صفحات متخصصةقضايا فكرية

حوار: إبراهيم جعفر مع يحيى الحسن الطَّاهر (2 من 2)

إبراهيم جعفر

كاتب وأكاديمي سوداني، ببريطانيا

كتب يحيى الحسن الطاهر:

1

إنَّ هاجسَ الخلق الذاتي هو- عندي- المُحرض الأصيل للشّعر فكأنّما نودُّ- عبر المشروع اللغوي والذي هو جسد القصيدة- أن نُنشيءَ عالماً من الصور التي يحتبلُ بها خيالُنا الباسل لما يتماوجُ في وجداننا من طيفِ الواقعِ الذي نحس!  إنّه- أي الشّعر- ثورةٌ بأجلى معانيها: ثورةٌ على السّكُونيّةِ الواهيةِ والمُضلّلةِ إيَّانَا بأنَّ الأشياءَ على مسافةٍ ما منّا، بينما هي تُحدّقُ إلينا بصمتٍ مُجَوَّفٍ كقاعِ بئرٍ مُظلمةٍ ساخرةٍ من لهفتنا السّاذجة بامتلاك انفعالنا بها وسجننا إيّاهُ في جسدٍ إبداعيٍّ يتّخذُ من اللّغةِ الجّريئةِ مادَّةً له.  إنَّ الشّعرَ يودُّ أن يمتلكَ العالمَ يا صاح!

إنَّ الفعلَ العينيَّ المُباشر: محاولة امتلاك الجميل، المُدهش، والذي فيما يبدو من أشَدِّ صور “التلبية للنداء” بريقاً، إنَّ هذا الفعل لا يعدو أن يكونَ عندَ شاعرٍ “كماريا رينيه ريلكه” سوى عبثٍ فارغٍ، ولا يُحيلُ إلا الإيمانِ بما مفادُهُ: “أنَّ الاستجابة الرمزيّة السّرّيّة للجّمال هي كلّ ما يبقى في نهايةِ التّحليل” ولأسحبُكَ معي إلى هذه الأبياتِ الجّميلةِ التي يصفُ فيها ريلكه انفعاله بشلالِ ماء:

كدتُ ألمسهُ كطفلٍ

إلا أنّني أدركتُ:

إنّي سألمسُ حجارةً باردةً وماء!

ولعنتُ السّماءَ لأنَّهَا سنّت من بينَ

قوانينها ما يقول:

(ليس هنالكَ شيئاً نُحبُّهُ أكثَرَ

بكثيرٍ، ذو قيمةٍ بالنّسبةِ للمستِنَا)

إنَّ هذه الأبيات تُوحي- فيما تُوحيهِ من فيُوضات وجدانيَّة- بأنَّ الظّمأ للجّميل هو الظّمأ الذي لا ارتواءَ منه أبداً ما كانَ الوجدانُ مُعافىً، ولا “رانٍ” ثقيلٌ من قِشريَّاتِ الحياةِ اليوميّةِ- حياة القطيع!- يُشكّلُ جداراً بيننا وبينَ العناق- في حالة صوفية حالمة- مع الجميل، حسناً، ماذا يكونُ من شأن:

أنّى لكَ العلم

بأنَّ كُلّ طائرٍ يجتازُ طريقَهُ الهوائيَّ

هو عالمٌ مليءٌ بالنَّشوةِ

وأنتَ مُغلقٌ على حوَاسِّك الخمس؟!

اسْمَعْ!..

أنَّى لكَ العِلْم، هي جُملةٌ شعريّةٌ حُبلى بتناقُضاتٍ رائعة، فهي مُغريَةٌ بالتّساؤلِ عن صدقيَّةِ ما نَخلعُهُ من معانٍ على ظواهرِ الأمور، كما أنّها تختزنُ في داخلها تقريعاً لطيفاً للذاتِ ومعرفتها المشروطة بقوى إدراكها، “بحواسّها الخمس”، وفيها، كذلكَ، اعترافاً بقُدرةِ الطّبيعةِ على أن تُخاطبَ وجداننا مُباشرةً وبشفافيّةٍ كريستاليّةٍ رائعة، وتُومِئُ، بجُرأةٍ، إلى افتضاحنا العاجز عن شخصنةِ وتجسيدِ انفعالنا بها وعجز ذكرِ رُوحنا- الشّعر- عن فَضِّ بكارةِ غموضِها-، إنَّ ما يَستَنْبِتُهُ فينا اصطفاقُ جناحي الطائرٍ الذي يعبُرُ طريقَهُ الهوائيَّ لا يُثْمِرُ إلا شكوانا من عَقمِ لغتنا في أن تُنجزَ بُرهةَ ولادةٍ طِلِقَةٍ لإخصابه جُوانا بذلكَ الانفعال المُدهشِ المُتملِّصِ المُصمَّتِ على ذاتِك، والذي عبثاً نحاولُ اسْتِنْطَاقَهُ، فكأنَّ في دواخلنا عنقاءُ يُلهّبُهَا الطَّائرُ ونحاولُ نحنُ ابتعاثَها من جديد.

ما الأمرُ يا صديقي؟!

إنَّ الإنسانَ معزُولٌ- لحدٍّ مُخيفٍ- طالما احتاجَ إلى وسيلةٍ للتعبيرِ عن ذاته!  يحضرني الآنَ رُعبُ إنسانِ سارتر: ذلك المقذوف به في الكونِ وحده ليواجه مصيره الخاص الذي هو: وجوده وعدمه في ذات الوقت، إنَّ عشقَ الامتلاك هو ثدي “ليليث” الذي أرضعَ الشِّعر، أفينبغي علينا أن نهجرَ الشّعرَ وأن يكونَ إنشاؤُنَا السِّرِيُّ قصيدةَ صمتٍ تُسطّرُها الطَّبيعةُ على وجداننا بلغةٍ هي ارتعاشُنا إزاءَ حضورِها السّحري؟!.

يوماً ما فاضت بي ذاتُ النّزعةِ البليكيّة القلقة فكتبتُ عمّن أحبُّ- زوجتي الآن:

“كم هُو مُشعٌّ فضاءُ ما تحتضنُهُ “الاستحالةُ” من رغائبنا المنهزمة بسطوةِ “اللا تحقُّق” وانقهارها إزاءَ عدم الإمكان في أن تُلبَّى”؟ !

2

صدّقني، حين يكونُ الوجدانُ في فجره وغضارته لا يكونُ سوى الصّمتُ مقاماً!..  فلنجعلُ الطّبيعةَ (“جُلبابُ اللّهِ الحي”) تُنشِدُ مزاميرَهَا فينا لنُنصتُ لها كي تُلقّنَنَا، وليكن إنشاؤُنا السّرّيُّ وما نرتعشُ به من نوتاتِ وجدِ مزاميرِها هو كلّ ما نغنم!  لنتنفّس رئة الطبيعة ولا نزفر!  فواهياً سيأتي زفيرُنَا إزاءَ ما نشهق، عندها ستُباركُنا الطّبيعةُ وتصطفينا أنبياءَ عشقٍ، قد تُصَنِّفُنِي هذه الكتابة بأنّي أباركُ الاندشحارَ واُمجِّدُ الهزيمة، قد يكونُ ما كتبتُ ثقيلَ الوقعِ على المُتحمِّسينَ الذينَ يتغنُّونَ بعشقِ “الفِعْلِ” بحساسيّةِ الاستجابة الفاعلة المُلبّية للنداءِ الخفيِّ الذي تُمارسُهُ الطّبيعةُ في صمتٍ آسرٍ بليغ، قد يرى هؤلاء فيَّ “بُوذِيَّاً” آخرَ، ولكنّي أحتَجُّ بِنَفَسٍ واهٍ، ولا مُنفعلٍ إلا قليلاَ، بما كتبتُ ذاتَ صمتٍ:

“إنَّ الصَّمتَ نبيُّ الشِّعُور”.

3

كثيراَ ما أشهدُ نفسي هاذياً بهذا المعنى: “عندَ الجوهريِّ من الأُمُورِ لا يَجمَلُ بنا سوى الصّمت!”  وأشعرُ الآنَ بنصِّ من تَظُنُّهُ سويدنبورغ هذا يُحامِمُ ما أهذي به ويتفتّتُ في داخلي بهذه الخاطرات:

حَسَنَاً..  ما هو الدين الذي يعنيه؟!  فإذا كان الدين، حسب مفهومي الخاص جداً: “سيرورة داخليَّة منفتحة على العالم” فقد يُشكّلُ الحماسُ لما يعتقده الفرد عنصراً “طميويَّاً” يُخصّبُ حساسيّةَ التبليغِ “للآخر” على أنّ ما يُبَنْيِنُ ويُموضِعُ هذه الحساسيّة هو النزوع السّلطوي للسيطرة الرّوحيّة وقسر التّطوّر العفوي لداخليانيَّةِ “الآخر” كي يتَّخِذُ نسقاً مغايراً لروحِ تجربته الفردية وخصوصيّة إنميازها، ذلك النِّزوع الذي يتميّز به التلقينيُّون، لذا فلنَصِّ سويدنبورغ الذي ذكرت خطره لأنّهُ يُمثِّلُ رصيداً غاياً للإحتجاجِ الإنفعاليِّ، والعقليِّ، على سلطويّة “التّلقينيّين” لأنّه يستبطنُ إحتجاجاً عقليّاً يتمحورُ حول إمكَانيَّةِ إحالةِ نسيجِ الوعيِ المُنبني على الإنفتاحِ على تجاربِ الآخرين الروحيّة، إحالة ذلك النّسيج إلى رصيدٍ جُوَّانِيٍّ ذاتيٍّ بمعنى: إمكانيّة تقمّص روح التجربة الدينيّة، واكتساب “أنا” مُفاصِلة ومُفارِقَةTranscendental للـ”أنا” الذاتيّة الأصيلة عبر مشروع الحوار عن الدّين، فإذا تمَّ إنجاز هذه البُرهة، هذه الانعطافة الرّوحيّة بالحوار، فسيكون حينُها من البُدَهِيِّ الإقتناع بجدويّةِ التّبليغِ ومن ثَمَّ يكونُ نَصُّ “من تظُنُّهُ سويدنبورغ” احتجاجاً انفعاليّاً يعنيهِ وحده.

4

إنَّ فلسفة العبث الكامَوِيَّة- نسبةً إلى “ألبير كامو”- تتمفصل حول مقولة “العيش بلا نداء” ولعل في هذا إيماضاً بديهيَّاً إلى أنَّ الحُبَّ، الذي هو بالأصلِ “نداءٌ ميتافيزيقيٌّ”، ليس من شأنِ كامو الحديثُ عنه، ولأنَّ الحُبَّ ليس اختياراً قصديّاً واعياً لذا فمن يُملَّكُ (أو يَمْلُكُ) تصوّراً مُسبقاً لوضعيّته وهو في حوزةِ العِشْقِ لا يكون، عندي، قد امتحنَ في ذاتهِ ذلكَ الحنين المُبهم لتهميش الذات ومركزة المحبوب، ذلكَ الحنين الذي هو من اكثرِ آليّاتِ الحبِّ أصالةً (إنه حُبٌّ يجلبُ معه كلّ وجوهِ العالم، ورعشته ناجمة عن إدراكه أنّ حبٌّ فانٍ!”  إنَّ حُبَّ “دون جوان” هو حبٌّ بلا ذاكرة إذن..  لذا فهو حُبٌّ عبثي، إنَّ “دون جوان” هو النّموذج الأرقى لفلسفةِ كامو والتي هي نتاجٌ موضوعيٌّ لحضارةٍ مسمُومةٍ بالخواءِ الرُّوحيِّ واللا هدفيَّة…  ولا أُزيد!!!.

 

—–

مارتن هايدغر (1 من 6)

الفيلسوفُ الحائرُ في كينونته الرمادية

د. محمود حيدر

مفكر وأستاذ في الفلسفة والإلهيات من لبنان

ليس يكفي لنتعرَّف إلى هايدغر أن ندخل عالمه من باب واحد. أو أن نسائله كما لو كان هو، هو، من مبتدئه إل

ى خبره. إنه من بين ندرة مضوا في سَيْريّة تفكُّر، ما كان لها مستقر. وهو ممن قل نظيرهم لمَّا نَقَد مكتوبه الفلسفي من دون أن يردَّه عن “نقد الذات” خوفٌ على الأنا وكبريائها.

لكي يُقرأ نصُّه وَجَبَ التهيؤ لرحلة مشرعة على طبقات شتّى من الفهم. لكن هذا لن يفضي بك إلى الإعراض، بل إلى ما يدعوك لمجاراته بخفرٍ وصمتٍ وانتباه. فلو أخذك سهوٌ عما قَصَدَ من وراء عبارةٍ أو نعتٍ، فلربما أشكل عليك ما كنت تحسَبُه من بديهيات الكلام. وحالئذٍ ما لَكَ إلا أن تتحرَّى عالمه الشخصي من قبل أن تتأوَّل كلماته.. كما لو صرتَ بإزائه تلقاء كتاب موصود.

يطيب لهايدغر الوقوف على الحافَّة. يراقب ما يتوارى بين الثنايا والتخ

وم، أو ما يتخفَّى تحت أقنعة اللغة. يتعامل مع المفاهيم ومرجعياتها كمشرفٍ على عالمٍ أدنى. أو كعاهلٍ يستبد بالكلمات حتى لا تستبد به الكلمات. متحررٌ مما سبق، ومما يعايش الآن، وما سيلي من وقائع. لكي تنعتق من أسره وجاذبيته ليس لك إلا أن تتاخمه برفق. ثم ان تعقد معه ميثاقاً ينتظمُه ديالكتيك الوصل والفصل. تَودُّ لو تقربُهُ وتكون في الآن عينه، لا مُريداً له ولا خصماً. فيلسوف ينطوي على سرّ متعدد الكمائن مثل هايدغر لا مناص مع رفقته من تقوى المتدبِّر. أنت وهو حالئذٍ نظيران يتناظران من بُعد. فلئن لم تفعل بما تُمليه عليك حكمة التناظر، سكَنْتَ عالمه الحائر، فتشابهت عليك المقاصد، فلا تستطيع معه صبراً على فهم.

وإذاً.. سوف يكون على المتعرّف، أن يُبرم مع هايدغر وإنشاءاته ضرباً من تعادل لا محل فيه للغلبة. وليس ذلك إلا لينأى مسافة ما من سطوة المفهوم، وغواية المصطلح، وضباب الفكرة. لعل في التناظر معه ما ينشئ للقارئ منفسحاً من تَرَوِّ يعينُه على احتواء ما هو شاقٌّ وغامضٌ من قوله الثقيل.

ما كنا لنستهل تقديمنا لهايدغر بما مرّ، إلا باعتبار ما «اقترفه من شَغَبٍ» في تاريخ الميتافيزيقا الغربية. فالمحصول الذي زوَّدنا به كان أدنى إلى «جيولوجيا فلسفية» لم تُخرج كل نباتها بعد..

* * * * *

استعاد هايدغر ما سبق وما لَحِق من أسئلة الميتافيزيقا، ثم استودعها «حاضرته» الفائضة بالإبهام. فليس من غرابةٍ إذاً، أن نرى إلى مختبر أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكبرى التي أنجزتها الفلسفة، على تعاقب أطوارها، وتنوع مدارسها وتياراتها.

شُغلُه باستعادة الأسئلة الماضية الحاضرة، لم يكن لأجل تفكيكها أو انتقادها تمهيداً للتبرُّؤ منها، وإنما لتكون له ممراً إجبارياً لمجاوزتها، وإعادة تظهيرها وفقَ ما يختزنه مشروعه من إنشاء فلسفي متجدد. أفصح هايدغر عن ذلك لمَّا أشار إلى صعوبة الكتابة من خارج أفق الميتافيزيقا. وحجَّتُه أن الاعتناء بالسؤال المتعلق بحقيقة الوجود يستحيل ان يُنجز بمعزلٍ عن عالم الواقع الذي يشكل أفق الدلالة الشاملة للذّات الحيّة، والذي في مجاله تتحقَّق الخبرة الإنسانية.

لم يقطع هايدغر مع الميتافيزيقا الكلاسيكية التي اكتفت بالاعتناء بالموجود، بل دعا إلى اجتيازها من خلال العودة إلى السؤال الأصيل عن وجودٍ لفَّهُ النسيانُ. لأجل ذلك راحت منظومته تنمو وتتكامل على امتداد انعطافات أربعة:

الأول: حين توقف مليّاً عند معنى واجب الوجود. كان ذلك بالنسبة إليه لغزاً، ولكنه لغزٌ سيمهِّدُ له الطريق للإنتساب إلى عالم التفلسف. جرى ذلك عام 1907 وقتَ قرأ كتاب فرانز برينتاتو في «باب المعاني المتعددة للوجود بحسب أرسطو». الكتاب الذي ابتنى عليه ـ كما قال ـ مساره وأسلوب تفكيره.

الثاني: لمَّا سعى إلى تجاوز وهن الميتافيزيقا وفقرها الوجودي. كانت دعوته حالذاك متّجهةٌ إلى   نقل الهمّ الميتافيزيقي من حيِّز الاعتناء بالماهيّات نحو فضاءِ العنايةِ بالوجودِ وأصالتهِ.

الثالث: لمَّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إلى قلق طاول قاع النفس والفكر، وبسببه طفق يبحث عن مَلَكَاتٍ أخرى غير مرئية في الروح الإنسانية لتكون البديل من العقلانية المتشيّئة لميتافيزيقا الحداثة.

الرابع: حَيْرتُه في الإشراقات التي وجد أن الكينونة تَهَبُها للإنسان لكي يهتدي بها إلى صواب الضمير. حَيْرة تبدَّت فيها الإشراقات على وجهين متعاكسين: بين أن تتأتّى حصيلة اشتغالات الفكر المحض في انجذاباته القصوى، وبين أن تكون حاصل اختبار باطني عميق من شأنه أن يأخذ بناصيته إلى اليقين.

تلقاء الإنعطافات المتداخلة هذه، ظل هايدغر مشغولاً بالماقبل والمابعد في عين اللحظة. انشغل باللحظة الفيزيائية وتمظهراتها، قدر إنشغاله بسؤال الوجود وغيبته.

سوف ينطلق هايدغر ليتواجه مع السؤال الأكثر بداهة وحضوراً وبساطة والأعمق غوراً في الآن عينه: «لماذا كان وجود الموجودات بدلاً من العدم؟»..  إنه سؤال الأسئلة كلها كما سمَّاه. أما حاضريتهُ ودلالاتُه فتعود إلى مكانته التأسيسية، وإلى تجاوزه العميق لمعظم الأسئلة الأخرى، وكذلك إلى كونه سؤالاً جائزاً وبديهياً وضرورياً لاستئناف التنظير الفلسفي.

يدعو هايدغر إلى التهيؤ لتحصيل النشاط العقلي الكافي من أجل تحويل السؤال كله إلى نقطة الارتكاز التي ابتدأ بها، وهي «اللماذا». تلك الكلمة الدهرية المسكونة بظمأٍ آدميٍّ لا تُعرف له نهاية آمنة. راهن “فيلسوف الحضرة” على تلك المفردة لتؤدي مهمّة لا يقدر عليها أحدٌ سواها. إذ من خلال أداء هذه المهمة يتم اكتشاف كيف أن هذا السؤال المميز يمتلك أساسه في ما يُسمّى”النقلة المفاجئة”. وهي حين يتوغل المرء بعيداً في تفاصيل الأحكام المسبقة لحياته سواء كانت حقيقية أم متخيَّلة.

يعترف هايدغر أنه ما زال يقف متحيِّراً في وجه الموجود الذي يضمّه السؤال. فالانتقال المفاجئ سببه ذاك التحيُّر نفسه الذي يجعل السؤال موصولاً بجذره العميق وغير المرئي. كما لو أنه يريد أن يوضّح أن الحَيْرة الموصولة بالسؤال هي حَيرةٌ أصيلة ٌمستمدةٌ من أزليِّتها وأبديِّتها في آنٍ. ولذا سينبري إلى اعتبار تلك «الفجأة» نوعاً من الاستهداء إلى باب الأصل.

على المرء دائماً أن يراقب ظهره كامرأة في الشرق الأوسط

الكوسموبوليتانية من الناحية الفلسفية موقف يعني الالتزام بالكرامة الأخلاقية لكل إنسان، من الناحية القانونية هي الحق في التمتع بالحقوق على أساس إنساني، من الناحية الثقافية تعني أن الثقافة دائماً تتشكل من خلال التفاعل

لدي اعتراضاتي الفلسفية والسياسية على القومية وما أحدثته من بؤس وتاريخي يهيئني لقبول التعددية وقبول أن الآخر هو جزء من هوية المرء

أفضل عبارة “كوسموبوليتانية بلا أوهام” في هذه الأيام لأن عصرنا بالكاد هو فترة مرحبة بآمال ومعتقدات الكوسموبوليتانية

القومية الاستبدادية والأوتوقراطية في عصرنا طلقة البداية لمنافسة ضخمة بين الدول الرأسمالية

العداء الهائل للمهاجرين واللاجئين يرمز إلى ضعف الحدود المتخيلة للأمة

الكوسموبوليتانية تقاوم شيطنة الآخر واختزالها/اختزاله إلى العدو بالتأكيد على أن الآخر داخل كل واحد منا

——

 

الشرق الأوسط الكوسموبوليتاني؟ (3 من 3)

لقاء مع سيلا بنحبيب

أجرت اللقاء ليندا هيريرا ونشر بالإنجليزية في كتاب “الشرق الأوسط المعولم إلى القرن الواحد والعشرين” Global Middle East into The Twenty First Century في العام الحالي 2021م، في الفصل الأخير.

ترجمه إلى العربية هشام عمر النور

بالنسبة لي، تتضمن الكوسموبوليتانية الاعتراف بأن البشر هم أشخاص أخلاقيون يحق لهم الحصول على الحماية القانونية على قدم المساواة بموجب الحقوق التي اكتسبوها ليس كمواطنين أو أعضاء في مجموعة عرقية، ولكن بصفتهم بشرًا. سيلا بنحبيب

سيلا بنحبيب، فيلسوفة رائدة في الكوسموبوليتانية وحقوق الآخرين، تشترك في النسب الفكري والفلسفي مع إيمانويل كانط، وحنا أرندت، ويورغن هابرماس. هذه الشخصيات البارزة لديها أفكار متقدمة حول المواطنة (الكوسموبوليتانية) والديمقراطية الكوسموبوليتانية والتعاون الدولي وحقوق الإنسان.

ليندا هيريرا: كيف استقبلت عائلتك زواجك الأول من مواطن ألماني؟

سيلا بنحبيب: كان زوجي الأول ألمانيًا وله أصول يهودية مكبوتة من جهة والده. في ذلك الوقت كنت قد تخرجت في جامعة ييل عام 1977. درست هناك لمدة عامين وفي عام 1979 غادرت إلى ألمانيا للدراسة مع يورغن هابرماس. كنت بعيدًة عن عائلتي. توفي والدي عام 1984 وتزوجت من زوجي الأول عام 1986، رغم أننا كنا معًا قبل ذلك. أعتقد أن الناس ربما هزوا رؤوسهم، لكن مسيرتي الأكاديمية اتخذت منعطفاً غير عادي و”ناجح” في المصطلحات التقليدية لدرجة أنهم لم يعرفوا ماذا يفعلون بي. قبلت والدتي قراري.

ليندا هيريرا: بعد هجرة عائلتك إلى إسرائيل، هل عدت إلى تركيا؟

سيلا بنحبيب: نعم، لقد عدت إلى تركيا عدة مرات. لا يزال لدي أصدقاء مقربون كنت أعمل معهم. المرة الأولى التي عدت فيها كانت في زيارة عام 1972. أدركت أن شيئًا ما كان مختلفًا تمامًا. كيف يمكنني أن أصفه – ليس الأمر أنني لم أشعر بالأمان، أعني أنه يجب على المرء دائمًا أن يراقب ظهره كامرأة في بلد في الشرق الأوسط. لكن شيئًا آخر كان يحدث. في ذلك الوقت كانت بداية الذئاب الرمادية [بوزكورتلار]، الحزب التركي القومي المتطرف المتشدد. هم معروفون جداً في ألمانيا. بدأت شوارع اسطنبول تشعر بالتهديد أكثر فأكثر. وعندما جاء الانقلاب العسكري عام 1972 ضد عودة ظهور اليسار وحركات النضال المسلح، تم اعتقال واحتجاز واستجواب عدد محدود من أصدقائي. كنت جزءًا من الحركة الطلابية ومؤيدًة لليسار العام المعارض في ذلك الوقت. لكن الحملة كانت شديدة للغاية. تم اعتقال العديد من المثقفين في الجامعات خلال الانقلاب العسكري عام 1972. كانت تتشكل نقابات قوية للغاية، وكانت هناك مطالب بالمزيد من الإنصاف في الريف، وكانت تلك أيضًا بداية حركة التحرير الكردية. من تلك النقطة فصاعدًا – ما زلنا على بعد ثلاثين عامًا من صعود الإسلام السياسي – كانت هناك عسكرة مكثفة. وفي عام 1980 حدث انقلاب آخر. ويمكنني أن أصف هذه الفترة في تركيا بأنها تهدئة الصراع الطبقي.

ليندا هيريرا: كيف أثرت الاضطرابات السياسية في تركيا في أواخر الستينيات والسبعينيات على تفكيرك في الكوسموبوليتانية؟

سيلا بنحبيب: الكوسموبوليتانية لها معاني عديدة ومختلفة. من الناحية الفلسفية، الكوسموبوليتانية هي موقف مجرد، وهي ليست ما يفهمه معظم الناس. هي موقف يعني الالتزام بالكرامة الأخلاقية لكل إنسان. بهذا المعنى، هي نوع من الموقف الليبرالي الحداثي. من الناحية القانونية، بصفتي طالبة لحنة أرندت، أود أن أقول إن الكوسموبوليتانية هي الحق في التمتع بالحقوق. هناك بعض الحقوق التي يجب أن تعود للأفراد، ليس بحكم وضعهم في مواطنة الانتماء، ولكن كحقوق إنسانية. ومن الناحية الثقافية، فإن الكوسموبوليتانية بالنسبة لي هي موقف يفهم أن الثقافات مختلطة. تتشكل الثقافات دائمًا من خلال تفاعل “نحن” و “هم”، تاريخيًا ونفسيًا. لذا أعتقد أن ما أميل إليه، بالنظر إلى خلفيتي الخاصة، وما إلى ذلك، هو أنني مستعدة لأن أكون متشككًة تجاه أي نوع من حركات الهوية. بالتأكيد، لدي اعتراضاتي الفلسفية والسياسية على القومية، وما أحدثته، والبؤس الذي تسببت فيه. لكن تاريخي يهيئني لقبول التعددية، ويهيئني أيضًا لقبول أن الآخر هو أحد مكونات هوية المرء.

ليندا هيريرا: في أية مرحلة انتقلتي إلى ألمانيا، وكيف كان استقبالك هناك بصفتك أكاديميًة تركيًة؟

سيلا بنحبيب: من برانديز ذهبت إلى جامعة ييل، وفي عام 1977 أكملت درجة الدكتوراه. تم تعييني كأستاذ مساعد. درست في جامعة ييل وفي عام 1978 قابلت يورغن هابرماس في محاضرة. كنت قد كتبت رسالتي عن هيجل. قلت له، “أريد أن آتي إلى ألمانيا للدراسة معك.” في العام التالي حصلت على زمالة ألكسندر فون همبولت، ووصلت إلى ألمانيا في يونيو 1979. كان هابرماس في معهد ماكس بلانك في ذلك الوقت، ويجب أن أقول إنه كان أفضل معلم لي. ليس بمعنى أنه كان معلمًا أو مدرسًا بالمعنى التقليدي، ولكن مجرد مشاهدته والاستماع إليه وهو يستمع إلى محاضرات الآخرين ويطرح الأسئلة، كانت تجربة رائعة. كان لدينا ندوة أسبوعية، حيث تعلمت قدرًا هائلاً. كتابي الأول النقد والمعايير واليوتوبيا Critique, Norm and Utopia (1986) هو نتاج تلك السنوات وهو فلسفي تمامًا. لقد تعاملت بشكل أساسي مع تحولات النظرية النقدية من هيجل إلى هابرماس. كانت هذه السنوات تجربة مدهشة في البداية. لكنهم كانوا مألوفين أيضًا. لطالما قلت لنفسي أن فرانكفورت كانت في منتصف الطريق بين المنزل في اسطنبول والولايات المتحدة. إنها تقع في هذه المسافة الفاصلة بين اسطنبول وبوسطن، أو اسطنبول ونيويورك. صحيح أنني كنت استثناءً في السنوات التي ذهبت فيها إلى ألمانيا. لقد عوملت بشكل جيد للغاية، والسبب الدقيق لذلك هو أن كامل فكرة امرأة تركية درست هيجل، وكتبت عنه، ومهتمة بمدرسة فرانكفورت، كانت بالنسبة للكثير من الناس بمثابة ارتباك صريح. بالمقارنة مع اليوم، لم يكن هناك أي أكاديميين من غير الألمان. القلة التي كانت هناك كانت في الأساس من الأمريكيين أو البريطانيين. لم يكن هناك أي شخص من أصل شرق أوسطي، لم يكن هنالك أي نوع من التحولات التي شهدناها في السنوات العشرين الماضية في الحياة العامة الألمانية. من المدهش حقًا، عندما أذهب إلى ألمانيا الآن، أن أرى مدى تنوع المجتمع الفكري وتعدد ثقافته. قد ينكر الألمان التعددية الثقافية من الصباح حتى المساء، لكنهم أصبحوا مجتمعًا متعدد الثقافات. هناك ثلاثة أجيال من الناس الآن ليسوا من أصل ألماني ولكنهم قضوا حياتهم في ذلك البلد. الأكاديميون والمفكرون الألمان متضامنون للغاية بمجرد انكسار الجليد الأولي. لذلك شعرت دائمًا بمعاملة جيدة للغاية في المجتمع الأكاديمي. بذلت جهداً لتعلم اللغة الألمانية بسرعة كبيرة. أعتقد أنها واحدة من أصعب اللغات التي أعرفها، لكنني فعلت كل شيء. ذهبت إلى معاهد جوته وتعلمت أربعة أشهر من قواعد اللغة الألمانية. البداية المبكرة جداً في تحدث اللغة، ساعدتني أيضًا في كسر الجليد بيني والألمان. لكن ألمانيا لم تكن دولة سهلة في تلك السنوات. كانت لا تزال هناك بقايا من القلق بشأن فصيل الجيش الأحمر. أتذكر بعد وصولي بفترة وجيزة، كان هناك طلب بأن يقسم أساتذة الجامعات قسم الولاء للدستور والحكومة، لكن القسم بماذا لم يكن واضحًا بالضبط. وكان مجتمع هابرماس بأكمله متضاربًا تمامًا حول هذا الأمر. هابرماس نفسه، على حد علمي، لم يؤدِ هذا القسم.

ليندا هيريرا: هل أثرت حالة العمالة التركية الوافدة في ألمانيا على تفكيرك في الحقوق والمواطنة؟

سيلا بنحبيب: بالتأكيد. عندما كنت أعيش في ألمانيا، كان بإمكاني رؤية ما يمر به مجتمع العمال الوافدين الأتراك. الكثير من دوافعي التجريبية وراء عملي في مجال حقوق الآخرين تأتي من تجربة عشر سنوات أو أكثر في ألمانيا من مراقبة أوضاع أولئك العمال ومناقشتها والتحدث عنها. لم يكن العمال الوافدون الأتراك صريحين للغاية في السبعينيات، ولكن مع مرور السنين، في منتصف الثمانينيات، بدأت الصراعات الأولى في الظهور. كانت هناك إضرابات وإضرابات عمالية كبيرة شارك فيها عمال أتراك وألمان، نقابة عمال المعادن المهيمنة في ألمانيا هي إحدى النقابات العمالية المشهورة جدًا في ألمانيا. لكن الأمور بدأت تتصارع تمامًا عندما أصبحت الانقسامات بين الأتراك والأكراد واضحة. بدأ يتم تعريف قطاعات من مجتمع العمال الوافدين على أنها كردية، وأعتقد أنه كان هناك أشخاص أكراد قادمون من العراق في ذلك الوقت أيضًا. وإذا لم أكن مخطئة، فقد كان ذلك أيام هجوم صدام الغازي الأول في حلبجة. كانت تركيبة المجتمع تتغير، وكان هناك حضور متزايد للشعب واللغات الكردية في فرانكفورت. كانت المجتمعات الكردية والتركية تتباعد، وبدأت الأمور تتوتر بشدة منذ ذلك الحين. لكن بالنسبة لي في ذلك الوقت، كانت الحركة النسائية هي أهم حركة اجتماعية. الأسئلة حول التعددية الثقافية والمواطنة وحقوق الآخرين أتت بعد ذلك بقليل.

ليندا هيريرا: كيف انخرطتي في الفكر النسوي؟

سيلا بنحبيب: في ذلك الوقت، كنت قلقًة بشأن التوفيق بين النظرية النقدية وبعض رؤى النسوية. مثل زميلاتي الأخريات مثل نانسي فريزر وجيسيكا بنجامين، كنت صغيرًة ومنزعجًة من عدم وجود أي نوع من المخاطبة الصريحة للاختلاف بين الجنسين، ومساواة المرأة. كنت قد بدأت في محاولة إدخال بعض الموضوعات من الأخلاق النسوية في نظرية هابرماس. في تلك المرحلة، كانت تجربة الحركة النسائية في الولايات المتحدة، الجيل الثاني للحركة النسائية، تؤثر على وجهة نظري حول تطوير النظرية النقدية وهو ما اتبعته عن كثب في عام 1992 مع كتابي: وضع الأنا: النوع والمجتمع وما بعد الحداثة في الأخلاق المعاصرة. كان هذا كتابي الثاني. [طوّرت لاحقًا اهتمامًا بعمل] حنة أرندت، مما فتح عينيّ على قضية الحق في التمتع بالحقوق، ولماذا أو كيف كنا في نهاية القرن العشرين، لا نزال نعيش حالة الإجحاف أو الوضع بدون حقوق.

ليندا هيريرا: ما هي حالة الكوسموبوليتانية في تلك الأوقات من الاستقطاب والشعبوية والقومية الرجعية؟

سيلا بنحبيب: أفضل عبارة “كوسموبوليتانية بلا أوهام” في هذه الأيام لأن عصرنا بالكاد هو فترة مرحبة بآمال ومعتقدات الكوسموبوليتانية. على المرء أن يرى القومية الاستبدادية والأوتوقراطية في عصرنا – رجب طيب أردوغان (تركيا)، ناريندرا مودي (الهند)، رودريجو دوتيرتي (الفلبين)، فيكتور أوربان (المجر)، فلاديمير بوتين (روسيا)، دونالد ترامب (الولايات المتحدة) والآن جاير بولسونارو (البرازيل) – كطلقة البداية لمنافسة ضخمة بين الدول الرأسمالية. يعيد العالم تشكيل نفسه جيوسياسيًا واقتصاديًا ويثير الكثير من المخاوف بين مواطني الدول القومية الراسخة الذين يرغبون في الحفاظ على مستويات دخلهم ونوعية حياتهم. وبينما يعيد الاقتصاد العالمي والجغرافيا السياسية للقوى العظمى تشكيل نفسها، ينسحب الناس إلى ما يعرفونه ويريدون الدفاع عنه بأي ثمن. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تفسير العداء الهائل للمهاجرين واللاجئين حتى عندما لا تبرر الأرقام ذلك. إنهم يرمزون إلى ضعف الحدود المتخيلة للأمة. يعطي المنظور الكوسموبوليتاني إحساسًا بالتاريخ والثقافة من خلال إبراز الترابط والتبادل بين الثقافات التي لطالما ميزت المجتمعات البشرية. تؤكد الكوسموبوليتانية على التعاون البشري الذكي من أجل حل المشكلات العالمية. إنها تقاوم شيطنة “الآخر” واختزاله/ اختزالها إلى أي شخصية عدو من خلال التأكيد على أن “الآخر داخل” كل واحد منا. ومن المفارقات أن عصرنا يحتاج إلى الكوسموبوليتانية أكثر وليس أقل من أي وقت مضى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى