قضايا فكرية

برتراند راسل.. في الفلسفة والسياسة .. روحي احمد القيسي

أولاً: نصف القمر المضيء

في مقدمة (تاريخ الفلسفة الغربية) يقول”راسل”: الفلاسفة نتائج واسباب في آن معاً، وهم نتائج للظروف الاجتماعية، ولما يسود عصورهم من سياسة ونظم اجتماعية، وهم كذلك اسباب. -إن أسعفهم الحظ- لما يسود العصور التالية من عقائد تشكل السياسة والنظم الاجتماعية(ت. ف. غ./ ج2/1)،

 ونستطيع بيسر ان نجد الارتباط بين منهجه التاريخي هذا، والذي اعتمده في دراسته للفلسفة الغربية، وما سبق ان كتبه”كارل ماركس”..لايخرج الفلاسفة من الارض كما تخرج النباتات الفطرية، وانما هم ثمار عصورهم وشعوبهم، وهم العصارة الارفع شأناً والاثمن والأبعد أن ترى، والمعبرة عن نفسها بالأفكار الفلسفية، وأن الروح الذي يبني الأنظمة الفلسفية بعقول الفلاسفة، هو نفسه الروح الذي يبني السكك الحديدية بأيدي العمال، فليست الفلسفة خارج العالم..”. نجد التطابق في التصور والمنطلق الفطري لراسل مع كارل ماركس الى الحد الذي يثبت بوضوح مدى تأثير”ماركس”على راسل.

أن العلاقة المتبادلة بين العقائد والافكار الفلسفية- عند راسل- والنظم السياسية والاجتماعية، وفي تأثير هذه على الفلاسفة، في تبادل جدلي، يرتبط عند راسل أيضاً بالقاعدة الاقتصادية التي تقدم التفسير الصحيح للتاريخ، فهو يقول:

“في ما يتعلق بالتفسير الاقتصادي للتاريخ، فأنه يبدو لي انه حقيقي الى حد بعيد”(الحرية والتنظيم/234)، وكذلك قوله:

“ان العلل الاقتصادية هي أساس معظم الحركات الكبرى في التاريخ، وليست هذه مقصورة على الحركات السياسية، بل تشمل أيضاً الحركات التي تمت في ميادين اخرى، مثل الدين والفن، والاخلاق، (الحرية والتنظيم/241).

وفي الجزء الثالث من (تاريخ الفلسفة الغربية) يشير راسل-صراحة- الى تبنيه منهج البحث المادي، الذي استخدمه في مؤلفه الخطير هذا، فقد كتب: ”ان التصور المادي للتاريخ في فكر ماركس يشمل عناصر مهمة للغاية من الحقيقة، وقد اثرت على ارائي في التطور الفلسفي، كما عرضتها في هذا الكتاب (ت.ف.غ/ج/3/ 429).

ومن الملفت للنظر غياب هذه المنهجية الدقيقة التي استخدمها راسل في كتابه هذا عن فؤاد زكريا  في ترجمته لحكمة الغرب لراسل، وبين تاريخ الفلسفة الغربية وحكمة الغرب احد عشر عاماً 48-1959، إذ يقول: ان راسل يحرص في كتابة الأخير (حكمة الغرب) على وضع الافكار في سياقها التاريخي والاجتماعي، وهذا الذي يميزه عن كتابه الأول (تاريخ الفلسفة الغربية) الذي كان معنياً فيه بالتاريخ الفلسفي البحت اكثر مما كان مهتماً بتقديم السياق العيني الذي تظل فيه الافكار الفلسفية(حكمة الغرب/ج6/1).

وليس “حكمة الغرب” تلخيصاً او تكراراً لتاريخ الفلسفة الغربية، فمنهجية راسل واضحة في الكتابين، ولكن منهج التحليل المادي الذي تبناه راسل، كان أكثر وضوحاً في المجلدين الاول والثاني من الكتاب الاول، بينما يكاد يختفي في المجلد الثالث، فما قاله فؤاد زكريا يصدق على المجلد الثالث فقط.

ولسنا الان في مجال مناقشة مدى نجاح راسل في استخدام هذا المنهج بصفته مؤرخاً للفلسفة، فهذا الامر سنجري له تحليلاً في مؤلف نزمع تأليفه، يتناول بعض جوانب الفكر السياسي لراسل، ولكننا سنتناول في هذه المقالة بعض ما كتبه راسل عن معاني الفلسفة، وبعض ما اثير حوله من أراء وأفكار.

أن المعاني الفلسفية عند راسل ترتبط ارتباطاً جدلياً بالنظم السياسة والاجتماعية والاقتصادية، كما وجدت فعلاً، فيقول “أن كلمة فلسفة واحدة من الكلمات التي ليس لها معنى ثابت محدد، فهي مثل كلمة(دين)، فالفلسفة بهذا المعنى التاريخي نتجت عن المحاولة للحصول على تركيب من العلم والدين، أو ربما بصورة ادق: لتكوين عقيدة عن طبيعة الكون ومنزلة الانسان فيه، فالفلسفة تميزت عن الدين بأنها – اسمياً في الاقل لا تلجأ للسلطة والتقاليد، وتميزت عن العلم بأن جزءاً اساسياً من غرضها هو ان تعلم الناس كيف يعيشون(الفلسفة والسياسة/7) فالفلاسفة عندما يعالجون معضلة المحافظة على التماسك الاجتماعي، يبحثون عن حلول تعتمد ظاهرياً بصورة اخف على الجزم والقطع من تلك التي تقدمها الاديان الرسمية، وأن معظم الفلسفة كان بمثابة رد فعل للتشكك، وقد ظهرت في عصور لم تكن فيها السلطة قادرة على تقديم الحد الادنى الضروري اجتماعياً من العقيدة، ولذلك ابتكرت الحجج العقلية لضمان نفس النتيجة.. أن نفس الواقع ادى الى فقدان الاخلاص العميق الذي تسرب الى معظم الفلسفة قديمها وحديثها، وقد كان هناك خوف لاشعوري في معظم الاحيان من أن التفكير الواضح قد يؤدي الى الفوضى، وهذا الخوف ادى بالفلاسفة الى أن يختفوا في ضباب المغالطات والغموض (الفلسفة والسياسة/9).

لقد كان تاريخ الفلسفة عند راسل صراعاً بين وضوح الفكر وضبابية المغالطات الميتافيزيقية، ويقدم راسل امثلة قديمة وحديثة على هذا الصراع، بما يتوافق مع المنهج الذي اختطه لنفسه، فديموقراطى (القرن الخامس ق.م) مادي ذري متحمس، يقول: يجب تفضيل الفقر في ظل الديموقراطية على ما يسمى بالرفاهية في ظل حكم الطغاة، وأفلاطون يكره الديموقراطية، وأفكاره مهدت السبيل لاندحار اثينا أمام اسبارطة، وكان يقول: كل كتب ديموقرايطس  يجب ان تحرق..

ويعرض لنا راسل فكر هيغل بصفته اقوى الامثلة المعاصرة على الغموض المثالي المقصود، والموجه لخدمة النزعات البروسية العسكرية، وهنا نجد استخداماً راقياً لمنهج راسل المادي في ربط السياسة والاقتصاد بالفكر الفلسفي، فالنظم الاوتوقراطية التي يساندها هيغل يمكن تسويغها نظرياً على اساس مبدأ القطعية المثالي، الذي لا يثار عليه اعتراض، لأنه مطلق، يترتب عليه: أن الحرية الصحيحة تقوم على طاعة سلطة تعسفية، وأن حرية الكلام شر، وأن الملكية المطلقة خير، وأن الحرب خير(الفلسفة والسياسة /19-20).

ومثل هذه الافكار خدمت شيخ الرجعية في أوروبا (مترنيخ)، الذي كان مبدؤه بسيطاً: أن السلطات القائمة، من صنع الله، ومن ثم يجب تأييدها، والا اذا كان الفرد كافراً، ولما كان مترنيخ على رأس هذا السلطان فأن الامر- في نظره- بدا واضحاً لا يحتاج الى ثبات، ولعله ما كان ليرى ذلك لو ان الوضع بالنسبة له كان مختلفاً(الحرية والتنظيم/11).

تلك هي بعض معاني الفلسفة عند راسل وعلاقتها بالاقتصاد والسياسة، ونفهم بوضوح ان الفلسفة عنده ليست بنى مستقلة عن العالم، بل هي ملتصقة بمتغيرات الحياة اليومية، ثم ان الفلسفة نوع من المغامرة الاستكشافية، وليس فيها من حيث المبدأ، عقائد راسخة او طقوس او كيانات مقدسة من اي نوع، على الرغم من انه يحدث، بطبيعة الحال، أن يصبح افراد من الفلاسفة عقائديين جامدين والواقع ان ثمة موقفين يمكن اتخاذها ازاء المجهول: احدهما قبول اقوال الناس الذين يقولون انهم يعرفون، من كتب معينة، اسراراً أو مصادر اخرى للوحي، والاخر هو ان يخرج المرء ويرى الامور بنفسه، وهذا هو طريق العلم والفلسفة، وهناك سمة اخرى للفلسفة عند راسل هي استحالة تعريفها كما يعرف احد العلوم، لأن اي تعريف لها يثير الجدل، والاخلاف، وينطوي على موقف معين من الفلسفة (حكمة الغرب /ج19/1).

وقد أجرى عبد الامير الأعسم مناقشة نقدية لراسل، حيث يقول: “فهذا الفيلسوف برتراند راسل بعد كل جهده الفلسفي المعروف، بالاستناد الى كل تحليلاته لتاريخ الفلسفة الغربية، اعتقاداً منه بأنه وصل الى المراد في الفلسفة، يقول في مقدمة كتابه (تاريخ الفلسفة الغربية) أن الفلسفة منطقة وسط بين العلم والدين، لا تخضع لنفوذ اي منها، وهي في الواقع معرضة لهجماتهما معاً، وهذه المنطقة الوسطى هي مجال النظر الفلسفي وحدوده.. ثم يتساءل الاعسم: فماذا نستخلص من اقوال راسل أكبر فلاسفة القرن العشرين؟، ان الفلسفة تتسع وتضيق حسب اتجاهات الفلاسفة واتجاهات المذاهب، ويخضع هذا الاتساع والضيق للاجتهادات التي املتها ظروف كل فيلسوف، والفلسفة تتشابك مع الدين في اتجاه اليمين كما تتشابك مع العلم في اتجاه اليسار.. ثم يستخلص الاعسم نتيجة غريبة، اذ يقول: لكن لا الفيلسوف راسل، ولا غيره من فلاسفة القرن العشرين استطاع ان يضع المعنى الحقيقي للفلسفة، لأنه كان منحازاً للعلم (عبد الامير الاعسم، اين نحن من الفلسفة في القرن العشرين/مجلة دراسات فلسفية/ بيت الحكمة/بغداد/2000-4).

ونحن نتساءل: هل يعد الاعسم الانحياز تحزباً يعيق الرؤية لمعاني الفلسفة؟ ثم ان مناقشة راسل هذه لم تكن تدور حول معاني الفلسفة، بل لتحديد موقع الفلسفة ومجالها، فضلاً عن نتيجة الاعسم الغريبة (لكن، لا الفيلسوف راسل، ولا غيره…) ونحن نتجاوز عبارة(ولا غيره) التي لا محل لها من نقده هذا، فنسأله: لماذا لم يتفضل فيخبرنا بالمعنى الحقيقي للفلسفة، وذلك الذي عجز راسل وعجز غيره عن الوصول اليه؟

ثانياً: نصف القمر المخفي

أن الاتجاهات والافكار الماركسية التي تأثر بها برتراند راسل تتعدى اتباعه لمنهج البحث المادي التاريخي، الى ميادين اخرى، نجدها مبثوثة في عدد من مؤلفاته ومقالاته وخطبه الاذاعية، والتي تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، عن قبوله المتحفظ لمسلمات هذه الفلسفة، بل وحماسه احياناً بهذا التسليم، وهجومه العنيف على الرأسمالية الغربية، ودعاباته أحياناً، المشوبة بالسخرية من معاداة الشيوعية، كأن يقول: أن التوفيق بين الدين والعلم الذي يرحب به رجال الكنيسة، لا يمكن ان يصاغ في صورة قياسية: العلم يعتمد على الاوقاف، والاوقاف تهددها البلشفية، اذن فالعلم تهدده، البلشفية، او لما كان الدين ايضاً تهدده البلشفية، اذن الدين والعلم حليفان..(النظرة العلمية/86).

ومما يلفت النظر ان الاساتذة العرب اغفلوا هذه الجوانب – عن قصد أو بدون قصد – مما اعطى القارئ العربي المثقف صورة مشوهة عن توجهات هذا المفكر العظيم، حيث جرى تصويره لنا بأنه معادٍ للماركسية، عنيف الخصومة لها، فقد كتب زكي نجيب محمود عن راسل:

“ما موقفه ازاء المذهب الماركسي؟ فإذا اردت جواباً يلخص لك موقف راسل من مذهب ماركس – وبالتالي يوضح فلسفته السياسية- فعليك بمبدئه الاساس، وهو الدفاع عن حرية الفرد ضد اي عدوان مهما يكن مصدره، ومهما تكن غايته، واذا كان ذلك كذلك، فهو مناهض للماركسية بكل قوته لأنها تنتهي الى الاعتداء على حريات الافراد وطمسهم في لجة المجموع(ز.ن محمود/ برتراند راسل/ 127).

ونحن لا نفترض سوء النية عند محمود، ولكنه اتبع في رايه هذا – قياساً مضمراً  أخّرَ فيه القضية الصغرى ليتولى شرحها بعد النتيجة، هكذا:

أن راسل يعادي اي جهة تقف ضد حرية الفرد، اذاً راسل يعادي الماركسية ويناهضها بكل قوته. وبعد ذلك يشرح محمود مغزاه في مناقشة تتعارض مع نصوص راسل العديدة التي تدعم الماركسية.. صحيح ان راسل يعلي من شأن الفرد وحقه بالحرية، وينتقد الماركسية لأغفالها هذا الجانب، ولكنه لا يعاديها ولا يناهضها بكل قوته، كما يدعي محمود، والنصوص الاتية مما كتبه راسل تسقط الدعوى الزائفة لمحمود.

1-     في كتاب (الحرية والتنظيم) الصادر عام 1930، كتب راسل وصفاً للبيان الشيوعي: “هو عمل من الاعمال الخارقة في حيويتها وقوتها، يعرض في اختصار أنيق العبارة، القوى الهائلة في العالم ومعركتها الاسطورية والنهاية المحتومة، انه مؤلف ذو اهمية قصوى في تطور الاشتراكية، كما انه يعرض عرضاً يدعو الى الاعجاب، المبادئ التي ذكرت في اسهاب أكثر في (رأس المال) مما ينبغي معه، على كل من يريد أن يفهم السيطرة التي اكتسبتها الاشتراكية الماركسية على عقول وأخيلة نسبة كبيرة من زعماء الطبقة العمالية، ان يلم بعباراته الأخاذة (الحرية والتنظيم/32).

2-     ان الحروب ستكون اقل وقوعاً واقل تدميراً اذا الغيت الملكية الخاصة للأرض ورأس المال، وهي خطوة ضرورية نحو عالم تعيش فيه الشعوب بسلام مع بعضها البعض (الحرية والتنظيم /157).

3-     أن الشيوعية تقدم حلاً للمعضلة الصعبة، وتساوي بين الجنسين، أنها تمنح الاطفال التربية التي تستبعد فيها فكرة التنافس المعادية للمجتمع وتخلق نظاماً اقتصادياً يكون نقيضاً عملياً ووحيداً لنظام الاسياد والعبيد، وهي تزيل الفصل بين المدرسة والحياة، وهي تمنح الشباب املاً ليس خيالياً، فإذا استطاعت الانتصار – وهذا ممكن- فأنها سوف تحل أغلب الشرور الرئيسة في وقتنا الحاضر، وعلى هذه الاسس- رغم التحفظ- فأنها تستحق المساندة.(الحرية والتنظيم/189).

4-     ان المثقفين في كل بلد – عدا روسيا- يميلون ليكونوا شرعاً، جبناء، سواء من قبل دخلهم او من انتهازيتهم ليكونوا مساندين للأغنياء (التربية والنظام الاجتماعي/20).

5-     لا يوجد قطر في العالم كله ولا عصر من عصور تاريخ العالم كانت فيه الاخلاقيات نابعة من الجوانب العقلانية، الا في روسيا السوفياتية، أعنى انها لم تنبع من الخرافات والتقاليد، ولكننا لم تبلغ حد الكمال (الزواج والاخلاق/5).

..  لعل ما أوردناه من نصوص راسل هذه يكون كافياً للرد على دعوى زكي نجيب محمود المتضمنة ان راسل يعارض الماركسية بكل قوته، ويقدم لنا صورة مختلفة عن برتراند راسل.. صورة مفكر عظيم، استطاع أن يسلط اضواء باهرة على الفلسفة وعلى التاريخ والسياسة، مما جعله بحق أعظم الفلاسفة في القرن العشرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى