صفحات متخصصة

هل يمكن أن يسقط الحكم العسكري الوحشي بالتفاوض والسلمية؟

تموج ساحة الجامعة بالطلاب الغاضبين، بينما يتردد صدى هتافهم في الشارع. هاجم المتظاهرون أقسام الشرطة وانتزعوا سلاحها للرد على هجوم الجيش. كانت قوات الجيش تبدو وكأنها في معركة حربية ضد جيش جرار، لا مجموعة من المدنيين الغاضبين. اعتصم المتظاهرون والمسلحون في ميدان بوسط المدينة خلال أيام، وبعد مقاومة شرسة من المعتصمين محا الجيش الاعتصام من على وجه الأرض مخلفًا وراءه قتلى من الطرفين، أغلبهم من المدنيين. تقول بعض التقديرات إنه بلغ عدد الضحايا 606 قتيلاً. بعد أشهر قليلة تولى قائد الجيش رئاسة البلد بعد انقلابه العسكري الذي أسال كل تلك الدماء.
لم يكن أحد في كوريا الجنوبية يتخيل أن أقل من 10 سنوات فحسب، هي كل ما يلزم قبل الإطاحة بالجنرال شان دو-هوان الذي حكم البلاد بالحديد والنار؛ خلال تلك الفترة بحجة حمايتها من «الشيوعيين». قبيل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر 1987، جهّز الجنرال خليفته رو تي-وو؛ من مجموعته العسكرية التي وضعته في السلطة ليستلم الرئاسة منه، لكن آلافاً وربما ملايين المتظاهرين على مدى صيف 1987 أنهت حكمًا عسكريًا كان قد تأسس في كوريا بانقلاب عسكري قبل ربع قرن آنذاك.
فاز تي-وو بالانتخابات، لكن القوى الديمقراطية كانت قد اندمجت بالنظام، وتحالف جناحها الأقوى مع تي-وو نفسه وحزبه الحاكم منذ أيام الحكم العسكري. بعد سنوات حكمت محكمة كورية على الجنرال شان دو-هوان بالإعدام بتهمة الخيانة والمسؤولية عن تلك المذبحة التي نفّذها الجيش بحق المتظاهرين في جوانجو، لكن قادة المعارضة الذين صاروا في الحكم آنذاك قرروا العفو عنه.
لا تحمل القصة الكورية فرادة تذكر، بين قصص الحكم العسكري في بلدان العالم الثالث في القرن العشرين، لم يتخلف فصل واحد ربما في البرازيل مثلًا عما حدث في كوريا، وبقيت الحبكة نفسها وإن تغيرت الفصول في الأرجنتين، وتشيلي، والبرتغال، وإسبانيا.
كيف يمكن أن نفهم ذلك الحضور الطاغي لتلك الجيوش في الحياة السياسية لتلك البلدان؟ هل يمكن أن تفقد السلطة؟ وإذا كان ذلك ممكنًا، فلماذا؟ وكيف أمكن للقوى الديمقراطية أن تتعامل مع موقف كهذا؟
«قلت لكم مرارًا».. أسطورة الجيش المحترف
في كتابه ذائع الصيت «الجندي والدولة» (1957)، يطرح صامويل هنتنجتون، عالم السياسة الأمريكي المرموق، أن العسكرية مع نشأة الجيوش الحديثة قامت بتفريغ مجموعة من الضباط والجنود للعمل بها في وقت الحرب والسلم على السواء، أمست مهنة تمامًا كالطب أو الهندسة أو سائر الحِرف؛ خلافًا لما كان عليه حال الجيوش القديمة التي لم تضم تلك النخبة من الضباط المحترفين المتفرّغين حتى في وقت السلم للعمل العسكري.
في الواقع عندما تفرغ الضباط وصارت العسكرية مهنة خاصة بهم، نشأت أخلاقيات للمهنة (Professional Ethics) كاحترام التراتبية في المؤسسة، وتقديس الانضباط والطاعة، وأولوية الجماعة ومصلحة الدولة على الفرد؛ وهو نمط يسميه هنتنجتون «الواقعية المحافظة» (Conservative Realism) يتسم به الضباط.
تتعارض قيم الواقعية المحافظة تلك مع قيم المجتمع الديمقراطي الليبرالي في الولايات المتحدة؛ ما يقتضي بحسبه الفصل بين المدني والعسكري من خلال احترام «احترافية العسكري» (Military Professionalism) بحيث يكون ولاء العسكري هو للمهنة والمؤسسة وقيمها دون تأثر بالأيديولوجية أو السلطة، وتحرص السلطة المدنية في الوقت نفسه على عدم التدخل في الشؤون العسكرية إلا من خلال «السيطرة المدنية الموضوعية» (Objective Civilian Control)، أي أن تكتفي السلطة المدنية بوضع الأهداف السياسية العامة للعمل العسكري.
يلاحظ عزمي بشارة، الأكاديمي والمفكر الفلسطيني، أن هنتنجتون يبدي هنا حرصًا أكبر على حماية المؤسسة العسكرية وواقعيتها المحافظة من السلطة المدنية والتزامها الليبرالي، من حرصه على حماية الحياة السياسية من النزوع العسكري؛ وقد كتب هنتجتون أطروحته في ظلال الحرب الباردة والتأهب لمواجهة محتملة مع الاتحاد السوفيتي.
هيمنت نظرية «الاحترافية العسكرية» لهنتنجتون على حقل العلاقات المدنية العسكرية، فيستخدمها عاموس بيرلميوتر مثلًا، وهو أحد أشهر الباحثين في العلاقات المدنية العسكرية، ليقسم الجيوش من ناحية علاقتها بالسلطة المدنية إلى ثلاثة أنماط:
«الجيش المحترف»: وهو الجيش المتفرغ للشؤون العسكرية، ويخضع لأهداف السلطة المدنية.
«الجيش البريتوري»: وهو الجيش الذي ينزع إلى التدخل في السياسة الداخلية، والبريتورية هي نسبة إلى الحرس البريتوري (الإمبراطوري) في الإمبراطورية الرومانية الذي كان يقوم أحيانًا بعزل الإمبراطور.
«الجيش الثوري غير-العضوي»: يضرب بيرلميوتر مثالًا لهذا النمط بالجيشين الصيني والإسرائيلي، وهو نمط المقاتلين الأيديولوجيين الذين لم يتطوروا بعد إلى ضباط وجنود محترفين في مؤسسة عسكرية ذات بنية بيروقراطية. ويبدو هنا واضحًا أن انحياز بيرلميوتر الأيديولوجي يؤثر على رؤيته لحالة الجيش الإسرائيلي، إذ يغفل بيرلميوتر أن الجيش الإسرائيلي تحول إلى مؤسسة بيروقراطية تمامًا، ولم يعد مجموعة من المتطوعين العقائديين كما كان قبل 1948، وسيمر الجيش الصيني بتحولات مشابهة بعد 1977 عندما طرح بيرلميتور تصنيفه.
تفترض نظرية «الاحترافية العسكرية» ضمنيًا؛ أن التدخل العسكري في السياسة المدنية هو نزوع عرضي، أو تتغافل في أفضل الأحوال عن استكشاف مدى أصالة النزوع التدخلي في المؤسسات العسكرية، خاصة تلك المحترفة في مجتمعات ديمقراطية ليبرالية متقدمة، أي التي يفترض أنها لا تملك الدوافع لهذا التدخل.
يميز لويس ألتوسير في مقالته «الأيديولوجية وجهاز الدولة الأيديولوجية» بين قسمين من أجهزة الدولة؛ جهاز الدولة القمعي مثل الجيش والشرطة، وجهازها الأيديولوجي مثل المدارس والمؤسسة الدينية الرسمية والإعلام. وكما يلاحظ ألتوسير، فإن جهاز الدولة الأيديولوجي ينتمي إلى الحيز الخاص، فهناك الإعلام والمدارس الخاصة، كما أن التربية في الأسرة وداخل المؤسسة الدينية لا تخضع مباشرة لسلطة الدولة، بما يعني أن تلك المؤسسات لا يمكن أن تحوز السلطة لأنها بحكم التعريف يجب أن تبقى خارجها، وإن كانت تلك المؤسسات تعمل على حماية الدولة واستمرارها. أما جهاز الدولة القمعي، مثل الجيش والشرطة وجهاز الإدارة البيروقراطي، فهو جهاز ينظر إلى نفسه بوصفه، ليس حاميَ الدولة، وإنما هو في مجموعه الدولة بحد ذاتها.
يمتاز الجيش من بين سائر أجهزة الدولة بأنه في نظر نفسه وفي نظر الجمهور ليس جزءًا من الدولة، وإنما رمز الدولة بأسرها. فالدولة مثلها مثل سائر الكيانات، تعرف نفسها من خلال تمييز نفسها عن الآخرين، ويعبّر الجيش عن هذا التميز الوطني ضد الخارج، لذلك فهو يجسّد وحدة الدولة.
يقع الجيش في ملتقى «كيان الدولة»، وهو شيء متخيل لا يمكن تحديده بسهولة، كأن نقول: مصر أو السودان، و«جهاز الدولة» أي المكوّن المادي للدولة، أي قسم الشرطة والوحدة المحلية وثكنة الجيش؛ إذ يمكن أن يستمر الكيان دون الجهاز، رغم خطر الحرب الأهلية، وذلك في مراحل التغيير الثوري الجذري كما في حالتي الصين وروسيا الشيوعيتين، فالصين وروسيا لم يضيعا، ولكن الجيش والشرطة ومؤسسة الحكم في تلك البلدان قد تغيروا بالكامل، فبقيت الروح (الكيان) التي تحل في جسد جديد (جهاز جديد)، ويمكن كذلك أن يبقى الجسد بعد فناء الروح (كيان الدولة)، مثل «زومبي» يتحرك وهو ميت، كما في حالة جهاز الدولة السوري اليوم.
وفق ذلك لا يلعب الجيش دور ذراع الدولة الخارجي، أو جهازها المسلح ضد الخارج فحسب، بل يلعب دورًا أساسيًا في تأكيد وحدة الدولة أو قوميته. إذ يقوم الجيش بحماية استمرارية جهاز الدولة عندما يرى أن السلطة أو النظام الحاكم يهدد تلك الاستمرارية، أي يحاول تغيير السلطة أو النظام لصالح الإبقاء على جوهر الدولة (الدولة العميقة كما شاع). وهو يفعل ذلك عبر خداع الجماهير بالخلط بين جهاز الدولة وكيان الدولة، فهو يدّعي أن جهاز الدولة القائم وما يرتبط به من مصالح ويتحكم فيه من نخب هو جسد كيان الدولة الذي ينهار الكيان بتغيير. وهو يتدخل ضد النظام عندما ترفضه الجماهير، أي عندما يعلن الجيش أنه انحاز إلى الثورة، فيضحي بالنظام (شكل جهاز الدولة) ليحمي جوهر تلك الدولة ممثلة في جهازها؛ ويتدخل أيضًا ضد الجماهير إذا لزم الأمر، أي حين يقضي على الديمقراطية أو يسحق الثورة بحجة أنها تهدد كيان الدولة.
والحقيقة أن الجيش يلعب هذا الدور في الديمقراطيات الليبرالية تمامًا كما يلعبه في السلطويات الشيوعية (بلدان المعسكر الشرقي إبان الحرب الباردة) أو القومية (مصر الناصرية مثلًا) أو النيوليبرالية (الجيش في البرازيل مثلًا أو مصر بعد 1973). فالجيش في كافة البلدان يحكم، بدرجة ما، وإن لم يدِر، أي أنه يتحكم بالفعل في السلطة حتى وإن لم يتولّ الحكومة. فكثير من العسكريين في البلدان الغربية الكبرى كالولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا، ينظر إلى نفسه وإلى الجيش باعتباره مسؤولًا عن حماية الدولة من الشيوعيين مثلًا.
السيطرة المدنية على القوات المسلحة.. كيف «روّضت» أوروبا جيوشها؟
أخصائيو التفاوض ضد أخصائيي العنف
إذا كان الجيش يحمل نزوعًا بريتوريًا أصيلًا على هذا النحو الذي ذكرنا، فكيف يمكن أن نفهم التحول الديمقراطي الذي تم في بلدان لديها جيوش حديثة محترفة، وفي بلدان حكم فيها الجيش بالفعل لسنوات؟
ذكرنا أن الجيش في الدولة القومية يلعب دور البوتقة التي تنصهر فيها مكوّنات الأمة. وقد مثّل الجيش في كثير من البلدان علاوة على ذلك، وسيلة للترقي الاجتماعي عندما فتحت أبوابه لأبناء الطبقات الشعبية مثل الفلاحين وصغار الموظفين، كما حدث في مصر عام 1936، وإبان حكم الشيشكلي/حوراني في سوريا عام 1951. وكما يلاحظ المفكر الشيوعي اللبناني مهدي عامل، فإن هذه الطبقة من المهنيين الصغار (البرجوازية الصغيرة كما تسمى) استخدمت الجيش أداة للوصول إلى السلطة من خلال الانقلابات العسكرية بعدما أدركت أنها لا يمكن أن تصل من خلال الديمقراطية، إذ أن الديمقراطية تصب في صالح الرأسماليين الكبار أصحاب الثروة، وليس المهنيين الصغار.
تمثل البرجوازية الصغيرة التي تحتل غالبًا جهاز الدولة، مصالح الأمة في مواجهة الرأسمال، لكنها لا تنحاز جذريًا في الوقت نفسه إلى الطبقة العاملة والفلاحين، لذلك فإنها تفضل اقتصادًا يجمع بين الرأسمالية التي هي طموحها، وبين تدخل الدولة لحماية مصالحها كطبقة أفقر من الأثرياء الكبار. وقد اختارت أغلب الطغم العسكرية التي تولت السلطة في أمريكا اللاتينية خلال النصف الأول من القرن العشرين وربما بعده بقليل، وفي العالم العربي بعد حرب 1948؛ سياسات التأميم والإصلاح الزراعي ضد النخب الليبرالية الرأسمالية التي حكمت تلك البلدان من خلال نظام برلماني (ثورة يوليو مثلا ضد النظام البرلماني الحزبي، وقيامه بالإصلاح الزراعي والتأميمات)؛ كما أعلنت تلك الطغم تمسكها بالقضايا الوطنية التي اتهمت النخب الرأسمالية بخيانتها (كما في حالة تصوير الجيوش العربية التي حكمت في الستينات أنها جاءت لتحرير فلسطين التي أضاعتها الأحزاب الليبرالية).
لكن بمرور الوقت، صار العسكري مليونيرًا بعدما استغل موقعه في الدولة، وتصاهر ابن العسكري وبنت المليونير، كما تطورت الحركات الشيوعية الجذرية، التي لم تعد ترى في المؤسسة العسكرية تلك القوى الوطنية التقدمية التي رآها فيها أسلاف تلك الحركات من الشيوعيين الرسميين. ووفق ذلك انحازت تلك الطغم العسكرية إلى الولايات المتحدة والانفتاح النيوليبرالي على السوق العالمي.
أدى الانفتاح الاقتصادي على السوق العالمي والتحديث الفوقي من خلال الاستثمار الحكومي الكثيف الذي يقوده النظام العسكري نفسه، إلى اتساع الطبقة الوسطى التي يتجاوز طموحها السياسي سقف السلطوية العسكرية. ومع انبثاق التظاهرات في الشارع مطالبة بالديمقراطية التي تسمح بتحقيق طموح تلك الطبقة، تبلغ التناقضات داخل النظام ذروتها، ويتخذ الجنرالات في المؤسسة العسكرية مسافة أبعد من الجنرال الحاكم في القصر الرئاسي. ينحاز جناح من النظام العسكري إلى الخيار الديمقراطي بوصفه الخيار العقلاني؛ أي أن الديمقراطية تنشأ وفق نظرية الاختيار العقلاني، إذ يختار مختلف الفاعلين الديمقراطية كخيار أفضل للجميع.
تولد الديمقراطية وفق ذلك من رحم ذلك التناقض بين العسكر والرأسمال، أو بين «أخصائيي العنف» و«أخصائيي التفاوض» بتعبير هارولد لاسويل. فالطبقة الوسطى الجديدة التي أسهمت سياسات العسكر نفسها في خلقها لا تلبث أن تتمرد عليها لتحقق نبوء ماركس التاريخية في مقدمة نقده للاقتصاد السياسي:

«عند مرحلة معينة من تطورها، تدخل قوى المجتمع الإنتاجية المادية في تناقض مع علاقات الإنتاج القائمة… وتتحول تلك العلاقات من أشكال تتطور القوى المنتجة من خلالها إلى قيود تعيق هذه القوى. وعندئذ تبدأ حقبة من الثورة الاجتماعية».
وعلى الرغم من النظرة التشاؤمية إلى تجارب السلطوية العربية، إلا أن العالم العربي كان قد شهد تحولات من ذلك النوع خلال العقود الماضية. في مصر، ومع نجاح السادات في خلع العباءة الناصرية وإطلاق الانفتاح الاقتصادي، بدأت عملية ممتدة من إقصاء الجيش عن الحياة السياسية في مصر. وقد بلغت تلك العملية ذروتها بعد الإصلاح الاقتصادي والسياسي المحدود في النصف الثاني من حقبة مبارك التي غاب فيها الجيش تمامًا عن المشهد السياسي، لصالح التنظيم السياسي للسلطة ممثلًا في الحزب الوطني وعلاقاته مع الرأسمالية المصرية التي رمز إليها الثنائي جمال مبارك وأحمد عز.
وقد شهدت تلك الحقبة تسييسًا مضادًا للرأسمالية المصرية، وتحركت الطبقة الوسطى المصرية التي استفادت بقدر أو بآخر من سياسات جمال مبارك ووالده لإنجاز طموحها السياسي بالفعل في يناير 2011. ولا يختلف الحال كثيرًا في سوريا والجزائر؛ بل إن الوجه السلبي لظاهرة انسحاب المؤسسة العسكرية ظاهريًا من الساحة السياسية مع الانفتاح الاقتصادي في بعض تلك البلدان، هو قدرة تلك المؤسسة لاحقًا على المناورة بادعاء أنها لم تكن منخرطة في فساد النظام، وأنها ستتدخل لإصلاحه لا لإعادة إنتاجه.
هل يمكن للديمقراطية أن تكون بلا ديمقراطيين؟
يؤكد كثير من الباحثين على العوامل التي يؤدي نضجها إلى الانتقال نحو الديمقراطية، كالتحديث الاقتصادي والتصدعات داخل النظام الحاكم، وبالتالي يغيب التأكيد على ضرورة حضور قوى ديمقراطية لديها برنامج ديمقراطي للمعارضة والحكم.
ينتقد عزمي بشارة ذلك الطرح حيث يرى أن الديمقراطية بعد أن أرسيت قواعدها بالفعل، يمكن أن يعاد إنتاجها دون أن تكون هناك قوى ديمقراطية تناضل لحماية قيمها، لكن لا يمكن تأسيس أو إنشاء نظام ديمقراطي دون ديمقراطيين يحملون برنامجًا ديمقراطيًا وطنيًا. ويزيد عدم توافر ظروف النشأة التاريخية، كالتحديث الاقتصادي أو نمو الثقافة السياسية أو الدعم الدولي أو تصدع النظام، من الحاجة إلى وجود تلك القوى الديمقراطية وبرنامجها.
وقد هيمن على الخيال السياسي للقوى الثورية حول العالم فكرة «الحزب الطليعي» التي اقترحها لينين. تقوم فكرة لينين على تنظيم مجموعة من الثوريين المحترفين في تنظيم صغير، لكنه صلب؛ في استلهام لتجربة نادي اليعاقبة، وهم مجموعة من الساسة المثقفين أصحاب الأفكار الثورية الذين نجحوا في السيطرة على المجلس الوطني إبان الثورة الفرنسية وتأسيس حكم ثوري جذري.
واجهت تلك الفكرة إشكاليات كثيرة، أهمها الطابع الديكتاتوري الذي ينتج عن وجود تنظيم من هذا النوع، كما أن مثل هذا التنظيم لا يمكنه بالضرورة أن ينجح في تحريك الجماهير كما حصل في حالتي اليعاقبة والبلاشفة، الحزب الذي أسسه لينين في روسيا. لكن الأطروحة توضح كيف يكون مهمًا للنخب الثورية أن تنظّم نفسها، ليس بالضرورة في تنظيمات صلبة، بل يمكن أن يكون ذلك من خلال أندية نخب أو علاقات شبكية.
تشكل تلك الشبكات نواةً لتأسيس أحزاب سياسية جاهزة لاستلام السلطة عندما تسنح الفرصة لذلك كما في تجربة «العدالة والتنمية» التركي، إذ تمكنت نخبة من الساسة الشباب في حزب «الرفاه التركي» وخارجه، من أصحاب الميول الإسلامية، من تنظيم نفسها سريعًا بعد الأزمة الاقتصادية التركية عام 2001، في حزب سياسي نجح في اقتناص الأغلبية في الانتخابات البرلمانية عام 2003.
وقد ساعدت تلك العلاقات على تجهيز كوادر سياسية لديها من الخبرة والثقافة ما مكّنها من إدارة حقبتها بحنكة وكفاءة أفضل من تجارب أسلافهم بما جنّبهم الصدام مع أجهزة الدولة والتورط في صراعات مع أطراف دولية أو اجتماعية تهدد التجربة الوليدة؛ كما تمكنوا من توسيع علاقاتهم بمجتمعات المال والصحافة في تركيا؛ بحيث توفر لدى تلك النخبة إمكانية استدعاء أكاديمي مرموق لوضع استراتيجية سياسية خارجية للنظام الوليد وتولي حقيبة الخارجية.
تاريخيا طوّر الثوريون الفرنسيون والبلاشفة الروسيون ثقافتهم الثورية وعلاقاتهم الدولية من خلال منتدياتهم قبل قيام الثورة، وفي ظل هيمنة كاملة من النظام الحاكم في بلدانهم، وكان البلاشفة الروسيون في المنفى حين قاموا بذلك، ولم يتمكنوا من العودة إلا بعد قيام الموجة الأولى من الثورة بالفعل بعيداً عنهم، ومن خلال علاقتهم بالألمان.
وتذكر تجربة «حزب النهضة التونسي» في منفى لندن بتجربة البلاشفة الروس من حيث إنها طوّرت نخبة إسلامية ديمقراطية شكّلت فيما بعد قيادة حزب النهضة التونسي التي لم تعد إلى البلاد إلا بعد اندلاع الانتفاضة الثورية بالفعل. وقد شارك راشد الغنوشي رفقة لطفي زيتون وغيرهما من رجال الحركة في منتديات أكاديمية بالجامعات الإنجليزية، واتصلوا بخبراء التحول الديمقراطي فيها، بما أثرى ثقافتهم السياسية التي كانت ضئيلة بحكم تجربتهم المحلية المتواضعة في تونس.
خلال حقبة الانغلاق السياسي بسبب سيطرة النظام الحاكم، تخوض تلك القوى الديمقراطية ما يسميه أنطونيو جرامشي، المنظر والمناضل الإيطالي، ما يسمّيه «حرب مواقع» ضد السلطة. خلال حرب المواقع، تحاول القوى الديمقراطية تحقيق «الهيمنة» وإن بقيت «السلطة» خارجها، وذلك من خلال تحويل أيديولوجيتها وقيمها إلى الثقافة السائدة شعبيًا، وتكون الجماهير جاهزة لاستلام تلك القوى السلطة باعتبارها القوى التي تعبر فعلًا عن طموح الجماهير وقيمها، لا قوى تحوز السلطة بينما تبقى الجماهير ساخطة عليها وجاهزة للإطاحة بها ودعم حكم استبدادي جديد عند أول تعثر تواجهه القوى الديمقراطية في السلطة.
يطلق جرامشي على تلك الحقبة التي لا تتمكن فيها القوى الديمقراطية من القيام بثورة مباشرة ضد السلطة «الثورة السلبية»، فما يحدث هو ثورة بالفعل، لكنها غير ملموسة، وربما تكون أهم في مفاعيلها الثورية من لحظة الثورة المباشرة التي تخرج فيها الجماهير للإطاحة بالنظام.
يطرح إرنستو لاكلو وشانتال موف، منظرًا ما بعد الماركسية، استراتيجية خاصة لتحقيق «الهيمنة» تبدأ في خطوتها الأولى بتحديد المطالب الشعبية في تفردها ومحاولة جمع تلك المطالب، فهنالك مثلًا المطالب السياسية الديمقراطية لدى المثقفين والطلاب وشباب الطبقات الوسطى، وهنالك المطالب الاقتصادية لدى الطبقات الشعبية، وهنالك المطالب الثقافية لدى الأقليات. تجمع القوى الديمقراطية تلك المطالب وتبلورها في شعار (دال فارغ بتعبيرهما) يوحّد تلك المطالب الشعبية في مواجهة السلطة، ويمثل التنظيم الديمقراطي ورموزه تجسيد ذلك التبلور بحيث يصبح بإمكان التنظيم أن يتحدث باسم «الشعب».
في الأرجنتين مثلًا، لعبت «البيرونية» دور الشعار الذي يبلور اتحاد المطالب الشعبية في مواجهة السلطة. فبعد أن انقلب الجيش على الرئيس خوان بيرون عام 1955، مثلت البيرونية شعارًا واسعًا للعديد من المنظمات المعارضة التي عبّرت عن مطالب العدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني، فيما يشبه الدور الذي لعبته الناصرية في مصر لمدة وجيزة بعد وفاة عبد الناصر والثورة السلبية التي قام بها نظام السادات ضد شعارات الحقبة الناصرية والمطالب التي عبّرت عنها.
وتتميز التجربة الإيرانية بقدرة النخب الثورية فيها على بناء شبكات ممتدة بين المنفى والداخل منذ خروج الخميني من إيران بعد انتفاضة 15 يونيو (حزيران) عام 1963. وقد لعبت الأيديولوجية الإسلامية للخيمني ورجاله دور الشعار الذي يبلور المطالب الشعبية بإزاحة الاستبداد الشاهنشاهي وتحقيق العدالة الاجتماعية ومواجهة الإمبريالية الأمريكية والتغريب واستعادة الثقافة الإسلامية. وحّدت تلك الأيديولوجية بين مناضلين من مشارب مختلفة شاركوا جميعًا في الثورة تحت لوائها، وارتضوا بقيادة الخميني الذي تمكن من فرض هيمنته خلال السبعينيات من منفاه العراقي، ثم الباريسي.
لا تحتاج الثورة إلى القوى الديمقراطية المنظمة والمهيمنة من أجل تولي السلطة محل النظام المزاح فحسب، وإنما قبل ذلك إلى التفاوض مع المؤسسة العسكرية بعد الإطاحة بالنظام، وتقديم بدائل دستورية وعملية موثوقة لإدارة المرحلة الانتقالية، ومنع إعادة إنتاج النظام الجديد، ومواجهة الضغوط الإقليمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى