الرأي

هرم نوري وراهبها – حميد

وجدي كامل
كم أثلج صدري وحقق فرحي خبر تدشين بئر (عد حميد) في ذات موقع الحادث المأساوي الذي راح ضحيته شاعرنا التاريخي الفخم محمد الحسن حميد. القدال وثلو من أحباب ومحبي حميد أشرفوا على مشروع حفر البئر. لهم التحية والشكرالجزيل.
هنا أحاول التوثيق لعلاقتي الشخصية بهذا الرجل الصديق والأيقونة الشاعرية الوطنية التي قل أن تتكرر عبر علاقة امتدت لأكثر من ثلاثين عاما

كان صديقاً، حبيباً.
تعارفنا بأواخر السبعينيات ضمن ثلة من الشعراء والرسامين (المطاليق) ، أو أبات خرتايات كما كان يطلق عليهم (الزعيم) الثقافي والروحي لنا عبد الله بولا.
ذلك لقب دال على أن أغلبنا كان بمناسبة أو بدون مناسبة يحمل على ظهره شنطة من جلد أو قماش يدرعها أو يعلقها على كتف لجسد هزيل مضعضع .
تلك حقائب صغيرة غالبا ما كانت تحتوي على كتب أو أوراق أو رسومات لصاحبها المغبون، الغاضب، أو الحالم بتغيير الواقع والأشياء.
نلتقي في المناسبات الثقافية الأدبية والفنية ونشارك بقراءة الشعر وسط إعجاب الطلاب والطالبات المنشغلين ببحث عن التحديث في القصيدة والفكرة وخاصة في اليوبيلات السنوية وليالي التخرج للكليات الجامعية.
نعود بعد نهاية العروض الأدبية أحيانا بالمواصلات التي كانت البكاسي أشهر وأوضح وسائلها في تلك السنوات إلى الخرطوم بحري حيث أقام حميد لفترة بحي الشعبية مع أقربائه وبِنا نشوة من انتصار، ومس من بطولة نشعر أننا قد نلناها.
كنا نعود إلى منازلنا وكأننا قد عدنا من مهمة نضالية أو كفاحية أديناها بكل دقة وحذاقة.
في تلك الأيام ألاحظ كنت أن حميد غالبا ما كان يلف العمامة ويغطي بها وجهه على طريقة تشبه طريقة تغطية الوجه لدى قبيلة الطوارق.
أول ما كان يجذب المرء لشخصية حميد هي البساطة والعفوية التي يتعامل بها معك وكأنك شقيق، أو صديق له منذ الطفولة. يناديك بإلفة ومحنة عجيبتين دون تكلف أو اصطناع باسمك ويقول لك ما في باله دون إخفاء أو تلوين.
في إجازتي، وعندما كنت أعود من موسكو التقينا دونما تخطيط وتركنا للصدف أن تجمعنا إذا ما تزامن مجيئي حضورا له من نوري إلى الخرطوم عندما قامت الانتفاضة وصلت أشعار وسيرة حميد إلى موسكو وبدأ الطلاب هنالك ينتبهون إلى إسمه ويحفظون أشعاره.
أظن أن تلك أيام لمع فيها اسم حميد وصعد نجمه بنحو شعبي خرج به من محيط الأصدقاء والشلل التقدمية، الحاملة للأفكار الاشتراكية إلى كل السودان بمدنه وقراه وحواريه.
حضرت لتحقيق فيلم (أطفال الشمس) والتقيته في مناسبة مع أصدقاء واحتفيت به معهم. حميد منذ تلك الأيام عندما يقرأ أشعاره تشعر وكأنه صاحب طريقة مختلفة في الإلقاء عما سبقوه – ليست هنالك نبرة تمثيل أو استجداء لأخذ الاستجابات من مستمعه أو محاكاة لإلقاء جاري أو متبع من شعراء الشايقية، بل صفاء وهدير يأتيانك وكأنهما يخرجان من لهاة الروح ومطاحن العصب فيأخذان باستقبالك دونما تقسيط أو رحمة. مفردات من العاطفة المتوهجة والكلام اليومي وأفكار من الثورة والاحتجاج. صور شعبية من شخصيات يلتقطها ويوثق لها من بيئته الشايقية وأوصاف ما جالت بخاطر شاعر أو محب لشعر أبناء تلك المنطقة.
غادرت إلى ليبيا وقد تركت حميد شاعرا فارعا فخما وفخيما. بعد سنوات وفي بداية التسعينيات نلتقي في القاهرة التي جاء لها لرؤية ومقابلة الراحل مصطفى سيد أحمد الذي أقام وقتها بعين شمس. التقيت حميد هناك بالشقة التي سكنها مصطفى وعرف عن مغادرتي مرة أخرى لروسيا للتحضيرلدرجة الدكتوراة. القاهرة كانت بتلك الأيام تعج وتمتلئ بالمثقفين والسياسيين والفنانين الهاربين من قبضة النظام بعد أن أثخن ظهورهم وأحوالهم بعذاب وتعذيب غليظ.
كانت القاهرة ولم يكن مركز الدراسات السودانية قد فتح أبوابه بعد، وكانت صحيفة الخرطوم في أوج عطائها بإسهامات طاقمها في تنشيط الحياة السياسية والثقافية ومنهم فيصل محمد صالح والراحل أحمد عبد المكرم.
طلب مني حميد توصيل مبلغ من المال لابنة أخته بأوكرانيا والتقينا بوسط البلد وحملت الوصية وغادرت. تلك المرة كان منتشيا ومتفائلا بما سيأتي مثله مثل غالبية السودانيين الذين أحسنوا ظنا بالتجمع الوطني الديمقراطي كجسم أساسي للمعارضة.
تمر السنوات وأعود إلى الدوحة أواخرعام 93 وألتقي مصطفى والذي كانت معزته لحميد لا تعادلها معزة اللهم إلا ليحيى فضل الله وقاسم أبوزيد والقدال من الشعراء. يسمعني مصطفى أشعارا قام بتلحينها لحميد ومنها عم عبد الرحيم وأغنيات أخريات. أشد رحالي مجددا إلى جامعة قاريونس بليبيا بعد أشهر من إقامتي بالدوحة وبعد عامين أتلقى خبر رحيل مصطفى سيد أحمد.
في عام 96 تعيدني الأقدار مرة أخرى للدوحة وأتفاجأ بوجود حميد الذي أتاها بدعوة من أصدقاء مصطفى هنالك.
اندفعنا هذه المرة تجاه بعضنا البعض بحب ومودة لم تشهدها العلاقة الشخصية بيننا طوال السنوات التي سبقت. عشنا في غرفة واحدة وفرها لنا بدرالدين الأمير وعبد المنعم الفكي في سكن مشترك مع الأخوين بكري العاقب وعبد الله الكابوي بشقة كانت تفتح على ميدان واسع خلف الفردان وسوق الذهب .
هنا تعرفت على حميد عن كثب وتفهمت شخصيته من قرب.
حميد يا سادتي تربال حقيقي يحب البقاء بالبيت بالسروال والقميص العراقي دون أن ينسى تقديم ابتسامته ودفئه عند ملاقاة الجميع- حميد وكما يعرفه من اقترب منه إنسان شعبي من الدرجة الأولى ينحاز للبساطة والبسطاء، يحب المؤانسة بنحو خاص ويتعرف على الآخر بانفتاح تام.
يعرف الأسر وأبنائها وبناتها بأسمائهم ويحب لعب الكوتشينة والكونكان على وجه الخصوص ويحب أن يدخل المطبخ بدون مهارات عالية.
هنا كانت الممازحة تقع والمكاواة بينه وبين عبد المنعم الفكي.
كان يختار دور المشرف على المطبخ أو مدير المطبخ والقيام بمتابعة بكري وبدر الدين أثناء الطبخ ودائما ما يكون له رأي في كميات البصل القليلة التي يقطعها (مساعد الحلة) عبد المنعم فيلاحقه بلهجته الشايقية المميزة وهو من ورائه بالمطبخ: يا منعم يا أخي ما تزيد البصل ده – البصل ده شوية——– أو عبارات أخرى مضمونها أقرب كان إلى المكاواة منه إلى الحقيقة.
عبد المنعم الفكي أسرع الناس استجابة للنعاس. ينام دونما مقدمات. تكون بقربه ولا ترى شيئا غير أنه غرق تماما في النوم وقد أصبح يقصفك بشخير حامي وساخن مستمر. حميد بدهائه ومزاحه جعله يختار أحيانا كرسيا أو مقعدا يمكنه من ملامسة قدم عبد المنعم بباطن قدمه. ما أن يغرق عبد المنعم حتى يبدأ حميد في هز أقدام عبد المنعم بباطن قدمه فيستيقظ مستنكرا: يا حميد ياخي ما تخلينا ننوم. يجيب حميد وبكل تنصل بارد: يا زول هسي الهبشك منو؟ ويكون في تلك اللحظة دارعا لسبحة اللالوب الطويلة على صدره ومغطيا ووجهه بالطاقية الواسعة. وعندما يضبطه عبد المنعم متلبسا في إيقاظه يعترف له حميد بضحك متدفق: يا أخي ما أنا ما قادر أنوم وعايز أوصل منك. أما ذروة الضحك فتحدث عندما يأتي السني دفع الله بخفة دمه ويقضي أمسية من الونسة معنا. كان عندما يحين موعد النوم يقوم السني وعبد المنعم بما لهما من قدرات على الشخير العالي بطرد الجميع بدعوى أنهما يريدان أن يتفرغا لقصف بعضهما البعض.
نقضي النهار لوحدنا في غياب أصحاب البيت الذين يتوزعون على أعمالهم ونستعيد الذكريات وأخبار أصحابنا من المثقفين المهاجرين والنازحين الضاربين أيامها أنحاء الأرض بحثا عن أمكنة جديدة تستقبلهم وفي تلك الأثناء كان حميد يسترق الفرص للذهاب إلى الثلاجة التي لم أكتشف علاقة فتحه المتكرر لها إلا عندما يحضر بدر الدين وعبد المنعم ويبحثان فيها عن الطحنية التي تختفي بفعل فاعل. حميد كان الفاعل بالطبع، يقضي على كل علبة طحنية يأتي بها الإثنين متكتما على فعلته إلى أن يعثرا عليها ضمن النفايات التي بالسلة وهي فارغة تماما.
عندما يحل الليل وبعد زيارات مشتركة نقوم بها تلبية لدعوات عديدة كانت تصله من أصدقاء مشتركين من الأسماء الثقافية والأدبية من المقيمين وقتها بالدوحة وكان من أوضحهم الراحلين النور عثمان أبكر وعلي عبد القيوم كنا نعود إلى الغرفة التي تجمع بيننا. حميد وشخصي بما نتشارك فيه من صفات كعدم حب الإزعاج والثرثرة وقت الهجوع إلى سرير النوم .
لا تجدني كنت من محبي الاستيقاظ لفترة طويلة بعد الاستلقاء على سرير النوم، بينما حميد وكما تقول المفردة الذكية الدالة على معناها في عاميتنا يمكن وصفه ب(السقد). يرتدي سراوله وقميصه العراقي ويتمدد على ظهره وفي يده مسبحة اللالوب الطويلة مع همهمات لا تكاد تميزها تمتد طويلا وطويلا وكأنه بها كان يستدرج القصائد ويمارس تربيته لها بكل صبر وطول بال.
كلانا كان قد قرر البحث عن عمل بالدوحة. بدرالدين الأمير وعبد المنعم اتفقا مع حميد على تدريبه على الطباعة حتى يوسع وبسهل فرصه للحصول واختارا مكتب الأستاذ المحامي حسن ساتي لكي يتدرب فيه حميد على الطباعة. كانا يأخذانه عند الصباح ويأتيان لإرجاعه بعد الظهر وقد أحرز حميد تقدما ملحوظا في سرعة الطباعة. أما شخصي فقد قادني البحث إلى العمل بمنطقة الجميلية بمركز ثقافي تابع لوزارة الشباب والرياضة. انتقلت إلى الجميلية ولكن مهاتفات حميد كانت لا تنقطع. يسألني عن موعد مجيء الأسرة بانتظام خاصة وكان يعرف مصاهرتي لهم بالقبيلة. عندما حضرت الأسرة ذهب معي إلى المطار وذلك يوم أخذ فيه الصور مع محمد وملاذ وأمهما تيسير. ذات اليوم والطائرة التي جاءت بزوجة صديقنا عبدالرحمن أبوساندرة والذي كانت تجمعه علاقة صداقة ومودة مع حميد. بعدها بأيام جاء لزيارتنا رغم بعد المسافة، برفقة بدر الدين الأمير وقضينا ليلة بالغة اللطف.
قرر حميد المغادرة والعودة إلى السودان، وغادرت أنا للإمارات المتحدة. لم نلتقي ثانية إلا لماما وفي أوقات ضيقة وسريعة بالخرطوم منذ ذلك التاريخ حتى رمضان عام 2011 عندما كنت أعمل بجامعة الخرطوم وكمدير متعاون لمركز مالك الثقافي. لبى حميد وبعد مكالمات عديدة دعوة الحضور للدمازين وإحياء ليلة شعرية بالمركز. جاء ومعه الفنان عادل الطيب واستقبلتهما بالميناء البري للدمازين وتوجهنا إلى سكن المركز. لم يتغير حميد في شيء. كان هو كما تركته طيبا بسيطا دافئا. سكنا معا وقضينا ليلة أولى غاية في الإمتاع أحيا بعدها بيوم وبقاعة المركز المغلقة الواسعة ليلة شعرية وغنائية من عادل الطيب كانت كما الحلم.
تقاطر الحضور من شباب وشابات الدمازين والروصيرص وربما من القرى والمناطق المجاورة وجاءوا ليستمعوا لحميد. عندما بدأت الندوة واستهل حميد قراءة قصائده إذا بي أكتشف وغيري من الحضور أن حميد هو الذي جاء ليستمع إلى الشباب والشابات وهم يلقون شعره الذي كانوا يحفظونه عن ظهر قلب.
تجولنا في اليومين التاليين بالدمازين والروصيرص وزار حميد جمع من الناس بالمركز وتم تقديم الدعوات لنا من أصدقائه وأهله بالدمازين لتناول الإفطار الرمضاني. غادر حميد وعادل وبدا أن تلك كانت آخر أنشطة المركز الشعرية عندما اشتعلت الحرب بعد ذلك بأيام وتم دمار وقصف المركز.
جئت إلى الدوحة في العام 2011 وقبل أن أستعدل جلستي عليها ها ذا هو حميد يرميني بصخرة هذه المرة ويسحقني بخبر موته – موته المفاجئ ومغادرته وليل بهيم حالك يتمطى ويتمدد ثقيلا غليظا على بلادنا دون أن يوفر فرصة أخرى، أو موعدا جديدا نضربه أو يضرب لنا لقاء آخر في هذه الحياة المدلهمة، غير المضمونة العواقب.
أتنبأ أن يأتي زمان ولو بعد مائة عام وسينتصب هنالك، في نوري، تمثال ضخم جميل لشاعر أجمل، بالغ البساطة في ملبسه وسحنته رافعا يده لنا وهو يقرأ قصيدة في حب الناس والبلاد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى