الرأي

وصفة الضياع.. وميكافيلّية الحالمين!!

تحولات
محمد أحمد الفيلابي

إنهم يعملون وفقاً لوصفة جلال عامر القائلة “إذا أردت أن تضيع شعباً، أشغله بنقص أنبوبة الغاز، وغياب البنزين، ثم غيّب عقله، وأخلط السياسة بالاقتصاد، بالدين، بالرياضة”. لقد نجحوا ــ سيد جلال ــ حين زادوا الخبز إلى قائمة المعدوم في سوق الخرطوم. غيّبوا عقل الشعب حين شغلوه بالقبلية وحرب القبائل. وظّفوا منابر المساجد للتباكي على لوحة تشكيلية طافت العالم لعشرات السنوات دون أن تتسبب في استفزاز غدد الدمع لدى أحد. نعم، هؤلاء خلطوا الدين بالسياسة، والسياسة بـ(الرجالة) والعنصرية، والنفخات الكاذبة غطاءً للتمترس البيّن حول النظام وسدنته ذوي الجيوب المنتفخة، و(اللعاب) الذي لا يتوقف جريانه أمام كل مورد، وكل ورقة عملة، ونعيم دنيوي.
أتت الوصفة أُكلها لدى الأكثرية، ويا للأسف حتى من كانوا يوقنون بضرورة التغيير، ويدركون أن التغيير ليس حدثاً، بل عملية قد تطول، وقد تُربك، وتؤلم. أولئك الذين سجلوا صموداً في البدء، ثم ما لبثوا أن أرخوا السمع للصوت المتعالي قذفاً في حق الثورة والثوار، وبدأ حائط صمودهم يتهدّم أمام تفاقم الوضع الاقتصادي، وفوضى الأسواق، وصمت الممسكين بالخيوط، و(بجاحة) سدنة النظام البائد، الذين مشوا (بل ركضوا) وفق فهم مغلوط لما ردده ميكافيلّي قبل أكثر من خمسمائة عام، حين قال: “إن درجة الصعوبة والخطورة في محاولتك لتحرير شعب راضٍ بعبوديته، هي نفسها عند محاولتك استعباد شعب حر”. وقد تأكد للجميع أن (ميكافيلّيتهم) جعلت من كل فعل يقومون به، وصوت يطلقونه، وحرف يكتبونه، ودمع يذرفونه وسيلة لغايةٍ خبرها الشعب لثلاثين عاماً، وأعلنها أنه لا مجال لتحقيقها مجدداً، ودون ذلك المزيد من الدماء والأرواح.
أحارُ حقيقة لمواقف بعض منسوبي القوات النظامية من الثورة، ومن (غشامة) من يصدقون من بينهم أن الأمر عائدٌ إلى ما كان عليه، وظلوا يعملون على ذلك. والأكثر حيرة أن من قيادات وأفراد الشرطة من يواجه من يشكو أو يستنجد بهم بتلك المقولة الغريبة (ما قلتوا مدنية؟)، وهم لا يدركون أنهم جزء من هذه المدنية، وحرّاسها الأمينين عليها في الظروف الطبيعية. أليست الشرطة في خدمة الشعب؟ ألا يدفع الشعب من موارده وعرقه ودمه لهذا القطاع؟.
قلنا مدنية (بل مدنيااااو)، ونقولها في كل مرة، ونُصر عليها، والشرطة هي الأقرب إلينا وإلى الحكم المدني الديمقراطي من بين كافة قطاعات المنظومة الأمنية. وأوجب واجباتها حماية أفراد الشعب وممتلكاته، لا أهل السلطان والجاه، الذين ما تحملوا فراق الكراسي الوثيرة مهما ادعوا أمراً مغايراً. والكرسي الذي تصله عبر انقلاب عسكري ليس مثل الذي يجلسك عليه الشعب ودستوره عبر الانتخاب الحر النزيه، رغم أنه حتى هؤلاء لا يقوون على مبارحة السلطة. ونذكّر بما حدث مؤخراً في أعرق ديمقراطيات العالم الأول، تلك الراسخة منذ أكثر من مئتي عام، ورغم ذلك لم يتحمل الرئيس الأخير الذي أطاحت به ذات الديمقراطية التي جاءت به الأمر، ليأتي بأفعالٍ ما سبقه عليها أحد هناك. أفعال مستنكرة إلا من أنصاره العنصريين أصحاب خطاب الكراهية ورفض الآخر.
مثلما قيل لـ(ترامب) هناك أنه ما عادت لك مكانة في البيت الأبيض، قيل هنا لسدنة النظام البائد أنه لم يعد من مجال لعودتكم مهما فعلتم واجترحتم من خطايا في حق شعبكم، وأنتم تسعون جاهدين لإسقاط الحكومة الانتقالية ليخلو لكم وجه الشريك الأقرب إلى أحلامكم في العودة المستحيلة للحكم.
ترامب جاء بحركة عنصرية سوّق لها منذ صعود نجمه في 2016، وفوزه بترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات، ثم فوزه بها. ولـ(الترامبية) شعار يشبه كثيراً شعار داعش، فهذه (باقية وتتمدد)، وتلك (وُجدت لتبقى). أما الجماعة هنا فقد رفعوا شعار (هي لله) ما يعني أنهم باقون ما بقيت الحياة الأولى، وقد صرح أحدهم حين نشوة سلطوية أنهم سيسلمونها المسيح، لكن حين تسأل ما وجه الشبه بين ثلاثتهم؟ ستجد التلُّون وتبدّل الأسماء، والانفتاح على الشركاء المتاحين. وفيما تجاذبت (الترامبية) الشعبوية والقومية والعداء للآخر، خاصة العرب والمسلمين والسود، نجد أن داعش و(الجماعة هنا) ظلوا يمارسون ذات النهج رفضاً للآخر، وبقوة السلاح تحت مسوغات نشر الإسلام ومحاربة أعدائه.
تحولت (جماعة التوحيد والجهاد) إلى تنظيم (قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين)، بعد مبايعة زعيمهم الزرقاوي لأسامة بن لادن. ثم في 2006 حدث اندماج مع آخرين ليتشكل ما عُرف بـ(مجلس شورى المجاهدين)، حتى أصبحت الحركة بعد انضمام مجموعات أخرى في 2013 (دولة الإسلام في العراق والشام)، والتي عرفت إختصاراً بـ(داعش). وهنا تحول (تنظيم الأخوان المسلمين) بعد دخولهم عوالم السياسة إلى (جبهة الميثاق)، ثم بعد انتفاضة إبريل 1985 (الجبهة القومية الإسلامية)، ثم دان لهم الأمر تماماً عبر انقلاب 1989، فتسموا (المؤتمر الوطني) بعد الانفتاح على طلاب السلطة والجاه أينما كانوا.
إن كان (ترامب) قد أضاع فرصة الحكم بسبب ما رآه البعض (رعونة)، و(استقواء) حين قام بإعلاء شأن فئة على الآخرين، فمضى مقصياً رغم أن له مؤيدوه، تماماً مثلما حدث هنا من سقوط مدوي لنظام رفضه الشعب بكلياته إلا أولئك الراضعين من ثدي الموارد والسلطة. أما (داعش) فقد استبَقوا الأمر، وأسموا أنفسهم (دولة) قبل أن يؤول إليهم أمر أي من بلاد الشام، فطاحوا في البلدان انتقاماً أسوداً، حتى أصبحت (الداعشية) مذهباً، كما (الترامبية).
هنا يدرك أنصار النظام البائد أن عليهم الاعتراف بالهزيمة، والرفض الشعبي لهم، لكنهم يتمسكون بقشة بعض الأصوات التي تتساءل عن التغيير بعد الثورة، الأمر الذي انتظروه طويلاً، وصبروا عليه ليلمس معيشتهم اليومية وأمنهم وأمانهم، الأمر الذي لم يحدث بعد. ولم يخرج عليهم من يطمئنهم بقرب حدوثه، فيما تتعالى الأصوات الأخرى حولهم رصداً للإخفاق، وتكذيباً لحقائق ماثلة، ونسجاً لأكاذيب يصدقها العامة، ويروجون لها. بمساعدة البعض ممن آل إليهم الأمر في حكومة الثورة.
شكراً للرياضة هناك في العالم الأول، وهي تذكرنا باستنكار العنصرية قبيل إنطلاق صافرة الحكم إعلاناً لبدء أي مباراة، بابتداع تلك الحركة للتذكير بما فعله ذلك الشرطي العنصري مع الأسود (جورج فلويد). وبئساً للرياضة هنا وهي تكرس لنهج إعلاء شأن من لا يستحقون من قيادات وممارسين، وكُتّاب، ومسؤولين فاسدين، ودونكم ما حدث في المدينة الرياضية، وما يحدث من إهمال للرياضات كافة إلا كرة القدم التي عجزت عن الاحتفاظ باسم السودان في المحافل الدولية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى