صفحات متخصصةقضايا فكرية

عن كولن ويلسون والنَّظَرِيَّة النِّشُوئِيَّة وبَعْضِ الوجودية الجَّديدة (3 من 3)


إبراهيم جعفر
أكاديمي وكاتب سوداني يقيم ببريطانيا
وانتقل ويلسون، في “ما بعد اللا مُنتَمِي”، من تلك النُّقطة إلى القولِ إنَّ فلسفة هكسلي وويلز الداروينيَّة الجَّديدة تلكَ، رُغم مآخذِهَا، “تفتح علينا أسئلة عديدَة تصعُب الإجابة عليها بواسطة رُوح العِلم أو الدِّين” وإن ذلك يقُودُنَا، بعيداً عن هكسلي وويلز ونظريَّة الدَّاروينيَّة الجَّديدة التي تظلُّ- بحسبه- نَظريَّة آليَّة للنّشُوء والارتقاء في جوهرها وعمُومِهَا، إلى عالم الفلسفة الوُجُودِيَّةْ حيثُ للإنسان “حقَّ الاختيار ويُمكِنُهُ توجيه نفسه إلى الأهداف النِّشُوئِيَّة، أو تحديدها بأهدافِهِ اليَومِيَّة الحَيْوَانِيَّة” وإنَّ امتلاك الإنسان لحقِّ الاختيار يعني، في رأيهِ، أنَّ الهَدَفَ يقع في “مَعْنَىً خارج نفسه أو، على الأَقَل، وراء ذَاتِهِ الواعية العاديَّة” وإن ذلكَ يؤدي إلى القولِ إنَّ “شهوة المعرفة”، تِلكَ التي يَدعُوهَا إليها ويلز باسم “الشَّهوة المُتَطَوِّرَةْ”، تشير إلى شيءٍ وراء نفس الإنسان أو خارج ذاته (في حالة استخدامنا لكلمة “ذات” هنا بالمعنى الشَّخصِيِّ العادِيِّ).
وفي مِعرَضِ توسيعِهِ، في “ما بعد اللا مُنتَمِي”، لرؤيته الفلسفيَّة الوجُودِيَّة القائلة، بإيجازٍ، إن الإنسان حيوان هادف والمادة الحيويَّة ليست بهادفة، رأى ويلسون أن الإنسانَ الحاليَّ إنسانٌ هجينٌ ما يزال يُجاهِدُ ليبني لنفسه “محيطاً عقليَّاً” له استقلالٌ عن محيطه الحيويِّ الفيزيائيِّ وأنَّهُ حينما “يكتشف الإنسان أنه مخلوق للمحيط العقلي وأنه يملك شهوة نشُوئيَّة شخصية سامية يُضحِي مخلوقاً هادفاً” وأن من مرُّوا بتجربة ذاك الاكتشاف “من ساعة الاستيقاظ لشهود المعرفة يرجعون للذكرى الخالدة في حياتهم” وأَنَّ تلك الذكرى مُتمَثِّلَة في “اللحظة التي يبدو فيها جليّاً أنّ الإنسان لا يحتاج إلى دينٍ يأتيه من سلعةٍ إلهيّة، ولا يحتاج إلى وصايا، لأن الدّينَ بهذا المعنى هو احتياج الحيوان ليبقى حيواناً، احتياج الكلب إلى سيّدٍ ليأمره” وأَنَّه هُنَا “تحلُّ شهوة المعرفة محلَّ الحاجة للإيمان ويصبح الهدف قائداً داخلياً ويلمح الإنسان في هذه اللحظة إمكان صيرورته إنساناً حقاً، ويعي أن الأدوات التي يحتاجها في هذا الوجود الجديد ليست سلاحاً للهجوم والدفاع، وليست معاول للهدم والحفر، بل ثقافة واعية وخيال واسع” وأنَّ “الخيال” هو الكلمة “المفتاح” هنا وأَنَّ الحيوان “يتنقّل بواسطة الزّمن أولاً لأنّ حياته مؤلفة من خبرات جسدية” فيما للإنسان “تلك القدرة الغريبة على الاشتراك في تجربته، أو حتى إثارة التجارب التي يستبعد حدوثها له” وأَنَّ المشكلة هنا هي، في الأساس، مشكلة في الإحساس، في الوعي، وأنَّ حَلَّ إشكالها يبدأ من إدراك أنَّ الوعي هو الإمكان وأنًّ “أول رجل يتعلم سرّ التحكّم [القصدِي] في الوعي سيكون أول إنسان حقيقي يملك تماماً قدرَ الحريّة”، الشَّيءُ الذي، بحسب كولن ويلسون، في مؤلَّفِهِ المُسَمَّى “ما بعد اللا مُنتَمِي”، يُصيِّرُ التحليل الفينومينولوجي للوعي هو الخطوة الأولى في ذلك الاتِّجاه.
وأقر ويلسون، انطلاقاً من رؤيتِهِ الفلسفيَّة تلك، بصِحَّةِ مفهوم قَصْدِيَّة الوعي الإنساني الذي رأى الفيلسُوف وعالم النَّفس النِّمساوي-الألماني فرانز برينتانو، وفقَهُ، أن “الظَّاهرة العقلية توجه نحو الشيء” وأنَّ الظواهر العقلية “تتضمن شيئاً عن قصد في حدِّ ذَوَاتِها” وأنَّ العالم الذي يُرى عادة ليس هو العالم على حقيقته، مثل كلمة “الجبل” التي تعني “الجبل” وأنَّ الوعي “يعامل العالم المادي بطريقة غريبة إذ هو لا يهتم بفحص كلّ شيء فيه ليصوغ معادلته”.
وفي مسعىً منه لشرح مفهوم “قَصْدِيَّة الوعي”، بحسب برينتانو، ولاحقاً إدموند هوسرل، بطَرِيقَة بسيطَة، استشهد ويلسون، في مُؤَلَّفِهِ المُسمَّى “ما بعد اللا مُنتَمِي”، بحديثٍ لرجل المباحث الإنجليزي الشَّهير شيرلوك هولمز، ذات مرَّة، لمساعده د. واطسون، قال فيه: “أنا لا اهتم إن دارت الشمس حول الأرض أو العكس بالعكس”. وقد عنى هولمز بذلك القول، وفق ويلسون، أنَّ عقله يقوم “بجمع حقائق كثيرة دون أن ينسى غيرها، مَثَلُهُ في ذلك مَثَلُ شقَّةِ سكنيَّة تتَّسع لعدد معين من الأثاث القديم” وأنَّه عندما تُضافُ لذلك الأثاث القديم قطعةُ أثاث أخرى جديدة قد تعني تلك الإضافة، بالنِّسبةِ لوعيه أو عقلِهِ، “نسيان كل شيء عرفه سابقاً عن غيرها”. وأردف ويلسون قائلاً، في هذا المُتَّصَلِ، إن مبدأ شيرلوك هولمز في الاقتصاد العقلي يمارسه العقل البشري، غيرَ أنَّهُ لا يدري أن رأيه، بالنِّسبَةِ للعالم والوجود، هو رأيٌ اختياريٌّ، في غايةِ أمرِهِ، كما هو يرى العالم والوجود أيضاً من عِندَ “مركزه الطبيعي”، ثُمَّ يزعم أن ذلك المركز هو الحقيقةُ كُلُّها.
جُملة ما سبق يجعل الإنسان، في شوف كولن ويلسون في إطار ما يُسمِّيهِ فلسفة “الوجُودِيَّة الجَّديدة” التي يُبَشِّرُ هُوَ بها، من النَّاحيتين النُّشُوئيَّة والوُجُودِيَّة العينيَّة، ليس مخلوقاً وليس بعدَ “إلهاً” وإنَّما هو في منزلةٍ بين تلكما المنزلتين، الشيءُ الذي أدَّى به، أي بويلسون، إلى موقفٍ فلسفِيٍّ مُؤَدَّاهُ أن تطوَّر الإنسان يعتمدُ، والحالُ كذلك، على اعتراف الإنسان “بالطبيعة الدقيقة لحدوده” وأنَّه في مرأى الإنسان الآن وجهتا نظرٍ ممكنتان تجاه تجربته وخبرته في هذا الوجُود، إحداهما سلبيّة والأُخرى إيجابيّة؛ إحداهما وجهة نظر الحيوان في الإنسان والأخرى وجهة نظر الإنسان الحقيقي في الإنسان وأنَّ ذاك التَّطَوُّر في الإنسان يرتبط، من ناحيةٍ، بتطوير معنى المقدرة العقلية التي ترافق- دوماً- الإدراك الذَّاتي عبر إمكان تقوية ذاك المعنى بالتحليل العقلي المرتبط بفهم الطبيعة “القصدية” للوعي فيما هو يرتبطُ، من ناحيةٍ أخرى، بالتحليل الفينومينولوجي للوعي، للشِّعور، الذي ابتدر أمرَهُ، بحسب ويلسون، إدموند هوسرل وتَوَّصَل، بمِوجِبِهِ، بحسب ويلسون أيضاً، إلى أنه يَظَلُّ هناك- رُغمَ ما قد يبدو للإنسان من عيشٍ وعملٍ في وِجُودٍ يلوح له أنَّهُ بلا معنَىْ وقد تلوحُ له نفسُهُ ذاتها فيه أيضاً وكأنَّهَا مُجرَّدَ “مرآةٍ عاكسةٍ لحالات وعيٍ وشعورٍ سلبيَّة”- مستوى آخرٍ من ذاتِ الإنسان، حقيقِيَّاً وحَيَّاً، كائنَاً عِنْدَ النَّاحيةِ، عِندَ النَّاصِيَةِ، “الأُخْرَىْ” ذاتَ المعنى من هذا الوجُودْ.

****

لحظات الحرية
محمد جديدي

كاتب وأكاديمي جزائري
سارت مجتمعاتنا ــــ أي العربية ـــــ في السنوات الأولى للألفية الجديدة في رحاب فكرة الحرية بمعنى مختلف عما عرفته في بدايات القرن العشرين، أي في لحظتين متباعدتين نسبيا بينهما قرابة قرن من الزمان وهما أيضا متجاورتين ومتواصلتين من ناحية الاستمرارية التاريخية والسياسية.
شكلت اللحظة الأولى مرحلة كانت فيها فكرة الحرية تمثل نوعا من الانعتاق من احتلال أجنبي واستعمار خارجي جثم على صدر أوطاننا ومجتمعاتنا ردحا من الزمن وتوجب أن ينهض الفرد العربي بواجب الكفاح بعد وعي ونضال طويلين كان لنخبة المجتمع من مثقفّين وكتّاب وطلاب ونقابيين ورؤساء أحزاب دورا بارزا في الاضطلاع بهذه المهمة.
أما اللحظة الثانية فقد كانت عبارة عن مرحلة تمثلت فيها فكرة الحرية نوعا من التحرر من سلط استبدادية وتحرير الفرد والوطن من هيمنة جماعات استأثرت بالسلطة والثروة ومقتدرات البلدان بواجهة ديمقراطية مزورة لإرادة الشعوب وسيادته في اختيار من يحكمه ويمثله بكل حرية.
لئن ظلت فكرة الحرية واحدة من حيث مضمونها الفلسفي والميتافيزيقي منه بشكل خاص، من حيث أنها تحيلنا على استقلالية والتمرد على كل وصاية وبطرياركا وقيود تسعى لممارسة تكبيلها لإرادة الفرد والجماعة تحت مسمى التحضر تارة والتدين تارة أخرى، فإنها تعددت في سبلها بعد انشطار حقوق الإنسان وبلوغها أجيال متباعدة عن الحقوق الأولى. ضمن رزمة الحقوق تبوأت الحرية بل الحريات بمعنى أصح ريادة كل حق وأضحى التعبير والمعتقد والتفكير من أولويات المواطن العربي اليوم.
لم تعُد فكرة الحرية مجرد طموح لوضع يحصل فيه المواطن على استقلالية لشخصه وإرادته. فلا يفرض عليه شيء إلا بموافقته، حتى وإن تعلق ذلك بحياته وصحته، بل صارت حركة من الداخل الذاتي باتجاه الفضاء الاجتماعي والسياسي. لقد أضحى الفعل الديمقراطي كسلوك في البيت والمدرسة والجامعة والنادي سبيلا لوضع الحرية على المحك وممارسة الحرية في إطار من المواطنة والقانون.
إذا تجلت فكرة الحرية عربيا في لحظتها الأولى بحركة من الداخل نحو الخارج، أي في فك الارتباط بين جسمين غريبين عن بعض؛ فإنها ــ أي فكرة الحرية ــ في لحظتها الثانية، انكفأت على نفسها لتتحرك باتجاه من الداخل نحو الداخل. فالقوة المطرودة لم تعُد هنا قوة خارجية إنما داخلية، لم تكن لتختلف كثيرا عن الخارجية في ممارساتها وخطابها، الذي لبس في كل مرة لبوس الوطنية المزيفة والتدين المغشوش والعدالة المفقودة. وفي خطاب ثوري لم يُقم للحرية وزنا ولا أثرا بل عمد إلى تبرير تجاوزات السلطة واحتكارها للحقيقة والتاريخ، فكانت فكرة الحرية الوهم الأكبر في ظل تنافس شرس بين العصب على الاستيلاء على السلطة مستعينة بالنخب التي زيّفت تاريخها وهويتها.
في خضم الأحداث التي عصفت بعالمنا العربي منذ عقد من الزمن، وهي أحداث لم تعد فيها فكرة الحرية مجرد فكرة ميتافيزيقية، إنما تجلى معناها السياسي بقوة وبدت جوانب تطبيقها أهم من دلالتها المجردة، بحيث اتجهت صوب فهم أكبر لكيفية بناء ديمقراطي يحمي الحريات ويتيح مبدأ تكافؤ الفرص في الصحة والتعليم والتنمية المستدامة.
لم يعد التفكير في الحرية لحظة حالمة متأملة نظرية وإن واكبتها الخطابات ووسائل الإعلام في مشروع لم يكتمل بل أضحت مطمحا واقعيا عمليا تشعبت فيه الحرية الواحدة إلى حريات لا سبيل إليها إلا بالديمقراطية الفعلية.
أما وقد بدأت نتائج العشرية الماضية مخيبة للتوقعات بل وشعر الراهن العربي بتراجع رهيب عما بدا لخطابه مكتسبات وتوجب عليه أن يتساءل مجددا عن معنى لحريته في ظل واقع عربي تغيرت معطياته وتفككت أواصره على المستوى الشكلي ـــ على الأقل ــــ وفي ظل ظرف عالمي تتغير خارطته من دونه، فأي حرية لا زال يأمل ويفكر بها العقل والخطاب والراهن العربي؟

****

النظرية النقدية
ترجمة من قاموس كمبردج للفلسفة
James Bohman, Critical Theory, in The Cambridge Dictionary of Philosophy, Robert Audi (ed.),2nd edition, Cambridge University Press, 1999, Cambridge, p. 195.
بقلم جيمس بوهمان

ترجمة هشام عمر النور
أي نظرية اجتماعية تكون في نفس الوقت تفسيرية ومعيارية وعملية وتأملية للذات. تم تطوير هذا المصطلح لأول مرة بواسطة هوركهايمر كوصف ذاتي لمدرسة فرانكفورت ومراجعتها للماركسية. الآن، دلالتها أوسع لتشمل أي نهج نقدي نظري، بما في ذلك النسوية وفلسفة التحرير. عندما تزعم هذه المقاربات العلمية، فإنها تحاول أن تقدم تفسيرات دقيقة لأسباب الاضطهاد، مثل المعتقدات الأيديولوجية أو التبعية الاقتصادية؛ هذه التفسيرات بدورها يجب التحقق منها بالأدلة التجريبية وبتوظيف أفضل النظريات الاجتماعية والاقتصادية المتاحة. هذه التفسيرات هي أيضاً معيارية ونقدية، لأنها تنطوي على تقييمات سلبية للممارسات الاجتماعية الحالية. وهي تفسيرات عملية أيضاً، من حيث أنها توفر فهماً أفضل للفاعلين الذين قد يرغبون في تحسين الظروف الاجتماعية التي تقيمها النظرية على نحو سلبي. يهدف هذا التغيير عموماً إلى “التحرر”، وإلى رؤية نظرية تمكن الفاعلين من إزالة القيود على حرية الإنسان وأسباب معاناته. وأخيراً، يجب أن تكون هذه النظريات أيضاً ذاتية التأمل: يجب أن تأخذ في الاعتبار ظروفها الخاصة المحتملة وتأثيراتها التحويلية المحتملة. هذه المتطلبات تتعارض مع معايير التفسير في النظريات العلمية، خاصةً الوضعية وفصلها بين الواقعة والقيمة. لهذا السبب، غالباً ما تهاجم الكتابات المنهجية للمنظرين النقديين الوضعية والتجريبية وتحاول بناء نظرية معرفية بديلة. كما يرفض المنظرون النقديون النسبية، لأن النسبية الثقافية للمعايير ستقوض أساس التقييم النقدي للممارسات الاجتماعية والتغيير التحرري.
يمكن توضيح الفرق بين النظريات النقدية وغير النقدية من خلال مقارنة النظرية الأيديولوجية الماركسية ونظرية مانهايم الأيديولوجية. في حين أن نظرية مانهايم تصف فقط العلاقات بين أفكار الظروف الاجتماعية، تحاول نظرية ماركس إظهار كيف أن بعض الممارسات الاجتماعية تتطلب معتقدات خاطئة من قبل المشاركين فيها. لا تشرح نظرية ماركس سبب ذلك فحسب، بل إنها تقيم تلك الممارسات أيضاً بشكل سلبي. ولذلك فهي نظرية عملية لأنها ومن خلال إزالة الوهم عن المشاركين، تجعلهم قادرين على التغيير. كما أنها ذاتية التأمل، لأنها توضح لماذا تتطلب بعض الممارسات أوهاماً والبعض الآخر لا يتطلبها، وأيضاً لماذا تدفع الأزمات الاجتماعية والصراعات الفاعلين إلى تغيير ظروفهم. وهي علمية من حيث أنها تنشد الأدلة التاريخية ويمكن مراجعتها في ضوء نظريات أفضل للفعل الاجتماعي واللغة والعقلانية. وزعم ماركس أيضاً أن نظريته متفوقة بسبب “منهجها الديالكتيكي” الخاص، ولكن هذا الآن موضع خلاف من قبل معظم المنظرين النقديين، الذين يدمجون في النظرية النقدية العديد من النظريات والمناهج المختلفة. ومع ذلك، فإن هذا التعريف الأوسع للنظرية النقدية يترك فجوة بين النظرية والممارسة ويضع عبئاً إضافياً على النقاد لتبرير نظرياتهم النقدية دون الاحتكام إلى مفاهيم مثل التقدم التاريخي الحتمي. جعلت هذه المشكلة النظريات النقدية أكثر فلسفية واهتماماً بمسائل التبرير.

****

الحداثة في مقابل ما بعد الحداثة (3 من 4)
يورجين هابرماس
ترجمته سيلا بنحبيب من الألمانية إلى الإنجليزية
وترجمه من الإنجليزية إلى العربية هشام عمر النور
هذا المقال (وهو عبارة عن محاضرة) تم نشره في
New German Critique, No. 22, Special Issue on Modernism (winter, 1981), 3-14.

البرامج الزائفة لنفي الثقافة
يمكنني القول، وبتبسيط مبالغ فيه إلى حد كبير، أن المرء يمكن أن يكتشف في تاريخ الفن الحديث اتجاهاً نحو استقلالية أكبر في تعريف الفن وممارسته. لقد تم تشكيل فئة “الجمال” ومجال الأشياء الجميلة لأول مرة في عصر النهضة. وخلال القرن الثامن عشر، تم إضفاء الطابع المؤسسي على الأدب والفنون الجميلة والموسيقى باعتبارها أنشطة مستقلة عن الحياة المقدسة والبلاط الملكي. وأخيراً، في حوالي منتصف القرن التاسع عشر ظهر مفهوم جمالي للفن، مما شجع الفنان على إنتاج عمله وفقاً للوعي المتميز للفن من أجل الفن. ومن ثم، أمكن بعد ذلك أن تصبح استقلالية المجال الجمالي مشروعاً متعمداً: يمكن للفنان الموهوب أن يقدم تعبيراً حقيقياً عن تلك التجارب التي مر بها في مواجهة ذاتيته اللامركزية، بعيدًا عن قيود المعرفة الروتينية والفعل اليومي.
في منتصف القرن التاسع عشر، في الرسم والأدب، بدأت حركة وجد أوكتافيو باز تجسيداً فعلياً لها في النقد الفني لبودلير. توقفت الألوان والخطوط والأصوات والحركة عن خدمة قضية التمثيل بشكل أساسي؛ وأصبحت وسائل التعبير وتقنيات الإنتاج نفسها موضوعاً جمالياً. ولذلك أمكن لثيودور أدورنو أن يبدأ كتابه “النظرية الجمالية” بالجملة التالية: “من المسلم به الآن أنه لا شيء يتعلق بالفن يمكن اعتباره أمرًا مفروغاً منه: لا الفن نفسه، ولا الفن في علاقته بالكل، ولا حتى حق الفن في الوجود”. وهذا ما أنكرته السريالية بعد ذلك: حق الفن في الوجود كفن das Existenzrecht der Kunst als Kunst. من المؤكد أن السريالية لم تكن لتتحدى حق الفن في الوجود، إذا لم يكن الفن الحديث قد قدم وعداً بالسعادة فيما يتعلق بعلاقته “بكل” الحياة. بالنسبة لشيلر، وقع هذا الوعد من خلال الحدس الجمالي، ولكن لم يتم الوفاء به. يتحدث إلينا كتاب شيلر “رسائل في التعليم الجمالي للإنسان” عن مدينة فاضلة تتجاوز الفن نفسه. ولكن بحلول زمن بودلير، الذي كرر هذا الوعد بالسعادة promesse de bonheur عن طريق الفن، تلاشت يوتوبيا المصالحة مع المجتمع. ونشأت علاقة الأضداد؛ أصبح الفن مرآة نقدية تظهر الطبيعة غير المتصالحة لما هو جمالي والعالم الاجتماعي. لقد تحقق هذا التحول الحداثي بطريقة أكثر إيلاماً، كلما زاد ابتعاد الفن عن الحياة وانسحب إلى الاستقلالية الكاملة التي لا يمكن المساس بها. ومن هذه التيارات العاطفية تجمعت أخيراً تلك الطاقات المتفجرة التي أفرغت نفسها في محاولة السريالية لتفجير مجال الاكتفاء الذاتي للفن وفرض المصالحة بين الفن والحياة.
لكن كل تلك المحاولات لتسوية الفن والحياة، والخيال والتطبيق، والمظهر والواقع، في مستوى واحد؛ محاولات إزالة التمييز بين المصنوعات اليدوية وأشياء الاستخدام، بين العرض المسرحي الواعي والإثارة التلقائية؛ محاولات إعلان كل شيء على أنه فن والجميع فنانين، والتراجع عن جميع المعايير والمساواة بين الحكم الجمالي والتعبير عن التجارب الذاتية – كل هذه المشاريع أثبتت أنها نوع من التجارب غير المنطقية. لقد عملت هذه التجارب على إعادة الحياة وإلقاء المزيد من الضوء على تلك البنيات الفنية التي قصدت حلها. لقد أعطوا شرعية جديدة، كغاية في حد ذاتها، للمظهر كوسط للخيال، لتجاوز العمل الفني للمجتمع، وللطابع المركّز والمخطط للإنتاج الفني بالإضافة إلى الوضع المعرفي الخاص لأحكام التذوق. لقد انتهى الأمر بالمحاولة الجذرية لنفي الفن، ويا للسخرية، إلى منح التقدير على نحو دقيق إلى تلك المقولات التي استطاعت جماليات التنوير من خلالها تحديد مجال موضوعاتها. شن السرياليون أشد الحروب تطرفاً، ولكن خطأين على وجه الخصوص دمروا تمردهم. أولاً، عندما تتحطم حاويات أي مجال ثقافي تم تطويره على نحو مستقل، فإن محتوياته تتشتت. ولا شيء يبقى من الانحطاط بأي معنى أو من تفكيك بنية أي شكل؛ ولا يتبع ذلك أي تأثير تحرري.
خطأهم الثاني له عواقب أكثر أهمية. في التواصل اليومي، يجب أن ترتبط المعاني المعرفية والتوقعات الأخلاقية والتعبيرات الشخصية والتقييمات ببعضها البعض. تحتاج عمليات التواصل إلى تقليد ثقافي يغطي جميع المجالات – المعرفية والأخلاقية العملية والتعبيرية. وبالتالي، لا يمكن إنقاذ الحياة اليومية المعقلنة من الإفقار الثقافي من خلال فتح مجال ثقافي واحد – الفن – ومن ثم إتاحة واحد فقط من مركبات المعرفة المتخصصة. كانت الثورة السريالية ستبدل تجريد واحد فقط.
وهنالك أيضاً محاولات على غرار هذه المحاولة الفاشلة في مجال المعرفة النظرية والأخلاق، لما يمكن أن نسميه النفي الزائف للثقافة. الفارق الوحيد أنها كانت أقل إعلاناً. فمنذ أيام الهيغليين الشباب، كان هناك حديث عن نفي الفلسفة. ومنذ ماركس، تم طرح سؤال العلاقة بين النظرية والممارسة. ومع ذلك، انضم المثقفون الماركسيون إلى حركة اجتماعية؛ على أطرافها فقط كانت هناك محاولات متعصبة لتنفيذ برنامج نفي الفلسفة على غرار البرنامج السريالي لنفي الفن. وعندما يلاحظ المرء عواقب الدوغمائية والصرامة الأخلاقية، يرى في هذه البرامج أخطاءً على غرار الأخطاء السريالية.
لا يمكن أن نعالج الممارسة اليومية المتشيئة فقط من خلال خلق تفاعل غير مقيد للمعرفي مع العناصر الأخلاقية العملية والعناصر الجمالية التعبيرية. لا يمكن التغلب على التشيؤ عن طريق إجبار واحد فقط من تلك المجالات الثقافية عالية الأسلوب على الانفتاح وأن يصبح متاحاً أكثر. بدلاً من ذلك، نرى في ظل ظروف معينة ظهور علاقة بين الأنشطة الإرهابية والامتداد المفرط لأي من هذه المجالات إلى مجالات أخرى: الأمثلة يمكن أن نراها في الميل إلى تحويل السياسة إلى عمل جمالي، أو استبدال السياسة بالصرامة الأخلاقية أو إخضاعها لدوغمائية واحد من المذاهب. ومع ذلك، لا ينبغي أن تقودنا هذه الظواهر إلى شجب نوايا تقاليد التنوير الباقية باعتبارها نوايا متجذرة في “عقل إرهابي”. أولئك الذين يجمعون بين مشروع الحداثة الخالص وحالة الوعي والفعل المذهل للإرهابي الفردي ليسوا أقل قصر نظر من أولئك الذين يزعمون أن الإرهاب البيروقراطي، الأكثر ثباتاً واتساعاً على نحو غير قابل للمقارنة، والذي يمارس في الظلام، في زنازين الجيش والشرطة السرية، وفي المعسكرات والمؤسسات، هو سبب وجود الدولة الحديثة، فقط لأن هذا النوع من الإرهاب الإداري يستخدم الوسائل القسرية للبيروقراطيات الحديثة.

**

خطوط المقابلة:
إلغاء الرأسمالية ضروري لتوسيع العلاقات التكنولوجية المرحة إلى ما بعد الاستهلاك لتشمل عملية الإنتاج نفسها
التكنولوجيا لا تمكننا من الهروب من الشرط الإنساني، بل هي الشرط الإنساني
دعا ماركيوز إلى شكل من أشكال العقلانية يتجاوز مجرد الأداتية ليخاطب ممكنات البشر والطبيعة
المعايير الجمالية التي تنبثق من الجماهير الحرة ستجعل التكنولوجيا متوافقة مع ممكنات البشر والطبيعة مما يخلق عالم مسالم ومتناغم يقل فيه القمع
المفهوم الأكثر انفتاحا للعقلانية في مجتمع حر حقا من شأنه أن يعترف بالدور التقني للخيال.
في التكنولوجيا والرأسمالية والفنون والخيال
حوار مع أندرو فينبيرغ (2 من 2)
أجرى المقابلة مايك شميدت جليم
وكارلوس بيريز لوبيز
ونشرت في مجلة البحث الاجتماعي، الأنثروبولوجيا والمادية في أبريل 2019م
ترجمها من الإنجليزية هشام عمر النور
عزا والتر بنجامين إمكانية إبداعية مرحة للتكنولوجيا – ولكن هذه الإمكانية لن تتحقق إلا إذا لم يعد إنتاج التكنولوجيا جزءاً من أسلوب الإنتاج الرأسمالي. هل توافق على هذا، وإذا كان الأمر كذلك، فهل يفسح إلغاء الرأسمالية الطريق لتكنولوجيا مختلفة تماماً ومتحررة؟ لقد كتبت أن الفعل التكنيكي يمثل هروباً جزئياً من الشرط الإنساني. فهل الوعد بحياة أفضل من خلال التكنولوجيا صحيح برأيك؟
وطرح ماركيوز أيضاً فكرة تحرير ليس البشر فقط بل التكنولوجيا من خلال الثورة الاشتراكية. ناقش ظهور المزيد من العلاقات المرحة مع التكنولوجيا الممكنة بعد الحرب العالمية الثانية والتي بالطبع لم يستطع بنيامين أن يشهدها. ولم يكن بإمكان أي من بنجامين أو ماركوز أن يتخيلوا المزيد من التطور في إنشاء الشبكات وتقنيات الهاتف المحمول. لكن هذه التطورات تؤكد إمكانية التأكيد على نوع مختلف من التكنولوجيا وعلاقة مختلفة بالتكنولوجيا. سيكون إلغاء الرأسمالية ضرورياً لتوسيع العلاقات التكنولوجية المرحة إلى ما بعد الاستهلاك لتشمل عملية الإنتاج نفسها. هذا ليس مجرد حلم ولكنه بالفعل بُعد حقيقي لبعض القطاعات المميزة مثل العمل في الأفلام وألعاب الفيديو وبعض البحوث العلمية.
لن أقول إن التكنولوجيا تمكننا من الهروب من الشرط الإنساني. على العكس من ذلك، إنها هي الشرط الإنساني. وهم الهروب هو بالضبط مصدر العديد من المشاكل مثل التلوث البيئي. ليس لدي أدنى شك في أن حياة أفضل أصبحت ممكنة بسبب التكنولوجيا، ولكن هنالك أيضاً جانب مظلم للتقدم. تذكرت بسبب سؤالك آمال العلماء التي وضعوها في “الطاقة الذرية من أجل السلام” بعد الحرب العالمية الثانية. وأنه ستكون لدينا طاقة وفيرة بحيث يمكن توزيعها مجانًا! كان الجانب المظلم – الجنون النووي – فظيعاً لدرجة أن بعض أولئك الذين صنعوا القنبلة اعتقدوا أنه يجب أن يكون هناك جانب مشرق رائع بالمقابل للتعويض. لكن اتضح أن التكنولوجيا النووية ليس لها جانب مشرق بعد كل ذلك. حالات قليلة هي مأساوية مثل هذه الحالة، لكن ما لم يكن هناك رد فعل أكثر استنارة وفعالية للمشاكل البيئية، فقد تكون النتائج متشابهة أو أسوأ.
الموضوع الذي نريد مناقشته في المسألة القادمة هو التكنولوجيا والفنون. في هذا السياق، من المثير للاهتمام أن نعود إلى أفكارك حول نظرية ماركيوز في الفنون والتكنولوجيا. فأنت ترى، طبقاً لماركيوز، أن التمييز بين التكنولوجيا كمنتج للعقل والفنون كإطار حسي هو نتيجة لمفهوم حديث للعقل يرى أنه: “بينما كانت محصورةً في عالم هامشي من”الثقافة الإيجابية”، فإن العقل تم تقليصه إلى مجرد أداة في الصراع ضد الندرة” (2008).
يتم تقديم التمييز بين التكنولوجيا والفنون على أنه إشكالي لأنه يقوم على استبعاد المعنى الأوسع للعقل باعتباره تأكيداً على الحياة. هل يمكن أن تؤدي إعادة انفتاح التكنولوجيا نحو الفنون إلى تحول في مفهوم العقلانية التقنية؟
هذا هو واحد من أكثر التوقعات التي تستند على محض التأمل ولا تقوم على الواقع في فكر ماركيوز. فقد دعا إلى تطوير مفهوم جديد للعقل يقصد به شكلاً من أشكال العقلانية يتجاوز مجرد الأداتية ليخاطب ممكنات البشر والطبيعة. في هذا المشروع تلعب الفنون دوراً ولكن ليس بشكل مباشر كعمل. بل إن جانب الفنون الذي سيرتبط، بالأحرى، بإصلاح العقلانية هو علاقتها التخيلية بالواقع. ويشير ماركيوز إلى أن التمييز الذي نجريه بين التكنولوجيا والفن لم يكن معروفاً لليونانيين القدماء. فقد شمل مفهومهم عن التكنو teché كليهما. من الناحية العملية، كان هذا يعني أنه تم تضمين المعايير الجمالية المثالية ضمن المعايير الموضوعية المطبقة على الصناعة التقنية، ليس فقط في الفن ولكن أيضًا في ما نعتبره أنشطة تقنية بحتة. يهدف ماركيوز إلى تكثيف وتوحيد مماثل للوظائف المتمايزة للتقنية والفنون. يجب أن تتضمن القرارات التقنية الممكنات المثالية التي يحددها الخيال.
لكن هذا يتطلب اليوم نهجاً مختلفاً عما كان عليه الأمر في العصور القديمة. فقد كان لعمل الجمال اليوناني أساس تقليدي بينما لا يمكننا نحن الحداثيون أن نبني أنشطتنا الفنية على الماضي بل يجب أن نتوخى المستقبل. لم يوضح ماركوز أبداً كيف سيحدث ذلك، لكنني أعتقد أنه كان يرى أن المعايير الجمالية ستنبثق من قرارات الجماهير الحرة التي لم تعد خاضعة لسيطرة الدعاية الإعلامية ولاستغلال حاجاتها الأساسية. ستجعل هذه المعايير الجمالية التكنولوجيا متوافقة مع ممكنات البشر والطبيعية، مما يسهم في خلق عالم مسالم ومتناغم يقل فيه القمع والتدمير إلى الحد الأدنى.
أنت تقول إن الخيال هو رابط بين الفن والتكنولوجيا لأنه متورط في تجاوز ما هو معطى تجريبياً. ومع ذلك، لا مكان للخيال في مفهوم العقلانية التقنية التي تحددها الكفاءة والوظيفية. فكيف نعيد توحيد الخيال ودمجه في العقلانية التقنية؟
ليس صحيحاً أن الخيال لا مكان له في العقلانية التقنية، حتى في أيامنا هذه. جميع المنتجات الجديدة تنبع من قفزة خيالية تتجاوز العالم الحالي. هذه القفزة لا تخضع للأنظمة السائدة وبالتالي لا تنتمي إلى هذه الأنظمة التي تسيطر على العمل التقني، ومع ذلك فإن الجميع يدرك مدى أهمية هذه القفزات. هذا هو الحد الداخلي لمعايير الكفاءة والوظيفية ولذلك فإن هذه المعايير ليست كافية بذاتها ولكنها دائماً ما تتطلب دافعاً خارجياً ليدفعها للحركة والتطور. بالطبع قد تبدو الحالة مختلفة عندما يتم تحقيق قفزة خيالية من قبل أشخاص عاديين يحتجون على تصميم تكنولوجي معين ويتم توبيخهم من قبل السلطات باسم الكفاءة والوظيفية. لقد اكتفينا من الاتهامات باللودية (أي، معاداة التكنولوجيا) واللاعقلانية الموجهة ضد الاحتجاجات على الطاقة النووية وخطوط أنابيب البترول والمؤيدة للطاقة التجددة! هذه عقلانية زائفة. لإنها تخفي الحقيقة المحرجة المتمثلة في أن الكثير من محتوى الالأنظمة التقنية المعاصرة يستند إلى قفزات خيالية سابقة، حتى أن بعضها منها تم إجراؤه رداً على ضغوط سياسية مثيرة للجدل. لا تكمن المشكلة في الاعتماد على العقلانية بل في التقييد المصطنع للعقلانية في عجزها الضيق. إن المفهوم الأكثر انفتاحاً للعقلانية في مجتمع حر حقاً من شأنه أن يعترف بالدور التقني للخيال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى