الرأي

السودان، سحر الدهاء الأسود الذي ما بعده سحر

علي الصراف*

لكي توحي أنك ضحية محتملة وأن الذين يتشككون فيك يجب أن يمتثلوا لإرادتك قم بتدبير انقلاب عليك وأَحْبطه لكي تتباهى بنجاح “الثورة” واستمراريتها ثم احرص على ألا تعاقب الذين دبرت معهم انقلابهم عليك.

الاعتقاد السائد هو أن الرئيس السوداني المطلوب من جانب المحكمة الجنائية الدولية عمر حسن البشير موجود في السجن. إنه في الواقع يتمتع بإجازة مريحة، خلف قضبان وهمية.

تحتاج دهاء لكي تبدو سجينا وأنت هو الحاكم.

الاعتقاد السائد هو أن عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) قاما بانقلاب ضد سلطة البشير، بينما هما يحميان هذه السلطة ويعتقلان مَنْ يعاديها، ويعترضان طريق التغيير لإقامة سلطة مدنية.

تحتاج دهاء أشد لكي تقوم بانقلاب ضد سلطة وأنت تقصد بقاءها، وأن تزعم “التغيير” وأنت تقصد القضاء عليه.
وحده ذلك النوع من “السحر الأسود” هو الذي يجعل الأبصار تعمى عن الحقائق، فترى الحق باطلا والباطل حقا، وتلتبس عليك المشاهد، حتى وأنت تراها بعينين مفتوحتين.

ولئن خاض هذان الرجلان في مسرحية طويلة مما بدا أنه انحياز إلى التغيير، فوقّعا اتفاقات مع معارضين وشكلا حكومة جديدة، وأجريا تغييرات في بعض أركان مؤسسة الحكم، إلا أنهما ظلا يُمسكان بخيوط اللعبة بقوة، ويتدبران المكائد لكل مَنْ حاول إضعافها.

لم يكن عبدالفتاح البرهان وحميدتي إلا ضابطين من ضباط البشير. خاضا حروبه، وارتكبا جرائمه، وحملا أوسمتها، ودخلا حلبة حمايته من التغيير، في اللحظة التي بدا سقوطه حتميا

وفي الواقع، فالمرء يحتاج أن يكون ممثلا بارعا لكي يؤدي دور المصلح، ويقنع به حركات مسلحة وتنظيمات سياسية طويلة الباع وغزيرة الخبرة، بينما هو يحفر لها من تحتها لكي تسقط بما أغرقت نفسها به من الأوهام وحسن الظن.
وبينما كانت ترفل بنعيم الاعتقاد بأنها حققت ثورة، فقد حافظت سلطة الدهاء على قوى الثورة المضادة، ووفرت لها الأمان، بوسيلة استثنائية هي وضعُ بعض أطرافها في السجون، قبل أن تبدأ بالإفراج عنهم تباعا، وتعيدهم إلى مراكز نفوذهم السابق بالتدريج، وتحل الذين تسربلوا بالنعيم محلهم، واحدا بعد الآخر.

كل هذا وأنت تعلن “التصحيح”، ثم تصويب التصحيح، وتلقي باللوم على فشل التصحيح وتصحيحه على الذين أرادوا التغيير. ليكتشفوا بعد لأي طويل أنهم داروا في الفراغ دورة كاملة وعادوا إلى ما كانوا عليه، بل أسوأ. إذ صنعوا ثورة وخسروها، وغيروا نظاما فلم يتغير، وفرحوا بانتصار بينما كانت الهزيمة تطوق أعناقهم. ولئن ظنوا أنهم ثأروا لشهداء التغيير، فقد وجدوا أنفسهم يقدمون شهداء من جديد. دارت الدوائر عليهم هم، وانتصر الظالمون.
ولكي توحي أنك ضحية محتملة، وأن الذين يتشككون فيك يجب أن يمتثلوا لإرادتك، فقم بتدبير انقلاب عليك، وأَحْبطه، لكي تتباهى بنجاح “الثورة” واستمراريتها. ثم احرص على ألا تعاقب الذين دبرت معهم انقلابهم عليك. لأنهم صنائعك، مثلما أنك أنت نفسك صنيعة لزعيم المافيا الذي وضعته بنفسك خلف قضبان الوهم.
وكلما وجدت حاجة للتستر على شيء، أو لتبرير اعتقالات، قم بتدبير انقلاب ثان وثالث، حتى يقتنع العالم بأنك تقاوم قوى الردة، وأنك نموذج للقائد المثالي الذي ينجو من كل المحاولات الفاشلة، بينما القصة كلها أحبولة من أحابيلك، أو أنها سحر مديد.
وضحايا الخديعة لم يكونوا فقط قوى المعارضة السودانية، ولكنهم كانوا دولا أيضا، بما فيها دول عظمى تمتلك من قدرات المعرفة والتجسس والتدقيق ما لا يملكه الآخرون.

وإليك الطريقة. فإذا كان نظام البشير يحظى بالدعم من دولة س، فلكي يظهر انقلابك عليه مُقنعا، اذهب إلى دولة ص. وإذا كان النظام خاضعا لعقوبات من دولة “أكس”، ابدأ بالسعي لكسب ودها، حتى وأنت تضع عينيك على دولة “زد”، وتحاشى مغازلتها إلا من بعيد لبعيد، لكي لا يُشتبه فيك.

انخدع الجميع.
فإذا كانت قوى الحرية والتغيير خسرت مناصب في السلطة، وعاد قادتها إلى السجون، فقد خسرت الولايات المتحدة وحلفاؤها مئات الملايين من أموال الدعم، بينما أنت تتعاقد، من تحت لتحت، مع عصابة “فاغنر” الروسية لكي تسيطر على حصة ضخمة من إنتاج الذهب، وتقوم بتصديره لتعبئ به خزائن الرفيق فلاديمير بوتين. ومتى؟ في أعز أوقات الحاجة إلى بديل مرجعي لدعم الروبل.

“التيار الإسلامي العريض” يريد الذهاب إلى انتخابات “حرة ونزيهة” على غرار الانتخابات التي فاز بها البشير، ليفوز بها صنائعه، ويعيدوا إرساء سلطتهم على أساس “شرعي

غرقت الولايات المتحدة بوهم التغيير وبناء نظام ديمقراطي، فرفعت العقوبات وقدمت المساعدات وأغدقت، مع باقي حلفائها، بالسعي لإخراج السودان من حفرة الديون، بينما الممثلان البارعان يقومان بكل ما يلزم للحصول على دعم الطرف الدولي الآخر، وتغطيته. يُعطيانه الذهب، ويأخذان منه المساندة، بينما تركا الولايات المتحدة وحلفاءها يندبون حظهم العاثر.

ولا يجب أن تستغرب لو أن أحدهما قام بانقلاب على الآخر، عندما تقتضي المسرحية فصلا آخر.
الآن وقد عاد حزب المؤتمر الحاكم إلى النشاط تحت يافطة تدعى “التيار الإسلامي العريض”، فإن أحدا لم يعد يذكر منذ متى لم يكن “حزب المؤتمر” تيارا عريضا؟ إنه “عريض” منذ نشأته الأولى وظل عريضا، سوى أنه زاد عُرضا بأن نزع ضباطه وعسكريوه القناع عن وجوههم.
أخذ ذاك “العريض” إجازة لإعادة الترتيب دامت نحو ثلاث سنوات، ثم عاد قادته ومسؤولوه إلى مناصبهم من خلال “محكمة خاصة” لكي تبدو عودتهم شرعية وفي إطار القانون، ليحتلوا وظائفهم في البنك المركزي والقضاء والنيابة العامة ومكتب رئيس الوزراء ووزارة الخارجية ووسائل الإعلام الحكومية وغيرها من مؤسسات الدولة، فضلا عن البعثات الدبلوماسية في الخارج.
وحيث أن حزب البشير كان حزبا “عريضا” أيضا في النهب و”التمكين”، فقد أصبح من الضروري أن يُرفع التجميد عن الآلاف من حساباته المصرفية، لتعود العجلة تدور مثلما كانت تدور في عهد الرئيس المؤمن الشريف عمر حسن البشير، الذي لم يرتكب نظامه جريمة واحدة ضد شعبه لا في دارفور ولا في غيرها. فإذا رغبت في زيادة البركة، فقد تمت تبرئة رئيس ذلك الحزب العريض (إبراهيم غندور) من ارتكاب جرائم ضد الدولة وأُخلي سبيله، بينما يُعتقل قادة الحراك الذين ظنوا أنهم صنعوا التغيير.
ويريد “التيار الإسلامي العريض” الذهاب إلى انتخابات “حرة ونزيهة” على غرار الانتخابات التي فاز بها البشير، ليفوز بها صنائعه، ويعيدوا إرساء سلطتهم على أساس “شرعي”، بعد مسرحية طويلة كانوا هم في الأساس مُخرجيها ومُنتجيها، على خشبة مسرح أطاحت بأوهام الجميع.

لم يكن عبدالفتاح البرهان و”حميدتي” إلا ضابطين من ضباط البشير. خاضا حروبه، وارتكبا جرائمه، وحملا أوسمتها، ودخلا حلبة حمايته من التغيير، في اللحظة التي بدا سقوطه حتميا. ثم حافظا على نظامه بالقليل من تغيير الوجوه، ولكن بالكثير من التمسك بخيوط اللعبة.

تحتاج أن تكون داهية لكي تفعل كل ذلك، دون أن يبدو عليك أنك خائن، مخادع، أو ساحر شرير.
*نقلاً عن العرب اللندنية
*كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى