الرأي

وجوه

منصور الصويم
يحدث أن وجوها بعينها لا تربطنا بها آصرة قوية، تظل تتأرجح في دهاليز ذاكرتنا لأزمان طويلة، تخمد لقترات، وتشع فجأة وبلا مناسبة أمامنا، قد تذكرنا بحدث ما ارتبط بها بشكل أو آخر، أو بشخص؛ عطر، مكان، شجرة، حادثة، أو قد تظل متأرجحة هكذا داخل رؤوسنا دون أن ندرك إلى ما لا نهاية الأسباب التي تجعلنا متعلقين بها، ونحتفظ برسمها هكذا متقافزا بين حين وآخر دون أدنى مناسبة أو ارتباطات شرطية واضحة وجلية بالنسبة لنا كوعي. حالة كهذا تداهم الكثيرين أثناء انهماكهم في عمل مضن، أو أثناء إحساسهم بفراغ طويل وممل، أو حتى في اللحظات الحرجة جدا؛ كالمرض، إجراء عملية، الحبس، الولادة، أو -ربما – الموت.
ربما نجد تفسيرات علمية لمثل هذه الحالة في الباراسيكولوجي والسايكولجي، أو لدى مفسري الأحلام أو شيوخ الدين، لكن هذه الزاوية الآن غير معنية بهذه التفسيرات بقدر اعتنائها بعرض واحدة من تلك الحالات، لوجه من تلك الوجوه التي لا نعرف صاحبها ولم نحادثه قط، ولا تربطنا به أي علاقة سوى أننا التقيناه في زمان ومكان ناتج عن الصدفة، والتقطت أعيننا (لمحة) من وجهة؛ نظرة عينيه، غضبه، ابتسامته، رعبه، شيء ما في هذا الوجه جعلنا نتعلق به ونعلق في مسارات الذاكرة ليقفز أمامنا مشعا فجأة في أوقات عجيبة لا يوجد أي رابط بينها.
في أواخر حقبة التسعينيات تعرض بنك السودان (المركزي) في نيالا لواحدة من أكبر عمليات النهب المسلح التي كانت تجتاح إقليم دارفور في تلك الفترة، بل يكاد يكون نقلة نوعية وتتويجية لتلك العمليات، والسرقة – لمن لا يذكر تفاصيلها – حدثت نهارا جهارا ، ونفذ النهابون عمليتهم في هدوء واحترافية عالية، دخلوا البنك، سرقوا، (شقوا) بسياراتهم (اللاند كرورزات) المدينة من غربها إلى شرقها ثم اتجهوا شمالا، وكأنهم يتنزهون أو هم في استعداد لرحلة ترفيهية عند تخوم نيالا.
..ولصوص البنك يعبرون المدينة عند طرفها الغربي، قبل أن يتخذوا مسارا منحنيا ويتجهون شمالا، وبالتحديد في نقطة ما بين مكاتب الأمن والسكة حديد وقريبا من المنطقة الصناعية، واجهت (شخصيا) السيارات الثلاث، بدوشكاتها وأسلحتها الخفيفة وهي تتهادى لعبور مجرى مائي صغير، مما جعلها تهدي السرعة وتعبره باطمئنان، وهنا لمحت وجوه (اللصوص) وهم يضحكون ويقولون شيئا ما، في المقاعد الأمامية، ثم مرت السيارات وأنا مندهش، حتى بروز السيارة الثالثة، وعليها في الخلف شخصان أحدهما يحمل رشاشا، والآخر مدفع (آر بي جي)!.
نظرة سريعة، مسحت بها وجوه الجميع، لكن بصري – ومن ثم ذاكرتي – تعلق بوجه حامل الـ (آر بي جي): شاب صغير (عمر الزهور)، ضيق العينين، يبدو مغموما – عكس الآخرين – بشكل عجيب.
منذ التسعينيات وحتى الآن يلوح أمامي وبلا مقدمات وجه حامل الـ (آر بي جي) المغموم أتأمله وأتساءل: أين هو الآن؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى