أن نشير هنا إلى أنّ “المعنى” عند ميرلوبونتي، بخلافهِ عند العارف الصوفي مُحَمَّد بن عبد الجَّبَّار النِّفَّرِي، مُقرٌّ بحقيقتِهِ كمعنىً قائماً بذاتهِ فيما الأُلوهةُ الواهبةُ والمؤسِّسة له مصموتٌ عنها.
• العلاقة الدينية والإنسانية الصّميميّة هي، في جوهرها، علاقةٌ بينَ “أنا” و”أَنْتَ” وليس بين “أنا” وموضوع أو “آخر”، فليس “الأَنْتَ” هو “الله” المطلق فقط أو الله– البعيد هناك فقط، بل قد يكونُ “أنا” إنسانيّة أُخرى يتجلَّى، أو “يتوهَّجُ”– بعبارةٍ أكثرَ تحسيساً وتعيُّناً– فيها ما هو إلهيٌّ:- “اللهُ نارٌ متَّقدةٌ في الرَّأس!” (نجنسكي الرّاقص).
الهوامشُ في خواطرٍ مفصَّلةٍ:-
تنطوي وجودية كولن ويلسون الجديدة على فهمٍ (شعورٍ) بأنّ هناكَ نظرتين للوجود:- نظرةُ عينِ الدودة (وهو ما قد أُسمِّيهِ، حسبَ ما أرى، الحسَّ اليوميَّ)، ونظرة عين الطائر (وهو اسمٌ آخرٌ لما أُسمّيه– بعموميّةٍ خشنةٍ ونثريَّةٍ نوعاً ما– تجربة المعنى).. عند كولن ويلسون العالمُ واحدٌ، ولكن هناكَ مستويين أساسيّين من الشِّعورِ به:- شعورٌ يوميٌّ/ شعورٌ إلهيٌّ، والأخيرُ، عندهُ، هو تجربةُ المعنى (وهي ذاتُ التجربةُ الصُّوفيّةُ بأنغامها الشّتّى).
أنا أجذِّرُ ما استبصرهُ كولن ويلسون، من جهةِ مشهدي الخاصِّ، في فعلِ المعرفةِ البدائيّةِ، أي في علاقةِ الإنسانِ البدائيِّ (الإِنسانِ الجَّذريِّ)، في انفعاله السِّحريِّ بالحياة (شعوراً وتجسيداً)، بالوجودِ أو الكون:- ذلكَ نَسِيجُ معرفةٍ بيِّنَ الإنمياز، وبيِّنَ الاختلافِ كذلك، عن نسيج المعرفة المتواضَع حاليّاً على أنّه “عقلانيٌّ”، “موضُوعيٌّ”، “مَنْطِقيٌّ”، “تَوَافُقِيٌّ وانسجاميٌّ”، “علميٌّ”، إلى آخرِ تِلْكَ الصفات الموسوم بها، عادةً واتِّفاقاً، وعيُنَا “المُعاصِرِ” بالإنسانِ وعالم الحقيقة الإنسانية في شمولهِ. في ذلك النسيج العريق للشعور بالعالم لا مسافةٌ أنطولوجيّةٌ أو معرفية بين الذات والعالم. فالذاتُ فيه تقفُ، إزاءَ العالمِ، وقوفَ “أنَا” في وصلٍ جذريٍّ أو عُنصُريٍّ (من “عُنصُر” العانيةَ لأحد العناصر الأربعة الكونية:- الماء، الهواء، النار، التُّراب) بالوجود الحيَّةَ هي فيه حياةً حيويّةً خصوصيّةً لا انفصامَ لها عن- بل هي، إن تَشَاءَ، في “وحدةٍ أصليّةٍ” مع– كونها (ما نسمِّيه، عموماً، خارجَها أو “عالمها” الذي تعيشُ فيه). فعلُ المعرفةِ هنا هو فعلُ وصلٍ بين ” أنا” و”أنا” ليست “أُخرى” أو مفارقة، فهي ذلك “النَّفَسُ الرُّوحيُّ” الذي هو حَاضِرٌ (هنا والآن) في الوجود-الطبيعة وفي ما “تحلُمُهُ” الأرضُ من مصائرٍ وصورِ حياةٍ وشعورٍ، بل وأفعالٍ، لنترسَّمَهَا نحنُ في حيواتنا القصيرة وفي حيواتنا “الأُخرويّة” أو الحقيقيّة (بمعنىً أنطولُوجيٍّ ودينِيٍّ معاً) الممتدة في السّرمد.
____________
هل ساهم تَقَدُّم العُلوم و الفُنون في إفْساد الأَخْلاق أَم في تَطْهيرهـا؟
د. خديجة زتيلي
كاتبة وأكاديمية جزائرية
في صيف عام 1749م انتقل جان جاك روسو من ”باريس” إلى ”فانسين” لزيارة صديقه دنيس ديدرو Denis Diderot (1713 – 1784) الذي كان يومها يقبـع في السجن، ولما غلبهُ الحَـرّ والتعب اسْتلقى على الأرض ليأخذ قسطاً من الراحـة، وفي الأثناء عمدَ إلى قـراءة بعض الكتب التي كان يحملها معه، وبينما كان يتأمّلها وقعتْ عينـاه على السؤال الذي اقترحتهُ أكاديميّة ديجون l’Académie de Dijon لجائزتها السنويّة القادمـة، وقد جاءتْ صياغته على النحو التالي: ”هل ساهم تقدّم العلوم والفنون في إفساد الأخلاق أم في تطهيرهـا؟” ‘’ Si le rétablissement des sciences et des arts a contribué à épurer les mœurs’’.
اشْترك روسو في المسابقة وفاز مقاله بجائزة الأكاديميّة في عام 1750م، وهو المقال عينه الذي سيكون، لاحقا، مضمون كتابه: مقال/خطاب في العلوم والفنون، Discours sur les sciences et les arts الذي فتح له باب الشهرة على مصراعيه وهو في أواخر الثلاثينيات من عمره. لم يَقْتَف روسو في إجابته أثر زملائه الذين ينتمي وإياهم إلى عصر التنوير، فقد كان رهانه أن يُغرّد خارج السرب غير آبهٍ بالانتقادات التي وُجّت له، وبنبرة واثقة قال مَوْقفه من الحضارة الحديثة، بلا مُواربة، واعترفَ بأنّ أنفسنا ازدادتْ فسـاداً بقدر ما تقدّمتْ علومنـا وفنوننـا نحو الكمـال، وأنّه لا يمكن الاطمئنان لواقع حال العلوم والفنون نظرا لماّ انجـرّ عنه من نتائج كارثيّة على الصعيدين الأخلاقي والاجتماعي.
لقد أدان روسو الحضارة الحديثة ومنظومـة القيّم التي أفرزتهـا، ووقفَ ضدّ التقدّم الذي كان وهمـاً كبيراً أطلقه القرن الثامن عشر في أوروبا، فالعلوم والفنون، في تقديـره، أسهمتْ في تعاسـة الإنسان وشقائه، ولا يمكن اعتبار التقدّم المادّي والتقني هما هدف البشر وحسب. إنّ الواقع المريب أفصح عن التناقض الصارخ بين حياة الإنسان وسعادته، ولتسويغ هذه الفكرة راح روسو يتأمّل في التاريخ الإنساني في الشرق والغرب، على حدّ سواء، ويستشهد بأحداثه في مراحـل زمنيّة مختلفـة كالتاريخ المصـري وتاريخ رومـا وأثينا والصيـن والقسطنطينيّة وبـلاد فارس، لكي ينتهي إلى موقفه الرافض للحضارة التقنيّة، في صيّغهـا المطروحة، وللتقدّم الذي أدّى إلى التناحـر والحروب والأنانيّـة والتملّك والاحتيـال والغش والكذب والاضطراب والفساد والانحطاط والبشاعـة والكفـر والفوضى والإبادة والموت وغيـرها من تعاسات هذا العالم. مؤكّدا أنّ الإنسان أساء استخدام الحضارة لأنّ منجزاته الماديّة العظيمة لم يرافقها تهذيب الأخلاق وتطهيرها، بل على العكس من ذلك تماما صاحبها انتشار المفاسـد والرذائل والرياء الاجتماعي وتوطين التفـاوت بين الناس والافتقار إلى الموَاطَنَـة الصالحـة والفعالة. وهو ما يبرهن عن وجـود تعارض صارخ وصريح بين الحضارة الحديثة ومُنجزاتهـا التقنيّة والعلميّة وبين الأخلاق.
يُرسِّخُ روسو في مقاله ذاك فكرة التضادّ الموجـودة بين الحضارة والفضيلة: ففي القسم الأوّل منه يقدمّ جملـة من الأدلّة التاريخيّة عن فسـاد الدوّل في حقب زمنيّة معيّنة، ويوضّح أنّ العلوم والفنون قد ساهمت بشكـل فعليّ في انحـدار الأخلاق. في حين يعرض في القسم الثاني منه غـرور العلوم و مخاطـرِهاومخاطـرِها الكبيـرة ونتائجها السلبيّة إذاَ لمْ تُعَلَّم بمـوازاة مع تعليم الفضيلـة والحكمة. واتّساقا مع هذا الطرح يَقْترح أنْ تضمّ مجالـس الملـوك والحكّـام أقدر الناس على النصحِ و تعليم الحكمة. إنّ التنوير الذي أسّس للرؤية الحديثة للعالم، في تصوّر روسو، لم يقدر على تطهير الأخلاق التي سارت نحو الانحطـاط واغتراب الانسان، وهذا المآل هو الذي جعله يحنّ إلى مرحلة الطبيعة والعودة إلى الماضي بدلا من التطلّع إلى المستقبل، وهو الشعور ذاته الذي يُفقد فكرة التقدّم مصداقيتها.
لا شكّ أنّ الناس تفاءلتْ بعصر التنوير وبـالتقدّم الذي حقّقـه العلم الحديث وخاصّة في مجـال العلم الرياضي والفيزيائي، لكنّ موقف روسو من التقدّم اتّسم بالتشـاؤم عندما تمّ الفصل بين الحضارة في جانبهـا المادّي والحضارة في جانبها الأدبي والأخلاقي، وهذا لا يعني أنّ الرجل كان خصماً لذوذًا للحضارة بوجه عام، بل للصيغة التي طُرحتْ بها في عصره وفي عصور أخرى. ففي القسم الأول من مقاله في العلوم والفنون يتّضح جليّا أنّ روسو يبدي إعجابا بالمشهـد العظيم والجميل للإنسان وهو يخـرج من العدم بفضل مجهوداتـه ليبدّد بنـور عقله الظلمات في الطبيعـة، فيتجـاوز بذلك ذاته ويندفـع بفكـره إلى السماوات ليخترق الكون ويعـود من جديد إلى ذاته ليعرف واجباتهـا وغاياتهـا. فالنهضة الحديثة، بلا منازع، مكّنتْ أوروبا من الانعتاق من التخلّف الذي كان سائدا في العصور الوسطى وساهمت في انتقال البشر إلى المرحلة المدنية والسياسية، لكنّ ما حدثَ من مزالق وما رافق النهضة من انحدار أخلاقي، هو الذي أثار اشمئزاز روسو وامتعاضه، وفي تقديره فإنّ قضيّة كهذه لا يمكن غضّ الطرف عنها.
إنّ سـؤال أكاديميّة ديجون الذي طُرح منذ أزيد من ثلاثة قرون لا يزال مواكبا لنا، ونحن في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، محتفظا بزخمه وقوّة تأثيره وحضوره على خلفيّة التطوّر السريع للعلوم والتقنيات المعاصرة التي أنتجتْ الأسلحة النوويّة والكيمياويّة والبيولوجيّة التي باتت تهدّد البشر بالحروب والموت والانقراض، ألم يساهم التطوّر التقني وفق تحليل روسو في كتابه مقال في العلوم والفنون إلى انهيار الأخلاق والقيّم الانسانيّة وجعل حياتنا مملوءة بالفوضى والعبث والموت في زمننا المعاصر؟ ألا تستحقّ آراء روسو مزيدا من التأمّل والترهين والتحليل والاتّكاء عليها لفهم عالمنا وانقاد الإنسانية من الفناء؟ إنّ أصواتا ترتفع اليوم لتخليق الحياة والعلوم والتقنيّة ووضع حدود لهيمنها وتشيئها للإنسان والعبث بقيمه النبيلة، وإلى الاحتكام إلى الضمير، وهي محقّة، ولا تنقطع تلك الأصوات في مسعاها عن التنبيه إلى أنّ مصيرنا الأرضي مشترك، وعلينا أن نتعاون في إيجاد الحلول لكوكبنا بغضّ النظر عن اختلافنا اللغوي والعرقي والمذهبي والفكري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقاء مع جوديث بتلر.. جوديث بتلر تريد منا أن نعيد تشكيل غضبنا (2 من 3)

أجرت المقابلة ماشا جيسين وتم نشرها في مجلة The New Yorker
في العدد الذي صدر في 9 فبراير 2020م
ترجمه إلى اللغة العربية هشام عمر النور
تحتل جوديث بتلر مكانة خاصة في الثقافة الغربية المعاصرة. مثل قلة قليلة من الرجال وربما لا امرأة غيرها، باتلر أكاديمية عالمية مشهورة. وهذا يعني أن العديد من الأشخاص يعرفون اسمها أكثر من الذين قرأوا أعمالها – ومعظمهم لديهم رأي حول بتلر وأفكارها. قد يجادل المرء بأن تأثير بتلر هائل لأن بعض العبارات الرئيسية لها أصبحت من العناصر الأساسية اللغوية ؛ خذ، على سبيل المثال، “الأداء الجنساني”. ومع ذلك، فقد تم تبسيط هذه الأفكار وتحويلها وهي في طريقها لأن تصبح الاتجاه السائد، وغالباً بدون أن يتم التعرف علي ذلك.
اشتهرت جوديث بتلر، البالغة من العمر ثلاثة وستين عاماً، بعملها في نظرية النوع الاجتماعي، وخاصة كتابها “مشكلة الجندر”، الذي نشر قبل ثلاثين عاماً. كتبت جوديث بتلر بكثرة حول مسائل أخرى تتعلق بالثقافة والسياسة والنفسية، مثل خطاب الكراهية (“الكلام المثير: سياسة الأداء” ، 1997)، وعدم القدرة على معرفة الذات (“إعطاء حساب عن الذات ،” 2005)، والأخلاق اليهودية وفلسطين (“طرق الفراق: اليهودية ونقد الصهيونية،” 2012). وجوديث بتلر أستاذة ماكسين إليوت للأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، حيث درست منذ عام 1993.
هذا الشهر (فبراير 2020م)، نشرت دار النشر فيرسو أحدث كتب جوديث بتلر، “قوة اللاعنف”. وهو كتاب ضئيل الحجم ضئيل ولكنه يقدم حجة قوية: بأن عصرنا، أو ربما في جميع الأزمان، تتم الدعوة إلى تصور طريقة جديدة تماماً للبشر للعيش معاً في العالم – عالم من “المساواة الراديكالية” كما تسميه جوديث بتلر. جلست جوديث بتلر لإجراء محادثة معي خلال زيارتها الأخيرة لنيويورك. تم تحرير هذه المقابلة وتكثيفها.
ماشا جيسين: دعينا نتحدث عن مقاربتك للاعنف على أنها ليست مسألة أخلاقية فردية بل فلسفة اجتماعية للعيش.
جوديث بتلر: في معظم الأوقات، عندما نسأل أسئلة أخلاقية – مثل “ماذا ستفعل؟” أو “كيف تتصرف، وكيف تبرر أفعالك إذا كانت الحالة كذا وكذا؟”، فقد تم تأطيرها على أنها أسئلة افتراضية يقدم فيها شخص ما تبريرًا لشخص آخر، بهدف تحمل المسؤولية الفردية عن فعل محتمل. تعتمد طريقة التفكير هذه على فكرة أن التدبر الفردي هو جوهر العمل الأخلاقي. بالطبع، الأمر كذلك إلى حد ما، لكننا لا نفكر بشكل نقدي في الفرد. أسعى إلى تحويل مسألة اللاعنف إلى مسألة الالتزامات الاجتماعية ولكي أقترح أيضاً أن إثارة مسألة العلاقات الاجتماعية في مسألة العنف سيعطينا بعض الأدلة حول الكيفية التي سيكون عليها الإطار الأخلاقي المختلف. بماذا ندين لمن نعيش معهم على الأرض؟ وماذا ندين للأرض أيضاً بينما نحن فيها؟ ولماذا نحن مدينون للناس أو الكائنات الحية الأخرى التي تعنينا؟ لماذا ندين لهم باحترام الحياة أو الالتزام بعلاقة غير عنيفة؟ الاعتماد المتبادل بيننا هو أساس التزاماتنا الأخلاقية تجاه بعضنا البعض. عندما نضرب بعضنا البعض، فإننا نضرب تلك الرابطة ذاتها.
سيخبرنا العديد من علماء النفس الاجتماعي أن بعض الروابط الاجتماعية تتوطد من خلال العنف، وهذه الروابط تميل إلى أن تكون روابط جماعية، بما في ذلك القومية والعنصرية. إذا كنت جزءاً من مجموعة تنخرط في أعمال عنف وتشعر أن روابط اتصالكم ببعضكم البعض يتم تقويتها من خلال هذا العنف، فإن هذا يفترض أن المجموعة التي تستهدفها قابلة للتدمير والاستغناء عنها، وأن ما أنت عليه يتحدد سلبياً فقط بما يكون عليه الآخرين. هذه أيضاً طريقة للقول بأن حياة معينة أكثر قيمة من غيرها ولكن ماذا يعني العيش في عالم تسوده المساواة الراديكالية؟ حجتي هي أنه عندئذ لا يمكننا قتل بعضنا البعض، ولا يمكننا ممارسة العنف ضد بعضنا البعض، ولا يمكننا التخلي عن حياة بعضنا البعض.
ماشا جيسين: وهنا يأتي دور نقدك الذي يتناول الدفاع عن النفس.
جوديث بتلر: لا تفهميني خطأ: لقد تدربت على الدفاع عن النفس. أنا ممتنة جداً لهذا التدريب المبكر. لكنني لطالما تساءلت عن ماهية تلك الذات التي ندافع عنها. أشار العديد من الأشخاص إلى أنه لا يُسمح إلا لأشخاص معينين، في المحاكم، بالدفاع عن النفس، وأن الآخرين نادراً ما يفعلون ذلك. نحن نعلم أن الرجال البيض يمكنهم حماية أنفسهم وممتلكاتهم وممارسة القوة في الدفاع عن النفس بسهولة أكبر بكثير مما يمكن للأشخاص ذوي البشرة السمراء والسوداء. من لديه هذا النوع من الذات التي يعترف القانون والجمهور بأنها تستحق الدفاع عن النفس؟ إذا كنت أفكر في نفسي ليس فقط على أنني شخص مقيد ولكنني مرتبط بشكل أساسي بالآخرين، فعندئذ أضع هذه الذات في تلك العلاقات. في هذه الحالة، فإن الذات التي أحاول الدفاع عنها ليست هي أنا فقط ولكن هي كل تلك العلاقات التي تحددني وتدعمني، ويمكن، بل وينبغي أن تمتد هذه العلاقات إلى ما لا نهاية للوحدات المحلية مثل الأسرة والمجتمع. إذا كانت الذات التي أحاول الدفاع عنها مرتبطة أيضاً إلى حد ما بالشخص الذي أحاول قتله، فهذا يفرض علي أن أتأكد من عدم القيام بالعنف مع هذه العلاقة، لأنها هي أيضاً أنا. يمكن للمرء أن يذهب أبعد من ذلك: أنا أيضاً أهاجم نفسي من خلال مهاجمة ذلك الشخص، لأنني أقوم بتفكيك الرابطة الاجتماعية التي تجمعنا بيننا. تبدو مشكلة اللاعنف مختلفة إذا نظرت إليها على هذا النحو.
ماشا جيسين: لقد أشرتي في عدد من المرات في الكتاب، إلى أن اللاعنف ليس مبدأً مطلقاً، أو أنك لا تجادلين بأن لا أحد يملك الحق في الدفاع عن النفس – وإنك فقط تقترحين مجموعة جديدة من المبادئ التوجيهية لهذا المبدأ. لقد وجدت نفسي محبطة قليلاً في كل مرة تقومين فيها بهذا التحذير. ألا تضعفين حجتك عندما تقولين، “أنا أجادل ضد الدفاع عن النفس، لكنني لا أقول أنه لا يحق لأحد الدفاع عن النفس”؟
جوديث بتلر: إذا كنت أحاول أن أوفر تبريراً عقلانياً للاعنف كموقف، لكي أصبح فيلسوفة أفضل مما أنا عليه – أو أرغب في أن أكون – عندها سيكون من المنطقي استبعاد كل الاستثناءات. لكننا لسنا بحاجة إلى تبرير منطقي جديد للاعنف. نحتاج في الواقع إلى طرح مسألة العنف واللاعنف في إطار مختلف، حيث لا يكون السؤال “ماذا علي أن أفعل؟” وإنما “من أنا بالنسبة للآخرين، وكيف أفهم هذه العلاقة؟”
بمجرد أن تصبح المساواة الاجتماعية هي الإطار، حينئذ لن أكون متأكدة من كوننا أفراد يحاولون التوصل إلى موقف عقلاني تماماً، متسق وكامل وشامل لجميع الظروف. قد نتعامل بعد ذلك مع العالم بطريقة تجعل العنف أقل احتمالية، مما يسمح لنا بالتفكير في كيفية العيش معاً على الرغم من غضبنا وعدوانيتنا، ورغباتنا القاتلة – كيف نعيش معاً ونلتزم بذلك، خارج حدود المجتمع أو حدود الأمة. أعتقد أن هذه طريقة في التفكير، وروح – أعتقد أنني سأستخدم تلك الكلمة، “روح”، كشيء سيكون أكثر أهمية بالنسبة لي من نظام عقلاني كامل يتم تأكيده على نحو غاضب باستمرار بالاستثناءات.
ماشا جيسين: وهل سيكون من الصواب القول إنك تطلبين منا أيضاً ألا نتبنى هذا الإطار الجديد بشكل فردي ولكن في الواقع أن نعيد التفكير مع الآخرين – على أن تبني هذا الإطار يتطلب القيام بذلك بطريقة نعتمد فيها على بعضنا البعض؟
جوديث بتلر: أعتقد ذلك. سنحتاج إلى تطوير ممارسات سياسية لاتخاذ قرارات بشأن كيفية العيش معاً بشكل أقل عنفاً. يجب أن نكون قادرين على تحديد الأنماط المؤسسية للعنف، بما في ذلك السجون وجسم الدولة، والتي غالباً ما يتم اعتبارها أمراً مفروغاً منه ولا يتم الاعتراف بها على أنها عنيفة. إنها مسألة أن نبرز بعبارات واضحة تلك المؤسسات ومجموعات السياسات التي تقوم بانتظام بهذا النوع من التمييز بين الأرواح التي لها قيمة وتلك التي ليست لها قيمة.
ماشا جيسين: أنت تتحدثين عن اللاعنف، بشكل غير متوقع، كقوة، وحتى تستخدمين كلمات مثل “مقاتل” و”عدواني”. هل يمكن أن تشرحي لنا كيف يجتمع اللاعنف مع القتال والعدوانية؟
جوديث بتلر: أعتقد أن العديد من المواقف تفترض أن اللاعنف ينطوي على استيطان منطقة الروح المسالمة، حيث من المفترض أن تتخلص من الخيال أو الرغبات أو المشاعر العنيفة. لكن ما يهمني هو زرع العدوان في أشكال من السلوك يمكن أن تكون فعالة دون أن تكون مدمرة.
ماشا جيسين: كيف تعرفين حدود ما هو عنف؟
جوديث بتلر: لا يمكن أن تكون الضربة الجسدية هي النموذج الوحيد للتفكير في ماهية العنف. أي شيء يعرض حياة الآخرين للخطر من خلال سياسة صريحة أو من خلال الإهمال – والذي قد يشمل جميع أنواع السياسات العامة أو سياسات الدولة – هو ممارسات عنف مؤسسي أو منهجي. السجون هي أكثر أشكال العنف الممنهج استمراراً والتي يتم قبولها بانتظام على أنها حقيقة ضرورية. يمكننا التفكير في حدود الدول المعاصرة ومراكز الاحتجاز كمؤسسات واضحة للعنف. تدعي هذه المؤسسات العنيفة أنها تسعى إلى جعل المجتمع أقل عنفاً، أو أن حدود الدولة تُبعد الأشخاص العنيفين. علينا أن نكون حذرين في التفكير في الكيفية التي يستخدم بها “العنف” في هذه الأنواع من التبريرات. وبمجرد أن نطابق بين المستهدفين بالعنف والعنف، يمكن للمؤسسات العنيفة أن تقول، “العنف موجود هناك، وليس هنا”، وتسبب الأذى كما تشاء.
الناس في العالم لديهم كل الأسباب ليكونوا في حالة من الغضب التام. ما نفعله مع هذا الغضب معاً مهم. يمكن صياغة الغضب – وهي شكل فني من السياسة. لا يمكن العثور على أهمية اللاعنف في أكثر لحظاتنا هدوءاً، بل نعثر عليه تحديداً عندما يكون للانتقام معنىً تاماً.
ماشا جيسين: ما هي أنواع هذه المواقف؟
جوديث بتلر: إذا كنت شخصاً قُتلت عائلته، أو إذا كنت جزءاً من مجتمع اقتُلع بعنف من منازله. في خضم الشعور بهذا الغضب، يمكن للمرء أيضاً العمل مع الآخرين لإيجاد طريقة أخرى، وأرى أن ذلك يحدث في الحركات اللاعنفية. أرى ذلك يحدث في “حياة السود مهمة”. أعتقد أن الحركة النسوية شديدة اللاعنف – نادراً ما توضع في هذه الفئة، لكن معظم أنشطتها غير عنيفة، خاصة النضال ضد العنف الجنسي. هناك مجموعات غير عنيفة في فلسطين تقاتل الاستعمار، وقد قدمت النضالات المناهضة للاستعمار العديد من أهم الحركات اللاعنفية، بما في ذلك مقاومة غاندي للاستعمار البريطاني. وتعتبر الاحتجاجات المناهضة للحرب غير عنيفة بحكم تعريفها.
ماشا جيسين: من أكثر المقاطع اللافتة للنظر في كتابك ما تسميه “الحس المعدي للإشباع الفاضح للسادية”. أنت تكتبين عن جاذبية التدمير الفاضح وغير المبالي. ما الذي كان يدور في ذهنك عندما كتبتين تلك العبارات؟
جوديث بتلر: من غير الواضح ما إذا كان ترامب يراقب نتنياهو وأردوغان، وما إذا كان أي شخص يراقب بولسونارو، وما إذا كان بولسونارو يراقب بوتين، لكنني أعتقد أن هناك بعض الآثار المعدية. يمكن للقائد أن يتحدى قوانين بلده ويختبرها ليرى مقدار السلطة التي يمكنه التمتع بها. يمكنه سجن المعارضين وممارسة العنف في المناطق المجاورة. يمكنه منع المهاجرين من بلدان أو ديانات معينة. يمكنه قتلهم في أي لحظة. كثير من الناس متحمسون لهذا النوع من ممارسة السلطة، ونوعيتها غير الخاضعة للرقابة، ويريدون في حياتهم الخاصة تحرير خطابهم وأفعالهم العدوانية دون أي ضوابط: لا خجل، لا تداعيات قانونية. لديهم هذا القائد الذي يمثل تلك الحرية. السادية دائماً تتعاظم وتتسارع.
أعتقد، كما يفعل الكثير من الناس، أن ترامب قد سمح بالعنف العلني لتفوق البيض وأطلق العنان لعنف الشرطة من خلال تعليق أي شعور بالقيود. يشعر الكثير من الناس بالإثارة لرؤية إرادة التدمير غير المقيدة مجسدة في زعيم حكومتهم، مستحضرين نوعاً من السادية الأخلاقية كمبرر فاسد لها. سيكون الأمر متروكاً لنا لمعرفة ما إذا كان بإمكان الناس أن يستثاروا لأي شيء آخر.
ماشا جيسين: هذا يعود إلى سؤالي حول أين تكمن حدود العنف. على سبيل المثال، هل يمكنك وصف أفعال خطاب ترامب بأنها أعمال عنف؟ هو لم يوقف أحداً على الحدود ولم يطلق النار على أحد في مسجد؟
جوديث بتلر: تتمتع أعمال الخطاب التنفيذي بالقدرة على إيقاف الناس، لذا فإن أفعال خطابه توقف الناس على الحدود. الأمر التنفيذي هو فعل كلام غريب ، لكنه يضع نفسه على أنه شبه ملك أو صاحب سيادة يمكنه وضع السياسة ببساطة من خلال نطق كلمات معينة.
ماشا جيسين: أو بالتغريد
جوديث بتلر: تعمل التغريدة على أنها تحريض ولكنها تعمل أيضاً كهجوم افتراضي له عواقب؛ يعطي رخصة عامة للعنف. إنه يمثل نوعاً من الاستحقاق الذي يجعله فوق القانون. أولئك الذين يدعمونه، أو حتى يحبونه، يريدون العيش معه في تلك المنطقة. إنه صاحب سيادة لا تخضع لرقابة حكم القانون الذي يمثله، ويعتقد الكثيرون أن هذا هو أكثر أنواع التحرر حرية وشجاعة. لكنه في النهاية تحرر من كل واجب اجتماعي، وتعظيم ذاتي لسيادة الفرد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى