الرأي

هذا الفصلُ المُجحِفُ بين المكانِ والزَّمان لا يُجدي في الأرضِ فتيلا

محمَّد خلف
ظننَّا لفرطِ سذاجةٍ فكريَّة أنَّ من الممكن، لاعتباراتٍ متعلِّقة بتسارُع انقضاء فترة الانتقال، إرجاء موضوع المكان لبعضِ الوقت؛ فقد تركنا مشروعَ المتحفِ مُعلَّقاً في الهواء، وكان في البالِ الذَّهابُ إلى بِلباو، ومن ثمَّ إلى سان سبستيان وغيرنيكا، لنرى كيف ينظرُ أهالي الباسك إلى تاريخِهم القريب، وكيف يحتفونَ بالمكان، وينقلونَه من فضاءٍ بَلقَعٍ إلى مدارٍ مركزيٍّ لهُويَّةٍ إثنيَّة لا تنغلقُ على ذاتِها، إلَّا لِتنفتحَ على الآخَرِ الأمميِّ عبر الاحتفاءِ برموزِ السَّلامِ العالمي: من مارتن لوثر كينغ ونيلسون مانديلا إلى ملالا يوسف وآبي أحمد علي. إلَّا أنَّ جُرذاناً نَشِطَةً كانت تقضمُ أجزاءً مُتعاظِمةً من حِبالِ الزَّمن، فيما أخَذَ توتُّرُ سَهمِه يشتدُّ، ولا ينقطعُ أبداً عنِ الخفقان. فكان انصرافُنا للتَّأمُّلِ في موضوعِ الزَّمان وعلاقتِه الحميمة بتكوُّنِ الذَّاكرةِ الثَّقافيَّة، وصيرورتِه اللَّازمة مُكوِّناً أساسيَّاً للهُويَّةِ الوطنيَّة. غير أنَّ (أحداثَ الثُّلاثاءِ) الفاجعة نبَّهتنا مُجدَّداً وبشكلٍ موجِعٍ إلى خطورةِ ترتيبِ المكان.
لم يخلُ تخطيطُ الخرطوم عبر كلِّ الحقبِ اللَّاحقة لتأسيسِها من التَّوظيفِ السِّياسي. فعند افتتاحِ الجمعيَّة التَّشريعيَّة الأولى في عام 1948، كان الحاكمُ العام البريطانيُّ يجلسُ في وسطِ الطَّاولة الأماميَّة المرتفعة قليلاً عنِ الأرض، وعلى يُمناهُ ويُسراهُ كُلٌّ من السِّكرتيرَيْنِ الإداريِّ والمالي، بينما كان السَّيِّدانِ الجليلانِ (المهديُّ والميرغني) يجلسانِ بتؤدةٍ على جانبَيِ الطَّاولةِ الرَّئيسيَّة. هذا، فيما كان نوَّابُ الشَّعبِ (إدارةٌ أهليَّة، فموظَّفون وتُجَّارٌ وأعيان) يصطفُّون بأدبٍ جمٍّ على مقاعدِ القاعةِ الكبرى، قبل نشوء البرلمان في عام 1954. وإذا تمعَّن النَّاظرُ إلى طُبوغرافيا الشَّريط المُحاذِي لنهرِ النِّيلِ الأزرق الَّذي يحُدُّ الطَّرفَ الشَّماليَّ للعاصمة، الَّتي كانت تتهيَّأُ لإكمالِ مهامِّ الاستقلالِ الوطني، لَوَجَدَ أنَّ المكانَ مُعَدٌّ بنفسِ التَّرتيبِ الَّذي اصطفَّ به الحُكَّامُ وكبارُ الأعيانِ حول الطَّاولة. فَعَلَى جَنَبَتَي قصرِ الحاكم العام، يوجدُ الجناحانِ اللَّذانِ يضُمَّانِ مكاتب السِّكرتيرَيْنِ الإداريِّ والمالي، بينما يوجدُ على الجانبِ الشَّرقيِّ أوقافُ المهدي، الَّتي تشملُ الدَّائرة ودارَ الوثائقِ المركزيَّة (إلى الغربِ من مباني كليَّة الهندسة)؛ وعلى الجانبِ الغربي، جنائنُ الميرغني (إلى الشَّرقِ من “الجِنينة” أو “حديقةِ الحيوان” سابقاً).
وكانتِ الخرطومُ مهيأةً مكانيَّاً لتصريفِ الإدارةِ السِّياسَّيةِ للبلاد، حيث توزَّعت مباني الجهازِ التَّنفيذيِّ على رُقعةٍ محدودة على مَقرُبةٍ من النَّهر، بينما تلاصقت منازلُ كبارِ الموظَّفين على مرمى حجرٍ من مكانِ العمل (إلى الشَّمالِ من مباني كلِّيتي الطِّب والصَّيدلة الحاليَّتَيْن)؛ وبينهما السُّوقُ الرَّئيسيُّ، بما فيه من محلَّاتٍ لبيعِ اللُّحومِ والفاكهةِ والخُضرَوات (“زِنك الخُضار”). وكان الموظَّفُ يصحو باكِراً، ويمضي خلفه مهرولاً مَنْ كان يحملُ سلَّةً (أي “قُفَّةَ الخُضار”) – وهو في الغالبِ صَبيٌّ (ابنُه أو مَنِ استأجره لتصريف الخدمة المنزليَّة) – تُملؤُ بما لذَّ وطابَ من “الزِّنك”؛ فينصرفُ الموظَّفُ إلى مكتبه، ويعودُ الصَّبيُّ إلى المنزل، الَّذي تُديره في الغالبِ سيِّدةٌ فاضلة فاتها قطارُ الزَّمن، ولم يكن بإمكانها تلبية دعوة الأستاذ الشَّاعر الوطنيِّ الكبير، عبيد عبد النُّور: “يَمْ ضفايرْ قودِي الرَّسَنْ”، ولكنَّ بناتِها داخل جدرانِ مدارسِ “الأحفادِ”، ظللنَ يُردِّدنَ “كوبليهاً” وراءَ “كوبليه” بمصاحبةِ الكابلي: “إنَّه صوتي أنا، اِبنةُ النُّورِ أنا؛ إنَّه صوتي أنا، زاده العلمُ سنا … وَلنُحققْ كُلُّنا، ما نُرَجِّي مِن مُنى، نحو سودانٍ سعيد”؛ أمَّا بناتُ بناتِها، فقد انضممنا إلى “كنداكاتِ” البلاد، ليقُدْنَ المسيرةَ، على مَقرُبةٍ من النَّهرِ، في ساحةِ الاعتصام.
ويُقالُ إنَّ النَّاظرَ من عَلٍ – والعُهدةُ على راوٍ على متنِ مروحيَّةٍ حُكوميَّة – يرى الخُرطومَ مُخطَّطةً على شكلِ عَلَمٍ بريطاني (“يونين جاك”)، إمعاناً في إرساءِ تأبيدٍ رمزيٍّ لحُكمِ الإنجليزِ للبلاد؛ ولكنَّ النَّاظِرَ إليها من ذاتِ الارتفاع، في أعقابِ حُكمهم، يرى مداخِلَها الإستراتيجيَّة – أيِ الجُسُورَ – مُحاطةً من كلِّ حَدَبٍ وصَوب بمقرَّاتِ الأسلحة الرئيسيَّة للقوَّاتِ المسلَّحة (في بحري، بين الجِسرَيْن وشرق كبري شمبات؛ وفي أمدرمانَ، غرب الجسر، قبالة أبي سِعِد؛ وفي الخرطومِ، تمدَّدت مباني الرِّئاسة، متاخمةً للمطارِ المدنيِّ جنوباً، ومباني الجامعة شمالاً، على مَقرُبةٍ من “جسر الحديد”)؛ وكأنَّ دَورَها الأساسيَّ ليس هو الدِّفاعُ عن حدودِ البلاد، وإنَّما الانقضاضُ على الحُكمِ المدني، وحراسةُ النِّظامِ العسكريِّ الَّذي انقضَّ عليه من خطرِ الانقلابات المضادَّة. إلَّا أنَّ السِّحرَ قد انقلبَ على السَّاحرِ إبَّانَ فترةِ الاعتصام، فكان لا بدَّ من فَضِّه بأيِّ ثمن، مهما كانتِ الخَسارةُ فادِحةً، وَ”ليحدُث” بعدها “ما يحدُث”.
وعندما تمَّ التَّفكيرُ في تحديثِ المطارِ العسكريِّ وتوسيعِه في نهاية السِّتينيَّاتِ من القرنِ الماضي، لم يحفلِ الوطنيُّونَ الجُدَدُ في أوائلِ العهدِ المايويِّ بمصيرِ مدرسة وادي سيدنا الثَّانويَّة، وكانت تُعَدُّ واحدةً من ثلاثةٍ من أفضل المدارس الثَّانويَّة في البلاد (إلى جانب حنتوب وخور طقَّت)، فتشتَّت فصولُها في ضيافةٍ طويلةِ الأمد على حساب مدارس أمدرمان الحكوميَّة، وتلاشتِ “الدَّاخليَّات” الَّتي كان يعمُرُ أماسيَّها الأستاذُ النُّور عثمان أبَّكر بقصائدِه الفذَّةِ وساكسفونِه الصَّدَّاح، وتفرَّقت مهاجعُ طُلَّابِها على الأحياءِ السَّكنيَّة، من غيرِ حسابٍ للآثارِ الاجتماعيَّة لهذا التَّهجيرِ القسري، ومن غيرِ أن يرصُدَ راصدٌ نتائجَه على المستوى الأكاديمي. وإبَّانَ الحُكمِ العسكريِّ الأوَّل، تمَّ تهجيرٌ أشدُّ شراسةً ومأساويَّةً للنُّوبيِّين؛ ولا عزاءَ للمُهَجَّرينَ أو أسلافِهم اللَّاحقين، مهما كان حجمُ التَّعويضِ ونوعُه. غير أنَّ إنقاذاً ما قد تمَّ لبعضِ الآثارِ بجهدٍ من اليونيسكو وعددٍ من العلماءِ الأفاضل، إضافةً لتوفُّرِ سِفرٍ باللُّغتين، من إعداد الإداريِّ المسؤول، حسن دفع الله، لِيكونَ السِّفرُ عَوناً للمهتمِّين بتقييمِ آثارِ ذلك القرارِ المصيري.
إلَّا أنَّ النَّاظرَ من عَلٍ في هذه اللَّحظاتِ العصيبة من تاريخِ البلاد، سيجدُ صعوبةً كُبرى في تمييزِ المقارِّ الأمنيِّة الَّتي تغلغلت وسطَ الأحياءِ السَّكنيَّة في سوبا، وكافوري، وموقف شندي؛ وفي العديد من الأماكنِ التي سيكشفُ عنها التَّحقيقُ في مُقبِلُ الأيَّام. وما أحداثُ الثُّلاثاءِ تلك إلَّا تنبيهٌ باهِظُ الثَّمنِ على الأخطارِ الَّتي ظلَّت تُحدِقُ بقاطِني الأحياء السَّكنيَّة طيلة ثلاثةِ عقودٍ وإلى تاريخ هذا اليوم؛ فكم من الأفرادِ قد تضرَّرَ في الخفاءِ اِقتياداً أوِ اختطافا، وتعذيباً في الأقبِيَةِ أو تقتيلاً في ظلامِ الزَّنارين؛ فإنِ استُشهِدَ محمَّد الأمين (22 عاماً) وأُختُه رانيا الأمين (19 عاماً) في العلنِ، فإنَّ والدتَهما المكلومة لن يُشفِي غليلَها إقرارُ أعلى السُّلطاتِ بإصابةِ نَجلَيْها برصاصةٍ طائشة. كما أنَّ ترحيلَ المقارِّ الأمنيَّةِ من الأحياءِ السَّكنيَّة لم يعُد وحدُه كافياً، بلِ المطلوبُ منذُ الآنِ إجلاءُ كلِّ الثُّكُناتِ العسكريَّة من العاصمةِ القوميَّة والمدنِ الرَّئيسيَّةِ للبلاد.
فإنْ تحقَّقَ ذلك بوضعِ خُطَّةٍ مدروسة لإكمالِ الإجلاء، فربَّما يتجدَّدُ الأملُ باستعادةِ ساحةِ الاعتصام؛ وإذاً لأسرعنا الخُطى إلى بِلباو (فالحلُّ في بِلبُو، وهو اسمُها بلغةِ الباسك)، لِنتعلَّمَ منها صَنعةَ الاحتفاءِ بالمكان، وفتحَ فضائه للآخَرِ الأُمميِّ، لأجلِ الاقتداءِ برموزِه الدَّاعِيَةِ للسَّلام، تمهيداً لوقفِ الاحتراب، ومشاركةِ ثرواتِ البلاد، وإرساءِ قيمِ التَّصالحِ الوطني؛ وإذاً لأقَمنا متحفاً، على مَدخَلِه كنداكةٌ ترفعُ إصبعاً واثقاً لشمسِ الحرِّيَّة، وترتدي ثوباً أبيضَ ناصعاً لإعلاءِ شأنِ السَّلام، وعلى جانبِ حقيبةِ يدِها الأخرى ميزانٌ ذهبي، تأكيداً لقيمِ العدالةِ المنشودة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى