روزنامة الأسبوع

هَجْرُ الطَّرِيقِ المَسْدُود!

روزنامة الأسبوع

     كمال الجزولي

الإثنين
لا تصعب على أيِّ مراقب ملاحظة أن انقلابيِّي البرهان باتوا يسعون، بآخرة، إلى رفع لافتات برَّاقة، بشعاراتٍ ديموقراطيَّة كاذبة، يرومون من ورائها، كعادتهم، وجرياً على نهج قديم ذميم، دفع الجَّماهير دفعاً لقبول كلفتة الانتخابات النِّيابيَّة المنتظرة، بصورة متعجِّلة، دون إعداد كافٍ، أو تحضير متبصِّر، الأمر الذي يضمن اكتساحهم غير المستحق لها! على أنهم، إمعاناً في الكذب والخداع، يحاولون الترويج لكون السَّبب في رفض الثَّوريِّين لهذا المسعى، ليس الحرص على استكمال المقدِّمات الضَّروريَّة للعمليَّة الانتخابيَّة المرجوَّة، وإنَّما تخوُّفهم، أصلاً، من خوض الانتخابات ذاتها!
هذه معركة يجدر بالثَّوريِّين ألا يستخفُّوا بها، كونها تدور، أساساً، على الوعي، ومن أهمِّ ما ينبغي عليهم توضيحه للجَّماهير أن ثمَّة تحدِّيات تجابه العمليَّة الانتخابيَّة، ومن شأن هذه التَّحدِّيات، لا محالة، إن لم تتمَّ العناية بها وتداركها بجديَّة، أن تجعل من هذه العمليَّة محض إجراءات شكليَّة. من أبرز هذه التَّحدِّيات التي لا يمكن معالجتها إلا من خلال «المؤتمر الدُّستوري» كأحد مهام الفترة الانتقاليَّة، تحقيق أكبر قدر من التَّوافق بين المكوِّنات السِّياسيَّة والمدنيَّة كافَّة حول «مضمون» هذه العمليَّة، وحول الهدف من ورائها، ومصادر تمويلها، وإجراءاتها الفنيَّة، وإعداد سجلها، وترسيم دوائرها، ونوع البرلمان الذي يُراد له أن يتمخَّض عنها، وأجواء السَّلام التي ينبغي إجراؤها فيها، وآليَّات الشَّرعيَّة الدُّستوريَّة التي يجب إحاطتها بها، والإصلاح المؤسَّسي للأجهزة العدليَّة، والأمنيَّة، والعسكريَّة الذي لا بُدَّ أن يستبقها، فضلاً عن الإصلاح الذي لا بُدَّ أن يلحق بمنظَّمات المجتمع المدني، خصوصاً الحزبيَّة والإعلاميَّة.

الثُّلاثاء

عبد المحمود

خلال عيد الفطر المبارك أجرت مقدِّمة البرامج التِّلفزيونيَّة المثابرة عفراء فتح الرَّحمن مقابلة، على شاشة «اس 24»، مع الكادر الاسلاموي أمين حسن عمر، حيث سألته، متعجِّبة، عن تعليقه على كون القوَّة العسكريَّة التي اعتقلت عمر البشير، عند اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة، عثرت على 25 مليون دولار أمريكي مكدَّسة في غرفة نومه، بينما الفقر يطحن النَّاس في شوارع البلد! فإذا بابن مخزنجي السِّكَّة حديد بعطبرة قبل انقلاب الانقاذ، يبدي دهشته من السُّؤال، قائلاً لها بالحرف الواحد:
ــ «يا عفراء كلامك دا كلام ناس مفلِّسين ساكت! انتي قايلة 25 مليون دولار دي كتيرة»؟!
فانظر، يا رعاك الله، كيف تنخفض «القيمة الدِّينيَّة»، لدى هذا الدَّاعية «الاسلاموي»، بينما ترتفع «القيمة البنكيَّة»!
استدعت هذه الواقعة إلى ذاكرتي مقابلة تلفزيونيَّة قديمة كان أجراها، إن لم تخنِّي الذَّاكرة، عبد الباسط سبدرات، مع أسرة عمر البشير، وقد شاهدناها ونحن معتقلون بسجن بورتسودان، أوَّل شهور الانقاذ، من جهاز «أبيض وأسود» كان أحضره لنا المرحوم المناضل النُّوبي علي دهب. وكانت ضمن المستضافين في المقابلة الحاجَّة هديَّة، والدة البشير، رحمها الله، فروت كيف أنَّهم كانوا، قبل الانقلاب، يعانون ضيق العيش في بيت متواضع بكوبر، هي، ووالد عمر، وعمر، وزوجته، وإخوته الطَّلبة، وأسرهم، وكان دخلهم الوحيد، جميعاً، مرتَّب عمر نفسه! ثمَّ ما لبثت أن أضافت قائلة، بمنتهى العفويَّة:
ــ «إلَّا هسع، أحمدك يا ربِّي، عمر ريَّحنا غاية الرَّاحـة»!
كان مِمَّن شاهدوا الحلقة في السِّجن المرحوم المناضل البجاوي خفيف الظِّل عبد الله موسى، فعلَّق قائلاً:
ــ «والله يا اخوانَّا كان كدي الزول دا ليهو حق يعمل انقلاب»!

الأربعاء

المرنيسي

مرَّت، قبل أيَّام، فترة من أهمِّ الفترات التي وثَّق لها المرحوم د. أمين مكي مدني، في مذكِّراته التي تشرَّفت، بموجب تكليف من اللجنة القوميَّة لتخليد ذكراه، بجمعها، وتحريرها، والتَّقديم لها، تحت عنوان «صفحات مجتزأة من أوراق العمر»، وهي فترة انتفاضة أبريل 1985م، حيث قال إنه، في صبيحة الأول من أبريل، اليوم التَّالي لعودته من لندن، علم بالتَّرتيب لموكب جماهيري صباح الأربعاء 3 أبريل، بغرض رفع مذكرة إلى القصر الجُّمهوري تتضمَّن المطالبة بالدِّيموقراطيَّة، وأن اجتماعات مكثَّفة تجري لمتابعة التَّطوُّرات. لكن لم تفته ملاحظة أن ذلك كله يتمُّ بمزاج متوتِّر يتَّسم بعدم ثقة زملائه من القادة النقابيِّين والمهنيِّين في الأحزاب! رغم ذلك طرح عليهم ضرورة الاتِّصال بهذه الأحزاب للتَّنسيق، خاصة وأن ثمَّة عملاً جبهويَّاً ماثلاً، ومشروع ميثاق أعدَّ بجهد كبير، وأن من شأن الوزن السِّياسي للأحزاب أن يضيف بعداً حقيقيَّاً للتَّجمُّع النقابي.
قال أمين إنه، كما توقَّع، لم يلمس حماساً لرؤيته تلك لدى غالبيَّة أولئك القادة النقابيِّين والمهنيِّين، ومع ذلك قرَّروا تداولها في اجتماعهم مساء نفس ذلك اليوم، بنادي الخرِّيجين بالخرطوم بحري. وبالفعل خرج عمر عبد العاطي من الاجتماع، ليخبره بموافقتهم على التَّنسيق مع الأحزاب، وبقرارهم تفويض أمين لإجراء الاتِّصالات اللازمة، وموافاتهم بالنَّتيجة. لكن لم يكن خافياً أن معظمهم كانوا يضمرون عدم الثِّقة في زعماء تلك الأحزاب، واتِّهامهم لهم بالانشغال بمصالحهم الخاصَّة، مؤثرين الصَّمت، ومذعنين للأمر الواقع، بل وبأن بعضهم تعاون، صراحة، مع النِّظام!
وفي خاتمة ذلك الجُّزء خلص أمين إلى أنه، ومهما يكن من شئ، فقد شهدت تلك الأجواء العاصفة من الاتِّهامات وعدم الثِّقة ميلاد «التَّجمُّع الوطني الدِّيموقراطي» الذي يفترض أنه تحالف استراتيجي بين التَّجمُّعين «النقابي» و«الحزبي»! ومن ثمَّ كانت لطبيعة تلك العلاقة المتوتِّرة بين الطرفين آثارها السَّالبة على مجريات الفترة الإنتقاليَّة التي تلت سقوط النِّظام المايوي، فضلاً عن كلِّ فترة الدِّيموقراطيَّة الثَّالثة التي انبترت بانقلاب الاسلامويِّين في 30 يونيو 1989م!

الخميس

عبد العاطي

هالني، في خواتيم أبريل المنصرم، أن ما كتبت قبل أربعة عشر سنة ما زال يعكس نفس الذي كان يعكس، آنذاك، من سوء الحال، حيث أنك، إن جرَّبت التَّخلُّص من صمغ نبرة الخطاب «الثَّورجي» اللبيك الذي كان سَّائداً، وقتها، في الكثير مِمَّا يصابحك، يوميَّاً، ويماسيك، من خطابات، والتَّأمُّل في ما وراء «ضجَّته» العالية، و«هديره» الدَّاوي، فستكتشف أنه لا يبرح، قيد أنملة، كونه مجرَّد خواء عريض يصلُّ صليلاً، ومحض شنشنة تعزف على أوتار «حريق الرُّوح» الجَّماهيري العام! أمَّا في ما عدا ذلك، فلا ينطوي على أيَّة «ثمرة» .. لا عِلة تُشرَّح، ولا حلاً يُقترح، ولا خطة تُقدَّم، ولا مخرجاً، بالمرَّة، من أزماتنا، يُضاء! وإنْ هو، في نهاية المطاف، إلا «نقنقة» كثيفة .. والسَّلام!
وإذن، فكثرة «النِقَّة بلا ثمرة» مِن أخصِّ خصائص إنتليجينسيا البرجوازيَّة الصَّغيرة السُّودانيَّة التي ينتسب إليها نفرٌ نشط من السَّاسة ومسوِّدي الصَّحائف، بكلِّ ما يخالط مناهجهم، وأساليبهم، وطرائق تفكيرهم من تأثيرات «الذِّهن الرَّعوي»!
وقد سبق لنا، في محاولة لاستكناه جوهر أزمتنا السِّياسيَّة، أن لاحظنا، للمفارقة، هيمنة فئة الانتلجينسيا المستعربة المسلمة الخارجة، فى غالبها، من جلباب الطبقة الوسطى، على المفاصل الأساسيَّة للعمل السِّياسي والاجتماعي فى كلِّ حقوله وساحاته، وتزعُّمها المطلق لأحزابه وكياناته المدنيَّة، وتأثيرها الشَّديد على خطابه وأدائه، فضلاً عن سيطرتها على قنوات المعرفة والاتِّصال الجَّماهيري من صحافة وراديو وتلفزيون وغير ذلك من المؤسَّسات المعنيَّة بتشكيل الوعي الاجتماعي العام. على أن أكثرهم ما تنفك تستغرقهم، للأسف، الجُّزيئات المفكَّكة، هنا وهناك، كبقيعات السَّراب، يجترُّون سائد تعابيرها، ويتبلَّغون دارج مسكوكاتها، ليعيدوا إنتاجها «نقنقة» على الورق، ومن فوق المنابر، يداعبون بها «ما يطلبه المستمعون!»، دون أن يرفعوا «أبصارهم»، شيئاً، من تحت الماء، ليمعنوا النَّظر في «المفكَّك»، ويحاولوا لمَّ شعثه في كليَّات تعينهم على التَّفكير المستنير، علَّ بصيرة ما تهديهم سواء السَّبيل إلى حكمة أخرى، أو رؤية أكثر قرباً ولو من الحقيقة «النِّسبيَّة»، طالما أن الحقيقة «المطلقة» غير موجودة أصلاً، وأن إدمان «ركوب الرَّأس»، و«تجريب المُجرَّب»، لن يُفضي سوى إلى «ندامة» السَّير بأعين معصوبة خلف «وهم الكونكورد ـ Concorde Fallacy»، أو اتِّخاذ المواقف خلف مرحلة التَّطوُّر الحيواني التي تفترض هجر الطريق المسدود إلى غيره، على حدِّ إشارة د. محمد سليمان الذَّكيَّة في كتابه «السُّودان: حروب الموارد والهُويَّة».

موسى

إنحدار غالب هذه الفئة الاجتماعيَّة من رحم الطبقة الوسطى بِسماتِها العامَّة الملازمة لتركيبتها منذ أوَّل نشأتها في بلد لمَّا يزل تحت الاستعمار كالسُّودان، هو، إذن، من أهمِّ العوامل التى أورثتها خصائصها الفكريَّة السَّالبة، وتسبَّبت في إضعاف قدراتها القياديَّة، تحت ثقل السُّلطة المعنويَّة لمنظومة القيم الاجتماعيَّة السَّائدة، «الرَّعويَّة» بالأساس! فقد تنشَّأت هذه الطبقة في إطار خارطة اقتصاديَّة سياسيَّة اجتماعيَّة لعب التَّدخُّل الخارجي، عشيَّة ومطالع القرن العشرين، الدَّور الأساسي في تشكيلها بصورة مغايرة للنَّمط الذي تشكَّلت به في مجتمعات الرَّأسماليَّة الصِّناعيَّة في الغرب، حيث ألحق الاستعمار السُّودان بالنِّظام الرَّأسمالي العالمي، على حين كانت أشكال الإنتاج السَّابقة على الرَّأسماليَّة ما تزال تلعب الدَّور الأهمَّ في اقتصادياته. وبالتَّالي أضحت الطبقة الوسطى متنازعة بين إغواء الفرص المتاحة للصُّعود، وبين رعب السُّقوط في مصير الفقر المستشري، مِمَّا ابتلاها بدوافع التَّراجع والانكسار، بقدر ما أكسبها من مقوِّمات «الثَّورجيَّة»! هذا الواقع الملتبس، بالذَّات، هو الذى شكَّل العامل الأكثر خطورة ضمن العوامل الجَّدليَّة لتذبذب هذه الطبقة، وفئة الانتليجينسيا التي ينحدر غالبها منها، على صعيدي البنية الفكريَّة والأداء السِّياسي! هكذا انهارت الطبقة الوسطى، فعادت أثراً بعد عين، لكن فكرها ومزاجها ما زالا فاعلين، ناشطين، بل .. ومتسيِّدين!

عفراء

الجُّمعة
أصاب عبد المحمود أبُّو، الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار، كبد الحقيقة، حين قال، في خطبة عيد الفطر المبارك، إن انقلاب البرهان، في 25 أكتوبر الماضي، شلَّ البلاد، تماماً، بإزهاق الأنفس، وفتح المعتقلات، وتعطيل دولاب الدَّولة، وقمع المظاهرات السِّلميَّة، وإيقاف الإصلاحات الاقتصاديَّة، وحجب المعونات الدَّوليَّة؛ وإن من أبرز العوامل التي حرمت البلاد من الاستقرار سوء الإدارة، والاستبداد السِّياسي، والتَّفلُّتات الأمنيَّة، وغياب المشروع الوطني؛ عازياً إلى هذه العوامل تعمُّق الأزمة الوطنيَّة، والتَّشوهات السِّياسيَّة، والاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، مؤكِّداً أنها لن تزول ما لم يتمَّ التَّوافق على تشخيص أسبابها، وتحديد مغذِّياتها، وتعيين وسائل علاجها.

السَّبت

أمين

إنتبهوا جيِّداً! فليس إلغاء «قانون النظام العام بولاية الخرطوم لسنة 1996م» بنهاية المطاف؛ إذ لا يزال ثمَّة مَن «يحلم»، في بلادنا، باستعادة الأوضاع القانونيَّة لـ «القمع»، خصوصاً «قمع المرأة»، باسم «تزكية المجتمع»، ومَن يتربَّص الدَّوائر، عموماً، بالحريَّات، وبالتَّعدُّد والتَّنوُّع الثَّقافيَّين! وأذكر، في حلقة نقاش انعقدت، خلال يوليو 2010م، تحت عنوان: «تزكية المجتمع بين السُّلطان والوجدان»، أن العقيد ماهر عبد الله، مسئول فرع الجَّنايات بإدارة أمن المجتمع، آنذاك، لم يجد كفاية في النِّطاق الواسع لشبكة القوانين التي تسند عمل إدارته، كـ «القانون الجَّنائي»، و«قانون الصَّيدلة والسُّموم»، و«قانون المخدِّرات والمؤثِّرات العقليَّة»، وغيرها، فطالب بإصدار قانون جديد أكثر «مواكبة» من «قانون النِّظام العام لسنة 1996م» وقتها (الصَّحافة، 9 يوليو 2010م). وعلَّقنا على الخبر في حينه بأننا قد لا نجد مبرِّراً منطقيَّاً لإلقاء أيِّ لوم على عاتق التَّنفيذيِّين النِّظاميين حين تنصبُّ مطالبتهم على سنِّ قوانين «تواكب» شواغلهم وهمومهم في «ملاحقة وضبط» ما قد يعتبرونه، ويعتبره المشرِّع الدَّاعم لهم، «جريمة»، دون أن تكون لهم كلمة في ما إنْ كانت تلك القوانين «عادلة» أم لا، باعتبار أن ذلك ليس من اختصاصهم، وإنَّما، بالأساس، من عمل المشرِّعين والقضاة! وقلنا إن علينا، لهذا السَّبب، أن نضع هذا التَّقدير نصب أعيننا، ونحن نستقبل مطلب العقيد ماهر، مثلما فعلنا، قبل ذلك، إزاء الطَّرح الصَّريح الذي تفضَّل به مدير «شرطة النِّظام العام بولاية الخرطوم»، مطلع الألفيَّة، من خلال مساهمته في ورشة العمل التي كنَّا شاركنا فيها سويَّاً، وكان نظَّمها «مركز التَّدريب القانوني» بالخرطوم من 8 إلى 10 فبراير 2000م، بعنوان «قانون النِّظام العام ومدى مساسه بالحقوق والحرِّيَّات». وكنت، في ورقتي أمام تلك الورشة، قد صوَّبت نقدي، ضمن الكثير مِمَّا تناولت من مواد ذلك القانون، إلى المادّة/7/1/ب، مثلاً، التي تحظر الرَّقص«المختلط» بين النِّساء والرِّجال، كما تمنع رقص النِّساء أمام الرِّجال، كشرط لـ «قانونيَّة» الحفل! وبافتراض أن المشرّع يدرك واقع التنوُّع الثَّقافي في السُّودان، حيث تشيع الطقوس الاحتفاليَّة «المختلطة»، فإن الأمر الوحيد الذي يمكن استنتاجه هو أن المشرّع يفترض أن «ولاية الخرطوم» بلد «آخر!»، وسكَّانها شعب «آخر!»، ولذا فالمنطق الوحيد الذي يتأسَّس عليه القانون المطبَّق فيها، ومدى إلزاميَّته بالنِّسبة لأهل السُّودان «الآخرين!» عند قدومهم إليها، هو نفسه المنطق الذي يفرض عليهم الخضوع لقانون الدولة «الأجنبيَّة!» عند حلولهم ضيوفاً عليها! غير أنني لم أندهش، البتَّة، لتعقيب سعادة مدير شرطة النِّظام العام على قولي ذاك، بل اعتبرته «أصاب» كبد الفهم الدَّقيق لمنطق الاقتصاد السِّياسي الكامن في خلفيَّة النَّص، إذ قال بالحرف الواحد: «مَن كان لا يرغب في الخضوع لهذا القانون، فإن عليه ألا يأتي إلى هذه الولاية»!
عدم عدالة ذلك القانون لا تقتصر على أهل الهامش وحدهم، بثقافاتهم المتنوِّعة، بل تطال، أيضاً، جنس النِّساء، من حيث هنَّ نساء! إذ يمكن، لأعجل نظرة، أن تبصر، في هذا القانون، القدر الهائل من التَّحيُّز الناشئٌ، ضدَّ المرأة، عن نظرةٍ ذكوريّةٍ مترتِّبةٍ على أوضاع اقتصاديَّةٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ ثقافيَّةٍ ظالمةٍ لها، بشكلٍ عام، وعن موقفٍ فكريٍّ متوارثٍ تاريخيَّاً، داخل الجَّماعة العربيَّة المسلمة الأكبر في المنطقة، وبالتَّبعيَّة داخل الجَّماعة المستعربة المسلمة الأصغر في السُّودان، مَدْخُولاً ومُلتبساً بتأثيراتٍ إغريقيّةٍ ورومانيّةٍ وفارسيَّةٍ بعيدةٍ كلَّ البعد عن جوهر التَّعاليم والتَّوجيهات والمقاصد الكليَّة للإسلام بشأن المرأة. فوضعُ المرأة، في إطار الحضارتين الإغريقيّة والرُّومانيّة، كان وضع الكائن المهمَّش، أو هو، بالأحرى، وضع «المتاع المصون»، حتَّى أن أفكار أرسطو حول تعليم المرأة اعتُبرت، بالمقارنة لاحقاً، أفكاراً ثوريَّة (!) وكان الفُرس أيضاً يعتبرون المرأة كائناً شرِّيراً قادراً على جلب النَّحس وتخريب الدُّنيا، فكانت تعامل على هذا الأساس! وقد اجتمع استضعاف المرأة مع تهميشها، في مجتمعات القرون الوسطى البربريَّة، الجيرمانيَّة، الصِّربيَّة والآريَّة، حيث سادت العقليَّة الثيوقراطيَّة، باجتهاداتها الفقهيَّة الكنسيَّة، التي تبرِّر ذلك الاستضعاف والتهميش. أما الإسلام فقد اتخذ، على النَّقيض من ذلك، ومنذ فجره الباكر، موقفاً إيجابيَّاً من المرأة، إذ نَزَل القرآن الكريم منزِّهاً لها من صفات الشَّيطان الرَّجيم، جالب الشرِّ، التي كانت ألصقت بها: «فاستجاب لهم ربُّهم إنِّي لا أضيِّع عمل عاملٍ منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض” (195 ؛ آل عمران) ـ «إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصَّادقين والصَّادقات والصَّابرين والصَّابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدِّقين والمتصدِّقات والصَّائمين والصَّائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذَّاكرين الله كثيراً والذَّاكرات أعدَّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً» (35 ؛ الأحزاب). وتلاحظ باحثة مسلمة مستنيرة أن هذه الآية، على وجه التَّخصيص، تنصُّ بوضوحٍ «على أن الجِّنسين متساويان، وبدقة، بصفتهما أعضاءً في الجَّماعة، فالله يُفاضل بين هؤلاء الذين هم جزء من أمَّته، هؤلاء الذين لهم الحقُّ في ثوابه بدون حدٍّ، وليس الجِّنس هو ما يحدِّد فضله، إنه الإخلاص والرَّغبة في خدمته وطاعته» (فاطمة المرنيسي؛ الحريم السِّياسي ـ النَّبي والنِّساء، ط 2، دار الحصاد، دمشق 1993م، ص 150). ويمكن التماس أدلَّة كثيرة في هذا المجال من سيرة النَّبي (ص)، ومن سلوك صحابته الأجلَّاء والسَّلف الصالح. فمن أين، إذن، تسلَّل مفهوم «الحريم ـ مصدر الشَّر» إلى «تديُّن» وثقافة المسلمين العرب، والمستعربين السُّودانيين بخاصة؟!
الإجابة: من تركيا! لقد جاءنا هذا المفهوم في السُّودان، مثلنا مثل كلِّ بلدان الشَّرق التي كانت قد أُخضعت وأُلحقت بتركيا، ليس من الإسلام، وإنما من هذا البلد الذي تأثَّرت ثقافته، إلى حدٍّ بعيد، بثقافة القبائل الآريَّة التي كانت قد نَزَحَت من منطقة بلاد البلقان، حاملة معها الفكرة الفارسيَّة عن «المرأة ـ الشَّر» لتتلاقح مع الفكرة الرومانيَّة عن «المرأة ـ المتاع» لتنتج، منذ ذلك الحين، النَّظرة السَّلبيَّة التي ما زالت تؤثِّر، حتَّى الآن، على معاملة الرَّجل الأوربِّي العادي للمرأة، بالأخصِّ في منطقة البلقان. وقد لعب انتهاء الخلافة الرَّاشدة، وتحوُّلها إلى ملكٍ عضود، بانتقالها إلى الشَّام ثمَّ إلى بغداد، أي إلى مركز الثِّقل بالنِّسبة لتأثير الحضارتين الرُّومانيَّة والفارسيَّة، الدَّور الأكبر في تعطيل الإسلام المستنير، والابتعاد عن أصوله في القرآن والسُّنة، في ما يتَّصل بمسألة المرأة. وبعد أيلولة الخلافة إلى الباب العالي كان لا بُدَّ أن تنداح دوائر ذلك الأثر الثَّقافي السَّالب لتركيا، كي تطال كافَّة الأصقاع التي انبسطت سلطتها عليها، ومن بينها السُّودان (أنظر: مبحثنا (في الاقتصاد السِّياسي للنظام العام ـ قانون النظام العام لسنة 1996م نموذجاً، جريدة «الصحافة»، يونيو 2000م).

الأحد

البرهان

قال بعض البخلاء لغلامه: «هاتِ الطَّعام وأغلق الباب»، فقال الغلام: «هذا خطأ، الأصوب أن أغلق الباب أوَّلاً ثم أُحضر الطَّعام»، فطرب البخيل وأعتقه قائلاً: «إذن فانطلق، أنت حر، لأنَّك أعلم بدواعي الحزم»!
***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى