الرأي

هذيان نهائي البداية

 

تداعيات

يحيى فضل الله

 

في شتاء إنقاذي بارد برودة حكامه تجاه كل المشكلات اقتلع عبد الصبور المروحة من سقف حجرته الوحيدة وخرج بها إلى دلالة الجمعة وباعها، لتهرب منه الدينارات محولة نفسها إلى أصناف بسيطة داخل كيس بلاستيكي يعلن عن عصر الشختفة.

لم يكن عبد القادر يتوقع أن يحدث ما حدث، كانت عيونه تتابع حركات القط على حائط الجالوص القريب من عنقريبه المهتوك، وكان القط يتحرك على الحائط باسترخاء ويموء بكسل يدل على جوعه ،وعبد القادر يذهب به جوعه إلى أن يتحسس تلك الفكرة وهكذا حدث ما حدث.

هذا المساء احتج برشم علي سلوك اللجنة الشعبية بالحي وامتد هذا الاحتجاج إلى درجة أن استقبلت المنضدة التي يجلس وراءها سكرتير اللجنة الشعبية ضربات قاسية من كف برشم هذا بالإضافة الى صرخاته، كل ما في الأمر هو أن القادم الجديد على أسرة برشم رفضت اللجنة أدراج اسمه على بطاقة التموين بحجة أن الإضافة إضافة المواليد الجدد لابد أن تكون في نهاية العام، الأمر الذي جعل برشم يستعين ببعض الألفاظ البذئية معلناً تدخل اللجنة الشعبية في مواعيد تخلق الأجنة.

وقف عبد القادر ينظر إلى القط، تحرك نحوه ببطء شديد، القط كان يموء مجادلاً جوعه لذلك تمكن عبد القادر من القبض عليه وما هي إلا ساعة حتى تحول فيها ذلك القط الى وجبة دسمة دعي إليها عبد القادر بعض ندمائه الذين تولوا المهام الأخرى التي تستدعيها ولابد منها كي تكون هناك حلة،طبعا دون أن يعرفوا بمصير ذلك القط ومن ذلك اليوم الذي حدث فيه ما حدث، ظل عبد القادر يهتم اهتماما خاصا بالقطط.

عبد الصبور استطاع أن يتخلص من شبابيك حجرته مستغلاً ذلك الصيف الإنقاذي، خلع الشبابيك من الجدران وحملها على كارو يقوده حمار أقل ما يمكن أن يوصف به هو أنه مصاب بسوء تغذية، كما أنك لا تستطيع أن توصف مطلقاً صاحب الحمار، قبل دخوله إلى حيث زحمة الدلالة فاجأه جباة ضرائب شرهين، اشهروا في وجهه إيصالاتهم، لم يستطيع عبد الصبور أن يدفع ضريبة علي شبابيكه تلك التي اقتلعها من جدران حجرته فرجع بها خوفاً من مصادرتها.

أشجار المهوقني فقدت لحالها والسبب في ذلك وصفة عملية تقول أن لحى أشجار المهوقني حين تغلي على النار تستطيع أن تعالج داء الملاريا الذي هو منتشر وله حق المواطنة منذ أزمان بعيدة، ولم تملك بعدها أشجار المهوقني ألا أن تحقق تلك المقولة التي تقول إن (الأشجار تموت واقفة).

أثناء ثورة برشم كان سليمان يضحك في داخله لأن اللجنة الشعبية لم تمهل حذف سبع أوقيات من السكر من بطاقته التموينية شاطبة اسم ابنه بخيت الذي توفي الأسبوع الماضي بخبث من الملاريا.

حين كانت الصحف والإذاعة والتلفزيون مهتمة إلى درجة من التعب في تحليل تفاصيل الغلاء وأصبح ذلك السؤال الذي يقول: (هل هو غلاء ندرة أم غلاء وفرة؟) بمثابة سؤال أزلي تنافس المتشدقون في الإجابة عليه من خلال ندوات ومؤتمرات وسنمارات ومهاترات رسمية وشعبية، حين كان يحدث كل ذلك الذي يحدث كاد متوكل أن يموت وهو يبحث عن ذلك النادر جداً، وأخيرا ذهب إلى أحد الخبراء الذين بفضلهم اكتسبت الأسواق لون السواد، أخذ ذلك الخبير متوكل إلى ركن قصي في زقاق مهجور وقال له.

-(شوف يا متوكل أنا عايز أخدمك

توعدني الموضوع ده يكون

سر بيني وبينك)

-(جدا سرك في بير).

-(يا راجل بير شنو أنت من زمن الآبار بتحفظ سر، مافي زول يعرف يا متوكل، لأنو السرية مهمة جداً وعلي الطلاق لو أنت ما راجل أخو أخوان وتستحق الخدمة)-

-( مشكور، مشكور جداً ربنا يقدرنا على جزاك).-

-( أها خلي بالك معاي وتركب تمشي حي البروش بعد الحارة 63ولا أقول ليك يستحسن تركب تاكسي وتقول لي بتاع التاكسي ينزلك في سوق أرفع سدرك، شوفتا سوق خمس دقائق بس بعدو أها الأكشاك العلي يدك اليمين تخليها، في أكشاك على يدك الشمال تمشي عليها تعد الأكشاك الكشك السادس خلي بالك السادس، آخر كشك وراهو في ميدان بتاع كوره القون القريب ليك تخليهو، تمشي علي القون

التاني ،أها القائم العلي يدك اليمين قصادو طوالي في زقاق تدخل بالزقاق ده تمشي طوالي لحدي ما تلقى قدامك بيت قدامو في تلاتة لساتك خلي بالك ثلاث لساتك، أها تدق الباب حتلقى الراجل العندو الموضوع).

-(اسمو منو؟)-

-(يا أخي عايز بي أسمو شنو؟ ما قلت ليك يا متوكل المسألة دي سرية للغاية المهم أقول لكن عشان أساعدك حاكتب ليك مذكرة هو حيتصرف معاك).

-(كتر خيرك)-

-(بعد ذلك وريهو أنت عايز قدر شنو، وما تتكلم معا هو كتير يا متوكل خلي بالك الموضوع غاية السرية).

وتقود خطوات اللهفة متوكل إلى حيث تلك الأوصاف التي حددها ذلك الخبير.

قلم الحبر السائل من نوع أبوشفاطة أو أبو أمبوبة أو أي نوع من تلك الأقلام التي أصبح وجود أوعيتها تلك الصغيرة بمثابة ميزانية مالية قد تتفوق أحيانا على سعر القلم نفسه، هؤلاء هم أطفال الابتدائية يملأون أقلامهم من محبرة على الدكاكين الصغيرة في الأحياء بمبلغ 50 جنيها،آسف خمسة دينارات.

في الحي الذي يسكنه عبد القادر لوحظ أن القطط بدأت تختفي رويداً رويدا، بينما ظلت فكرة الأمن الغذائي تسيطر على أعضاء المجلس الوطني حتي أنها بتلقائية ماكرة وملتبسة بعض الشئ قد تحولت من كثرة تكرارها الى-الغذاء الأمني-لاسيما أن مسؤولاً كبيراً في الأمن كان نال درجة الدكتوراة في موضوع الأمن الغذائي.

ها هي القرود في جنوب السودان تتقدم المجاهدين في حربهم ضد الكفار كي تفجر الألغام منحازة الى كل ذلك النقاء الديني الذي يشع من وجوه المجاهدين منيراً ظلمة تلك الغابات الحالكة.

عبد الصبور، استطاع أن يتخلص من شبابيكه بأن باعها لأحد النجارين الذي جردها في عقله إلى خشب ونزع عنها كل ذكريات عبد الصبور معها مقابل دينارات لا تسمن ولا تغني من جوع.

تهرب الحافلات من أفواج الطلبة والطالبات الخارجين والخارجات من المدارس في تلك الظهيرة الحارقة لأن نصف قيمة التذكرة التي يدفعها الطلبة والطالبات بمثابة خسارة لا تستطيع مطلقاً أن تنحاز للتعليم الذي فقد مجانيته.

التلفزيون يعلن عن قبر يتكلم في منطقة الدخينات،تناقلت هذا الخبر ومن ثم تنافست حوله نشرات الأخبار والصحف، قبلها كانت هناك صورة في إحدى الصحف تظهر فيها لافتة مكتوب عليها( الدخينات تحذر أمريكا وللمرة الثانية).

قاضي محكمة شوهد وهو يتسول في شارع خفي، كان في حاجة إلى مائة دينار آسف ألف جنيه.

بوليس حركة يفتعل مشكلة في موقف الحافلات أمام بوستة أم درمان كي يتم تغطية المشكلة بعدد من الدينارات.

في مستشفى التجاني الماحي واجه أحد أولئك المجانين الظرفاء عدداً من طالبات الأحفاد اللاتي قد تم تقديمه إليهن كنموذج للدراسة، نظر المجنون في وجوههن وبعقلية حسابية دقيقة قال: (السؤال بي ميتين دينار).

خرج عصام من الحافلة مقذوفاً وبشدة لأنه كان متألفاً مع هروبه من أن يدفع أجرة جارتهم وبنتها كما يفعل عادة السودانيون.

اقتحمت عربة البوليس فناء كلية الأحفاد الجامعية للبنات،وطارد أفراد ما يسمى بالشرطة الشعبية الطالبات اللاتي يلبسن أزياء لا تنتمي الى فكرة التوجه الحضاري، كما أن الطالبات اللاتي أطلقن شعورهن داخل فناء الجامعة قد عوملن معاملة خاصة من أفراد الشرطة الشعبية التي أصبحت مهام الحشمة هي إحدى مهامها الحضارية، وتحركت تلك العربة الدخيلة على فناء الكلية وصرخات الطالبات والسافرات اللواتي على ظهرها تختلط بصيحات الناجيات من تهمة السفور، ومما لا شك فيه أن قسم البوليس الذي وصلت إليه العربة قد ضج بكل ذلك الحضور النهاري الجميل .

عبد الصبور يتخلص من سجادة قديمة ومكواة وتلفزيون معطوب وسريرين وسجادة كانت لجدته من وراءه زوجته، وقبلها كان قد تخلص من دبلة خطوبته مقايضاً لها بكيلو لحم ضان.

تلك الفتاة بت القبايل بت الأصول التي أشارت للعربة الكريسيدا المتهادية في أحد شوارع الخرطوم، الخرطوم بالليل على طريقة (ياعم معاك) كإشارة حميمة، لم تعدهي تلك الفتاة لانها أدمنت انتظار تلك الكريسيدا فخرجت من زمرة ناس “يا عم معاك  وتنوعت على أناملها الرقيقة الدينارات.

اهتزت الأرض من إحدى الساعات الأولى من إحدى صباحات 1993م، أنها الأرض قد زلزل زلزالها، علق أحدهم قائلاً: (ما هي الأرض قد اهتزت فمتى يهتز هؤلاء البشر؟).

نفس ذلك المذياع الذي وصف الزلزال الذي حدث في مصر أنه غضب من الله وصف ذلك الذي حدث في السودان وبدون خجل أنه امتحان من الله.

وصل متوكل الى سوق أرفع سدرك وتابع وصف ذلك الخبير حتى وصل الى حيث ذلك الباب الذي أمامه اللساتك التلاتة، طرق الباب، طرق حتى جاءه ذلك الرجل،أعطاه متوكل المذكرة التي كتبها ذلك الخبير، قرأ الرجل المذكرة ونظر الى متوكل مليا ونظر إليه شذراً وقال:

-(عارف إنو الموضوع ده سري جداً؟).

-(أيوة جداً).

-(طيب عايز كم؟).

-(عايز عشرة).

-(لا عشرة كتيرة خمسة وبس، بعدين القطعة بعشرين دينار).

-(يعني ميتين جنيه؟).

-(عليك نور).

-(طيب ما في مشكلة).

كل الأحياء السكنية في العاصمة القومية تنثر الرماد قبل الغروب على عتبات الأبواب وعلى الحوائط أسفلها في شكل شريط من الرماد، وذلك لأن هناك وحش بستة أرجل ووجه غريب وأيادي أخطبوطية ورأس ذئب وذنب تمساح يتجول داخل العاصمة القومية، يشاهد في أمبدة بينما يكون في نفس الوقت في الدروشاب حتى الأحياء العشوائية تلك التي تختفي فيها الأبواب وعتباتها وتأخذ فيها الحوائط أشكالاً من الكرتون والجوالات لم تنس أن تنثر الرماد كي يحيط بمساحتها المتواضعة، قيل أن الوحش يخاف من رؤية الرماد، الرماد هو الشيء الوحيد الذي يجعل هذا الوحش بعيداً عن الناس، سمع أحد أصحاب المزاج عن هذا الوحش الذي يخاف من الرماد فعلق قائلا: (هو ده أصلو وحش ولا حماد؟) استناداً على المقولة التي تقول: (الرماد كال حماد)،طبعا الخيل تجقلب والشكر لي حماد.

أقسم “عباس الوناس” أنه شاهد فرح ود تكتوك والحنين والخضر وبله يقفون في صف التأشيرة، سأله نديم حميم في مجلسه. (ود تكتوك والخضر والحنين ديل عرفناهم بله ده منو؟).

رد عليه عباس الوناس قائلاً: (مش في مثل بقول يحلنا الحل بله من القيد والمذلة؟، بس بله ده ذاتو).

دخل الرجل الى الداخل وجاء يحمل كيساً في يده، متوكل أعطاه 2000 جنيه يعني ميتين دينار، وقبل أن يعطيه الرجل ذلك الكيس، نظر إليه شذرا وبعيون تحاول أن تكثف ذلك الحذر، وقال الرجل.

-(متوكل خلي بالك الموضوع ده سري جداً لأنو الرغيف ما بنبيعو لأي زول).

عبد الصبور تخلص من كل شئ وها هو أخيراً يبحث عن عتلة لدى الجيران كي يهدم حائط منزله الجانبي لجمع الطوب بين ذلك الركام ويتخلص منه لأن ألف الطوب قد تجاوز العشرة آلاف دينار، يعني مية ألف جنيه، حتما عبد الصبور لا يمكنه أن يعيش بلا طعام فهو ليس نورانياً.

ها قد جاء أولائك الذين يحولون المأتم الى أفراح، الى أعراس،جاءوا الي الحي بعرباتهم وهتافاتهم،لا بأس أنها سيرة عرس الشهيد،اقتحموا صيوان العزاء، دخلوا الى داخل المنزل وأخيراً استطاع المذيع التلفزيوني أن يقتلع زغرودة من أم الشهيد تبعها تشنج من الهتافات، حاجه. آمنة. لم تستطع أن تزغرد على موت ابنها ولكنها بدلاً من ذلك كالت التراب على رأسها الكاشف الأمر الذي جعل المذيع يهرب من أمامها وهي تلاحقه بالشتائم.

بدا وجه “عبد القادر” يتحور تدريجياً حتى أنه أصبح يشبه وجوه القطط التي أكلها بينما تناثرت في الشوارع لافتات ضخمة مكتوب عليها،(من يملك قوته لا يملك قراره)، أشهر “عبد القادر” ابتسامة قططية الأمر الذي جعله حين دخل بسبب فضول رخيص لا يملك القدرة على تنفيذ حتى التجارة البكماء، دخل “عبد القادر” السوبر ماركت وحين نظر الى رجل بدين وعمامته تعلن وبشكل واضح عن وضعه الاقتصادي، كان ذلك الرجل يشتري ويشتري ويشتري بينما “عبد القادر”  ينظر إليه وبتلك الذاكرة القططية ويراه ووجهه قد تحول الى وجه قط ولكنه أليف برغم ذلك بدأ يستأنس فكرته أمام هذا القط الذي أمامه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى